Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نار النزوح تنتقل مسرحيا من ألمانيا النازيّة إلى شواطئ لبنان

كارولين حاتم تقتبس رواية آنّا سيغرز "ترانزيت" وتحوّل الهجرة السورية إلى حالة عالمية إنسانية

النازح السوري في مسرحية "ترانزيت طرابلس" (ملف المسرحية)

ملخص

اقتبست المخرجة اللبنانية كارولين حاتم، رواية الكاتبة الألمانية آنا سيغرز "ترانزيت"، التي كانت كتبتها خلال الحكم النازي في ثلاثينيات القرن العشرين، وما نجم عنه من أعمال تهجير وهروب ونزوح. واختارت حاتم عنوان "ترانزيت طرابلس" لعرضها المسرحي الذي يتطرق إلى احوال الهروب والهجرة والنزوح التي يعيشها مواطنون سوريون لجأوا إلى الشواطئ اللبنانية في محاولة ركوب البحر نحو البلدان الغربية.

تقتبس المخرجة اللبنانية كارولين حاتم مسرحيتها الجديدة "ترانزيت طرابلس" (مسرح المدينة) من رواية الكاتبة الألمانيّة آنّا سيغرز (1900-1983). وسيغرز كاتبة ألمانيّة نالت شهادة الدكتوراه في علوم اللغة وتاريخ الفن وانتسبت عضواً في الحزب الشيوعيّ الألمانيّ آنذاك، لكنها اضطرت إلى الهرب من ألمانيا النازيّة إلى فرنسا سنة 1933 ثمّ إلى المكسيك سنة 1941. ومن الجدير ذكره أن صاحبة "ثورة الصيادين في سانت باربرا" وصاحبة "الصليب السابع" تعبّر في أعمالها عن الصعوبات والتحدّيات التي تواجهها طبقة المهمّشين في المجتمع، هي الكاتبة اليساريّة المناضلة. وكانت سيغرز كتبت روايتها بعنوان "ترانزيت" في بداية أربعينيّات القرن العشرين حول مآسي النزوح من ألمانيا النازيّة، انطلاقاً من تجربتها الخاