Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أخطار تنظيم الإنترنت

قوانين الوقاية من الأخطار يجب أن يرافقها اهتمام بحرية التعبير

المدير التنفيذي لشركة "بايت دانس" تشو تسي شو أثناء إدلائه بشاهدته في مبنى الكونغرس بواشنطن في مارس 2023 (رويترز)

ملخص

حتى أفضل الجهود المخلصة للحد من أخطار الإنترنت على الجمهور العام والأطفال، قد تؤول إلى الفشل إذا لم توازن بين التركيز على المحتوى والتعامل مع الجوانب التقنية والحرص على حرية التعبير والحقوق الفردية. ويفترض بأميركا أن تجمع أفضل ما في قوانين أوروبا وبريطانيا وتبقي قوانين الإنترنت خارج التسييس.

في الـ14 من مارس (آذار)، وافق مجلس النواب الأميركي على تشريع، من شأنه في حال تنفيذه، أن يجبر مجموعة "بايت دانس" ByteDance الصينية على بيع موقع "تيك توك" أو مواجهة حظر ذلك الموقع الشعبي للتواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة. وحظي مشروع القانون بموافقة مجلس النواب بسبب الخوف من أن وصول بكين إلى بيانات 170 مليون مستخدم أميركي لـ"تيك توك"، سيضعها في موقع التأثير في ما يحصلون عليه من معلومات. ويبرهن إقرار التشريع على الطبيعية العدائية للعلاقات الأميركية- الصينية، لكنه يسلط الضوء على الاتجاه السائد بين الحكومات الديمقراطية التي تعهدت بتحويل الإنترنت من عالم الأخطار والمعلومات المضللة إلى عالم الأمن والموثوقية.

وعلى رغم الطابع الشديد القسوة لمحاولته حظر منصة رقمية بأكملها، إلا أن ذلك التشريع الأميركي ليس فريداً من نوعه، إذ تسعى دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وعدد من الدول الأخرى أيضاً إلى معالجة الأضرار الناجمة عن استخدام الإنترنت، بما في ذلك تلك التي تهدد سلامة الأطفال العقلية والجسدية والتحريض المدفوع بالكراهية والتدخل في الشؤون والمؤسسات الديمقراطية. في حين أن هذه الأضرار تستدعي الاهتمام التنظيمي، فإن معالجتها يجب أن تتماشى مع المبادئ الديمقراطية. إن قانون حقوق الإنسان، وهو الإطار المطبق في جميع الديمقراطيات، يستلزم، على أقل تقدير، إظهار حد أدنى من الضرورة والتناسب لدى فرض أي قيد، إضافة إلى الدقة والوضوح، بغية الحد من حرية تصرف الدولة في سن قوانين بصورة تعسفية. وفي حين أن إعطاء الأولوية للسلامة والثقة أمر مفهوم، إلا أنهما لوحدهما لا ينجحان إن عرّضا الحقوق الفردية للخطر، بما في ذلك حقوق القاصرين، في حرية التعبير والخصوصية وتكوين الجمعيات والمشاركة العامة. عندما لا تتم صياغة أو تقييد القواعد التنظيمية المتعلقة بالتعبير عبر الإنترنت بعناية، فإنها تخاطر باستغلالها لإسكات الأصوات المعارضة ومراقبة المجتمعات المهمشة وتقييد الوصول إلى المعلومات وتقويض الخصوصية والأمن الشخصي.

وبالاستجابة إلى المطالب العامة لتخليص الإنترنت من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية والمحتوى غير القانوني وغيرها من السلوكات الضارة، يسلك صنّاع السياسة في بروكسل ولندن وواشنطن وغيرها، مساراً قد يفضي إلى الرقابة وإساءة الاستعمال، إذا استخدمته الأيدي الخطأ. وفي بروكسل، يتحدث بعضهم بمن فيهم مؤسسات الاتحاد الأوروبي والمجتمع المدني، عن "اختبار أوربان" الذي يوجب صنّاع القرار بمساءلة أنفسهم عن مدى ارتياحهم مع أي مشروع قانون إذا افتُرِضَ أن من يفرضه سيكون متسلطاً ورقابياً على غرار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أو أمثاله. إنها طريقة ذكية في التفكير بالأشياء، خصوصاً بالنسبة إلى الأميركيين المهتمين باحتمالات الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (الذي يعرف عنه، بصورة تثير القشعريرة، إشارته إلى وسائل الإعلام المستقلة بوصفها أعداء الشعب). بدلاً من توسيع السيطرة الحكومية على حرية التعبير على الإنترنت، يجدر بصناع السياسة التركيز على أنواع من الإجراءات لديها إمكانات أصيلة في الوصول إلى إنترنت أفضل.

رسائل ملتبسة من أوروبا

لقد قطعت أوروبا خطوات كبيرة نحو تحقيق رؤيتها للإنترنت الذي يخدم المصلحة العامة بفاعلية. ولأعوام عدة، على مر السنين، واجه الاتحاد الأوروبي مخاوف في شأن هيمنة عمالقة الـ"سوشيال ميديا"، وأبرزهم شركات أميركية تشمل "غوغل" و"ميتا" و"إكس" (تويتر سابقاً)، بصورة غير مسؤولة على البيئة الأوروبية للمعلومات. وبالطبع، ركزت بروكسل خصوصاً على القضايا المتعلقة بتحكم الشركات في البيانات الشخصية، ما حدا بـ "محكمة العدل الأوروية" عام 2014، إلى إرساء "حق الفرد في أن يُنسى" [أي حق الأفراد في محو ما يختارونه من المعلومات الشخصية عنهم] من بيانات الشركات المعنية على الإنترنت. وفي 2015، أبطلت "محكمة العدل الأوروبية" اتفاقات تتعلق بنقل البيانات الشخصية بين أوروبا وأميركا، وتفاقمت حدة الأمر مع اندلاع أعمال عنف وتطرف في كل من بلجيكا وفرنسا وألمانيا مع مزاعم بأن الاتصالات عبر الإنترنت سهّلت مثل هذه الحوادث. وضغط بعض القادة بمن فيهم سلطات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة وأوروبا، لمصلحة فرض قيود على أدوات الأمن الرقمي بما في ذلك التشفير، فيما أثار آخرون من بينهم المفوضة الأوروبية فيرا يوروفا، جدالاً مستمراً ومتكرراً حول الرغبة في فرض قوانين ضد شركات أميركية في وقت يستمر غياب الرغبة في تأسيس وزارة للحقيقة في بروكسل. وبذلك، تبنّى الاتحاد الأوروبي مقاربة أوسع نطاقاً تجمع قوانين الخصوصية وسياسات التنافس وحماية الإعلام وتنظيم وسائط التواصل الاجتماعي، في سياق التعامل مع ذلك القطاع بأسره.

وفي القلب من مقاربة بروكسل لمسألة المحتوى على الإنترنت، يبرز "قانون الخدمات الرقمية" Digital Services Act، اختصاراً "دي إس أي" DSA. وفي ختام المفاوضات حول "قانون الخدمات الرقمية" في أبريل (نيسان) 2022، أبدت مارغريثا فيستاغر، النائبة التنفيذية لرئيس المفوضية الأوروبية، ابتهاجها بسبب "عودة الديمقراطية". بالنسبة إلى فيستاغر ومناصريها، يُعلي "دي إس أي" السلطة العامة للاتحاد الأوروبي فوق قوة منصات الشركات الخاصة، إذ إنه يعيد صوغ القوانين السارية في الاتحاد الأوروبي التي تتطلب من المنصات حذف المحتوى غير الشرعي حينما يلفت نظرها إلى وجوده. وبطريقته البيروقراطية الخاصة، يذهب "دي إس أي" إلى أبعد من ذلك، إذ يسعى إلى إرساء آلية تعامل المنصات مع الكلام حينما يعترض عليه من دون أن يكون غير قانوني. تشمل هذه الفئة المعلومات المضللة والتهديدات التي تطاول "الخطاب المدني والمجريات الانتخابية" ومعظم المحتوى الموسوم بأذيته للأطفال وأشكالاً عدة من خطاب الكراهية. ويبطل "قانون الخدمات الرقمية" توجيهات معينة أصدرت إلى الشركات، إذ إنه لا يشترط مثلاً إزالة المعلومات المضللة أو المحتوى المجاز قانونياً والمؤذي للأطفال. وبدلاً من ذلك، يفرض "دي إس أي" على المنصات ومحركات البحث الكبرى السعي إلى التبليغ والاجتهاد المتمتع بشفافية ملائمة. ومن شأن خطوة كتلك أن تعطي المفوضية الأوروبية سلطة الإشراف لتقيم مدى الأخطار التي تلقيها تلك الشركات على الجمهور العام.

في المقابل، يتهدد التسييس تلك المقاربة الحريصة التي يتوخاها "قانون الخدمات الرقمية". وقد برز القلق في شأن ذلك عقب هجمات إرهابية شنتها حركة "حماس" ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين أول)، إذ تداولت شبكة الإنترنت تدوينات رقمية تمجد "حماس" أو، بالعكس، تتوعد بانتقام وحشي لإسرائيل. رأى تييري بريتون، المفوض الأوروبي المسؤول عن تنفيذ "دي إس أي"، في ذلك فرصة، وبعث بعد ثلاثة أيام من تلك الهجمات، رسالة إلى إيلون ماسك، المدير التنفيذي لمنصة "إكس"، وبعد ذلك إلى "ميتا" و"تيك توك" و"يوتيوب". كتب بريتون إلى ماسك أنه "بعد الهجمات الإرهابية التي نفذتها "حماس" ضد إسرائيل، لدينا مؤشرات إلى أن منصتك استعملت في نشر محتوى غير قانوني ومعلومات مضللة داخل الاتحاد الأوروبي". وحضّ بريتون المنصات الآنفة الذكر، على التأكد من أنها فعّلت آليات في التعامل مع "معلومات زائفة أو مضللة بوضوح"، وطالب "بردّ سريع ودقيق وكامل" على رسائله، خلال 24 ساعة. وأعطى بريتون الانطباع بأنه يتصرف بالتوافق مع "قانون الخدمات الرقمية"، لكنه ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير باتخاذ مقاربة متنمرة بدا أنها تفترض سلفاً أن المنصات تعزز الخطاب غير الشرعي. في الواقع، لا يفوض "دي إس أي" المفوضية الأوروبية بالعمل، إلا بعد إجرائها مراجعة تقنية متأنية.  

على رغم شرعية التركيز على الأمان والثقة، إلا أنهما لا يستطيعان النجاح لوحدهما إن هددا الحقوق الفردية

 

كانت مخاوف بريتون مبررة، إذ حطم ماسك فرق منصة "إكس" المتخصصة في سياسة التعامل مع المحتوى والجمهور، وروج لخطاب الكراهية والمعلومات المضللة. كما أن "فيسبوك" يملك تاريخاً في خذلان المجتمعات حيال التحريض المتصل بالإبادة العرقية. وكثيراً ما دين "يوتيوب" بإتاحته المجال أمام أسوأ أنواع المعلومات المضللة في اكتساب التأثير والانتشار السريع على منصته. حتى مع ذلك كله، جاء رد سريع على رسائل بريتون على يد تحالف دولي يضم قرابة 30 مؤسسة رائدة في مجال حرية التعبير، بما في ذلك "البند 19" [إشارة إلى بند يتعلق بحرية التعبير في الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية]، و"الحقوق الرقمية الأوروبية" و"أكسس ناو" [تجمع خبراء يهتمون بحرية التعبير والحقوق الرقمية على الإنترنت]. أبدى التحالف اهتمامه باختيار بريتون مقاربة تُعلي الحاجة السياسية فوق ما يطالب به "دي إس أي" من التقييم العمومي الحذر. وجادلت تلك المنظمات بأن بريتون خلط بين المحتوى غير الشرعي والمعلومات المضللة مع الإشارة إلى أن الأخيرة ليست عرضة للإزالة التلقائية، بل يتوجب إخضاعها بدلاً من ذلك، إلى تقييم يتناول الأخطار والشفافية. ويفرض "قانون الخدمات الرقمية" من منصات الـ"سوشيال ميديا" أن تتصرف بصورة تتناسب مع ما تواجهه، مع إبقاء عينها مفتوحة على حماية الحقوق الأساسية، وليس التصرف بتسرع في أوقات الأزمات، أو بناءً على مزاعم غير موثقة. ووفق رؤية تلك المنظمات، قد يحمل إلحاح بريتون المنصات على إزالة أدلة عن جرائم حرب وتقييد النقاش العام المشروع وفرض رقابة على أصوات مهمشة. وذكّرت تلك الأمور المنظمات المشار إليها آنفاً، بتصرفات الحكومات المتسلطة التي تكرر بانتظام مطالبتها بإزالة المحتوى بدلاً من تبني الإجراءات التي يعد "دي إس أي" بها.

سلطت تصرفات بريتون الضوء على إمكان التلاعب السياسي بالبيروقراطية المنظمة بعناية في "قانون الخدمات الرقمية". وهذا مصدر قلق كبير ومشروع. وفي مثال بارز في يوليو (تموز) 2023، وخلال أعمال شغب في فرنسا أعقبت إطلاق الشرطة النار على شاب، هدد بريتون أيضاً باستعمال "قانون الخدمات الرقمية" ضد منصات التواصل الاجتماعي إن استمرت في نشر "محتوى خطاب الكراهية". وأفاد بأن المفوضية الأوروبية قد تفرض غرامات مالية وحتى "حظراً، على عمل [المنصات] في مناطقنا"، مما يشكل خطوات تتجاوز سلطاته وتقع خارج إطار ما يغطيه "دي إس أي".

إن المعايير القانونية الأوروبية والسلطات القضائية، إلى جانب التزام موظفي المفوضية ضمان نجاح "قانون الخدمات الأوروبية"، قد تكون بمثابة ضوابط ضد احتمالات التلاعب السياسي. ومع ذلك، فإن هذا الوضع الحالي قد لا يكون مستداماً. هناك احتمال أن تقود نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو (حزيران) المقبل إلى تحولات في القيادة يتعارض أصحابها مع حرية التعبير على الإنترنت. ويمكن للمفوضين الجدد تبني التكتيكات السياسية التي اتبعها بريتون في شأن إنفاذ الـ "دي إس أي"، وربما استخدام أساليب مماثلة لممارسة الضغط على شركات وسائل التواصل الاجتماعي. في الواقع، ربما أدت تصرفات بريتون إلى تطبيع تسييس القضايا، وربما صرف الانتباه عن الإجراءات الدقيقة، وإن كانت فنية، لتقييم أخطار "قانون الخدمات الرقمية"وإمكان وصول الباحثين إلى المعلومات وكذلك الشفافية.

أنقذوا الأطفال

فيما تركز أوروبا انتباهها على الجوانب الإجرائية، فإن تركيز المملكة المتحدة ينصب في المقام الأول على المحتوى عبر الإنترنت من خلال قانون السلامة على الإنترنت الذي صدر في أكتوبر 2023. ويضع هذا التشريع أضرار الإنترنت في مقدمة اهتماماتها. بدأت الحكومة البريطانية محادثات حول تشريعات السلامة عبر الإنترنت عام 2017، وتعهدت باستمرار "بجعل بريطانيا المكان الأكثر أماناً للاتصال بالإنترنت". وعلى رغم سعي "قانون الأمان على الشبكة" إلى التعامل مع أخطار عدة في الإنترنت تتضمن المحتوى الإرهابي والتحرش، إلا أن التهديد الذي يتعرض له الأطفال هو الذي حصل على الدعم الأكثر لهذا التشريع. ويرجع ذلك جزئياً إلى الاهتمام العام بذلك الموضوع والذي أعقب انتحار اليافعة مولي راسل عام 2017، وكانت آنذاك في سن الـ14. في 2022، خلُص تحقيق إلى أن وفاتها تأثرت بتقديم صور رومانسية لعمليات إيذاء الذات، وكذلك الحال بالنسبة إلى تثبيط السعي إلى الحصول على دعم من الآخرين. وآنذاك، استجابت ميتشيل دونلان، وزيرة الدولة للعلوم والابتكار والتكنولوجيا، بأن أعلنت "نحن مدينون لعائلة مولي بأن نبذل قصارى جهدنا للحيلولة دون حدوث ذلك لآخرين. إن قانون الأمان على الشبكة يمثل ردنا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبصورة جزئية، جاء إقرار البرلمان البريطاني لذلك القانون بأثر من السعي إلى تحقيق ذلك الهدف [المتضمن في تصريح دونلان]. ولذا، ظهر تشريع ضخم يأمر شركات التكنولوجيا بالسعي إلى "تحديد وتخفيف وإدارة أخطار الضرر" الناشئة عن المحتوى، سواء كان غير قانوني مثل الذي يتضمن ترويجاً للإرهاب، أو يحمل أذية، خصوصاً للأطفال. ويسند القانون إلى المكتب الحكومي "أوفكوم" Ofcom، المنظم المستقل للاتصالات البريطانية، بعض المسائل الأشد صعوبة في ذلك المضمار. ثمة اشتراط يتميز بعدم وضوح بَيِّن، يطلب من الشركات العمل ضد المحتوى أنّى توافرت "أرضية معقولة للاستنتاج" بأنه قد يكون غير قانوني. وبحسب ما وثّق على نطاق واسع، غالباً ما تكافح شركات وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الإشراف المستمر على المحتوى بسبب الحجم الهائل وصعوبة تقييم نية المستخدم الذي ولّده [يفترض القانون أن ذلك يشكل جزءاً من المهمات المتوجبة على شركات التواصل الرقمي الاجتماعي]. وبحسب ملاحظة من المحلل القانوني غراهام سميث، إن إضافة مزيد من الضغوط على تلك المنصات ربما يتسبب ببساطة بلجوئها إلى إزالة المحتوى الإشكالي، ولو من باب احتمال أنه كذلك. ومثلاً، حدث ذلك مع نقاشات قوية عن حرب غزة، أو أي عدد من العناوين الإشكالية الأخرى، لتجنب الجدل أو العقوبات.

أحد المخاوف الكبيرة في ما يتعلق بالتشريع البريطاني هو تعريفه الواسع للمحتوى الضار بالأطفال والذي قد يدفع الشركات إلى حظر معلومات صحية مشروعة على غرار تلك المتصلة بالهوية الجنسية أو الصحة الإنجابية، حتى لو شكّل محتوى محورياً في التطور أثناء الطفولة، وكذلك الحال بالنسبة إلى من يدرسها. أكثر من ذلك، يطلب القانون من الشركات التحقق من أعمار المستخدمين، وتلك عملية صعبة ربما ترغم المستخدم على تقديم نوع من التعريف الرسمي أو إثباتات عن العمر المدرجة في سجل التأمينات، ربما عبر استعمال قياسات بيومترية. ويمثّل ذلك الأمر مساحة معقدة تشمل مجموعة من المقاربات المتنوعة التي يجدر بها أن تحظى بانتباه مكتب "أوفكوم" لأن القانون لا يحدد بالضبط الكيفية التي يتوجب على الشركات اتباعها في ذلك الصدد. ومع ذلك، كما لاحظت هيئة تنظيم خصوصية البيانات الفرنسية، فإن خطط التحقق من العمر تثير مخاوف خطرة تتعلق بالخصوصية لجميع المستخدمين، لأنها تتضمن عادة جمع البيانات الشخصية وتمكين تتبع النشاط عبر الإنترنت. علاوة على ذلك، غالباً ما تفشل هذه المخططات في تحقيق أهدافها المقصودة، وبدلاً من ذلك تخلق حواجز جديدة أمام وصول الجميع إلى المعلومات، وليس الأطفال فقط.

يمنح "قانون الأمان على الشبكة" مكتب "أوفكوم" القدرة على إجبار منصات وسائل التواصل الاجتماعي على تحديد وإزالة محتوى الاعتداء الجنسي على الأطفال أو المحتوى الإرهابي المنشور علناً. ليس من إشكالية في ذلك، لأن مثل هذه المواد لا مكان لها على الإنترنت. وعلى نحو خاص، إن المحتوى المتضمن إساءة جنسية للأطفال هو خسيس وغير قانوني، وثمة أدوات موضوعة بتصرف الجمهور العام مصممة لتسهيل تقصي ذلك المحتوى واكتشافه وإزالته. في المقابل، يعطي القانون نفسه مكتب "أوفكوم" سلطة تخوله أن يأمر الشركات باستعمال التقنية في تفحص المحتوى الخصوصي لكل مستخدم على حدة، في ما يتعلق بمواد الإساءة الجنسية إلى الأطفال. قد يبدو ذلك مشروعاً لكن النهوض بذلك يتطلب مراقبة الاتصالات الخصوصية مع المخاطرة بالإخلال بالتشفير الذي يعتبر حيوياً بالنسبة إلى أمن الإنترنت بصورة عامة [تعمل شركات كثيرة على تشفير طرفي الاتصالات عبر الإنترنت كالحال مع البريد الإلكتروني عبر تطبيق "بروتون" Proton Mail أو مكالمات "واتساب"، وتعتبر ذلك من ضرورات حماية خصوصية الاتصالات الفردية]. إذا فرض ذلك الشرط، فربما يفتح الباب أمام نوع من المراقبة سيكون بالضبط الأداة التي ترغب فيها الأنظمة الاستبدادية التي تسعى إلى الوصول لاتصالات المعارضين. إن التداعيات المحتملة على الأمن الرقمي خطرة للغاية لدرجة أن قادة شركتي "سيغنال" و"واتساب" اللتين تعتبران رياديتين في خدمات تبادل الرسائل بواسطة التشفير، أشاروا إلى احتمال مغادرتهم السوق البريطانية إذا أُقِرَّ ذلك البند من التشريع. وبالنسبة إليهما وإلى أولئك الذين يستعملون تلك الخدمات، يشكل التشفير ضماناً للخصوصية والأمن، خصوصاً في مواجهة الاختراق الإجرامي والتدخل الاستبدادي. من دون التشفير، يبرز إمكان أن تغدو الاتصالات كلها عرضة للتجسس. وحتى الآن، يبدو "أوفكوم" مستمراً في النأي عن فرض مطالب كتلك. وفي المقابل، يستمر ذلك البند التشريعي من دون تبدل، مما يترك كثيرين في حيرة إزاء مستقبل الأمن الرقمي في المملكة المتحدة.

تشريعات للحروب الثقافية

في واشنطن، اقترح عضوا مجلس الشيوخ الأميركي ريتشارد بلومنثال ومارشا بلاكبيرن مشروع "قانون سلامة الأطفال على الإنترنت" Kids Online Safety Act، اختصاراً "كوزا"، في فبراير (شباط) من عام 2022. ويمزج القانون عناصر من مقاربات الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وعقب تعديله الأحدث المتعلق بالتعامل مع بعض الانتقادات [التي وجهت إليه سابقاً]، يحظى القانون الآن بالدعم من عدد كافٍ في مجلس الشيوخ كي يُعطى أفضل حظوظه بأن يقرّ. وللتأكد من ذلك، يحوي "كوزا" بعض العناصر الإيجابية المصممة لحماية الأطفال على الشبكة. مثلاً، يتضمن قوانين قوية للحد من الإعلانات الموجهة للقاصرين، وكذلك يستعير بعض ابتكارات "قانون الخدمات الرقمية" بغية دعم الشفافية في عمل منصات التواصل الاجتماعي. وكذلك يستعيض "كوزا" عن مقاربات معينة في التثبت من العمر، بأنه قد يطلب من "المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا" الحكومي، وضع بدائل [عن تلك المقاربات]، وطرح اقتراحات عن أساليب أكثر ملائمة. 

ومع ذلك، في جوهر الأمر، ينظر "كوزا" إلى الإنترنت بوصفها تهديداً يجب حماية الصغار منه، إذ لا يطور مشروع القانون نظرية محددة عن كيفية تعزيز شبكة إنترنت لمصلحة للأطفال ودعمها وتأمينها، مع كل ما تحويه من معلومات واسعة. ونتيجة لذلك، فإن النقاد، بما في ذلك "مؤسسة الحدود الإلكترونية" و"اتحاد الحريات المدنية الأميركي" وعدد من المدافعين عن مجتمعات المثليين، يجادلون بحق بأن "كوزا" ربما يقوض الحقوق الأوسع في التعبير والوصول إلى المعلومات والخصوصية. على سبيل المثال، قد يشترط القانون على المنصات اتخاذ إجراءات منطقية في الوقاية حيال مجموعة من الأضرار، أو تخفيف تأثيرها، مما يدفع تلك المنصات ربما إلى تنقية المحتوى الذي قد يوصف بأنه مسيء للصغار. وبذلك، سيحضر خطر دائم بحدوث منازعات قضائية مما سيعطي الشركات حافزاً لإزالة بعض المحتوى غير المرغوب فيه، حتى لو كان قانونياً. ويمكن التخفيف من هذا الخطر إذا تم تكليف هيئات موثوقة أو محايدة، على غرار "أوفكوم". لكن، لا ينيط "كوزا" أمر الإنفاذ بـ"لجنة التجارة الفيدرالية" فحسب، بل أيضاً، في بعض الأحكام، بالمدعين العامين في الولايات، وهؤلاء هم رسميون منتخبون باتوا خلال الأعوام الأخيرة أكثر انتظاماً في الانقسام الحزبي ضمن النقاشات السياسية الوطنية. لذا، سيؤول الأمر إلى تولي السياسيين في كل ولاية، الإمساك بزمام سلطة إنفاذ قانون "كوزا". عندما ذكرت السيناتورة بلاكبيرن أن مشروع القانون الذي قدمته يسعى إلى تحقيق هدف "حماية الأطفال القاصرين من المتحولين جنسياً ضمن المعايير والمعتقدات الثقافية المحددة السائدة في المجتمع"، فهي لم تفعل كثيراً لتطمئن أولئك الذين يخشون تنفيذه بصورة مسيّسة. وحذر السيناتور رون وايدن الذي عرف طويلاً بدفاعه البطولي عن الخصوصية وحرية التعبير على الإنترنت من أن "كوزا" قد يتيح لمسؤولي الولايات "شن حرب على المحتوى المتعلق بالإنجاب والهويات الجنسية غير التقليدية". إن أوكل أمر إنفاذ قانون "كوزا" إلى مسؤولين حكوميين  منضوين بشدة في معارك ثقافية وأيديولوجية، فسيفضي ذلك القانون إلى وضعية يُحرم فيها اليافعون من الوصول إلى معلومات ربما تكون حيوية في تطورهم وأفكارهم.

وحتى بعيداً من "كوزا"، ثمة تدخل عميق في شأن تنظيم الإنترنت، تنهض به الولايات والمحاكم وهواة المماحكات القانونية من الأفراد. على سبيل المثال، تبنت ولايتا تكساس وفلوريدا قوانين عام 2022، تهدف إلى تقييد قدرة المنصات على الإشراف على المحتوى الذي ترغب في إزالته من منصاتها. وكذلك فرضت الولايتان قوانين تحظر على المنصات "فرض رقابة" على المحتوى السياسي. وتمنع ولاية تكساس الشركات من الإشراف وتعديل التعبير الذي يصنّف بأنه قانوني، حتى لو انتهك شروط خدمات المنصات (مثل المحتوى المتعلق بالكراهية والمعلومات المضللة والتحرش). وتعطي ولاية تكساس سلطة شرعية لأفعال يأتي بها مستخدمون ومدعون عامون. ويفرض القانون في ولاية فلوريدا عقوبات صارمة على الشركات التي "تُخرج من منصاتها"، مرشحين سياسيين، ضمن أفعال أخرى. وكذلك توكل الولاية سلطة إنفاذ القانون إلى أفراد وأقسام رسمية في السلطة التنفيذية، مع إمكان منح تعويضات عن حدوث ضرر مؤثر في كل حالة، إلى أفراد رفعوا دعاوى على الشركات. وبذلك، أوجدت الولايتان آليات قد يستند إليها سياسيون في الطلب من الشركات إزالة محتوى معين أو الإبقاء عليه. لذا، يأتي الأمر بمثابة استدعاء منتظم للرقابة الحكومية على التعبير. وفي حين أن القانونين يخضعان حالياً للمراجعة من قبل المحكمة العليا، مما قد يبطلهما، فمن المرجح أن يستمر الاتجاه نحو مشاركة الحكومة في تنظيم حرية التعبير.

الطريق الخطأ

لا شك في أن منصات الإنترنت تواجه لحظة مساءلة طال انتظارها. وعلى رغم الأضرار التي قد تسببها أو تسهلها، تظل هذه المنصات مصادر حيوية للمعلومات والمناقشة للأفراد من جميع الأعمار في الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم. وسط المحادثات المحيطة بسلامة المنصات، من المهم إدراك أن هذه القوانين تستهدف في المقام الأول خطاب المستخدم، وليس نماذج الأعمال التي تستند إليها المنصات وتعطيها سطوتها في بيئات المعلومات ضمن النظم الديمقراطية. يتمثل الخطر الكامن في المبادرات التي تركز على السلامة في أنها قد تؤدي عن غير قصد إلى تقويض أو إعاقة قيمة التعبير عبر الإنترنت والوصول إلى المعلومات. وفي مسعى لتجنب ذلك الفشل، يحل الاتحاد الأوروبي في الطليعة ويتقدم على الآخرين بأشواط، إذ تبنت بروكسل مقاربة تجمع إلى حد كبير التركيز على الآليات [في العمل التقني للمنصات] وتتمحور حول الشفافية، وترتكز على تقييم الأخطار، والتي، على رغم الضغط على المنصات لحملها على التصرف بصورة مسؤولة، تمتنع عموماً عن تمكين الحكومات من المطالبة بإزالة محتوى قانوني محدد. وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعل تصرفات بريتون السياسية تثير مخاوف كبيرة بين مؤيدي "قانون الخدمات الرقمية"، إذ لم يكتفِ بتعريض الشركات والمجتمعات المدنية المؤيدة للشفافية وإجراءات تقييم الأخطار للخطر فحسب، بل إنه يشكل أيضاً سابقة للآخرين، ربما بدوافع خفية، لاستغلال "دي أس أي" كسلاح لتحقيق أهدافهم السياسية.

ليست الصورة قاتمة تماماً، إذ ربما يفضي رد الفعل ضد الأخطار التي حركها بريتون، إلى وضع "قانون الخدمات الرقمية" على قدمين ثابتتين مع تقدم المفوضية الأوروبية في تنفيذه، وكذلك قد يعطي القانون دفعاً للمنصات كي تتبنى عالمياً مقاربة تتضمن الشفافية وممارسات تقييم الأخطار. في المملكة المتحدة، تشير الجهود المبكرة لـ"أوفكوم" في تنفيذ "قانون السلامة على الإنترنت" إلى الوعي بأخطار التشدد القانوني في التنفيذ، لذا قد يسعى "أوفكوم" إلى تفسير القوانين بطرق تعزز الوصول إلى المعلومات وتزيد من لفت انتباه المنصات إلى أضرار الإنترنت. وربما تضع المحكمة العليا الأميركية كوابح على تسييس قوانين التعبير على الشبكة في الولايات وعلى المستوى الفيدرالي، مما قد يجبر المشرعين على التفكير بطرق جديدة في تحميل المسؤولية إلى المنصات.

وفي غياب ضمانات إضافية، لا يزال هناك خطر مستمر من أن تكون لوائح المحتوى التي تفرضها الحكومة مجرد أدوات جديدة للكيانات ذات الدوافع السياسية لقمع التعبير الذي لا تتفق معه. وبدلاً من إعطاء الأولوية للمخاوف المتعلقة بالسلامة فحسب، ينبغي للحكومات أن تركز على تنفيذ الإصلاحات التي تحمي حقوق الأفراد، تحديداً الخصوصية وحرية التعبير، في حين تعمل أيضا على الحد من نفوذ المنصات الرئيسة وهيمنتها. ويجب توجيه الجهود نحو تعزيز التنوع في الاختيارات ومصادر المعلومات عبر الإنترنت وقابلية التشغيل البيني للمنصة لتمكين المستخدمين وتقوية الوصول إلى إعلام مستقل، خصوصاً في وسائط الإعلام المقدمة كخدمة عامة للجمهور [بمعنى أنها ليست شركات خاصة].

وبالتأكيد، يستحق الاتحاد الأوروبي الثناء على كونه أول من تحرك لمصلحة مقاربة واسعة وشاملة تتعامل مع أضرار الإنترنت. ولكن بالنسبة إلى الآخرين الذين تخلفوا كثيراً عن الركب، فلا بد من تقديم حزمة حقيقية من الإصلاحات. وفي الحد الأدنى، ينبغي لها أن تتضمن تنظيماً شاملاً للخصوصية يتناول نموذج العمل في صناعة المنصات، عبر حظر الشركات من تتبع سلوكات المستخدمين، وتسويق خياراتهم [أي بيع المعلومات عن سلوكات المستخدمين إلى شركات تقدم سلعاً أو خدمات أو غيرها]، والبيع بالجملة إلى وسطاء البيانات. من الضروري أيضاً تبني سياسة صحيحة وخلّاقة عن منع الاحتكار بهدف التفاعل مع المخاوف المشروعة في شأن عمل الشركات على تقييد خيارات الجمهور، وتقليص الاستقلالية والتغذية المحمومة للميل إلى التعوّد في سلوكات أفراده. وأخيراً، يجب إرساء تقييم شفاف للأخطار التي تهدد حقوق الإنسان، وإيجاد إشراف عمومي على تلك التشريعات بهدف الحد من التحريض السياسي، وكذلك تقوية المجتمع المدني والهيئات المستقلة. إذا اقتصر التركيز على المحتوى وحده مع كل ما يتضمنه ذلك من مساومات، سيغدو السباق الحالي نحو إحكام السيطرة على أخطار الإنترنت، أكثر ميلاً إلى الفشل في حل تلك المشكلات، ومن الممكن أن يقود إلى أشكال جديدة من الهيمنة المسيسة على حرية التعبير.

مترجم عن فورين أفيرز مارس/ أبريل  2024

البروفيسور ديفيد كاي أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا، إرفين. شغل سابقاً منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة عن حرية التعبير. وألف كتاباً بعنوان "شرطة الكلام، الصراع من أجل الهيمنة على الإنترنت".

المزيد من آراء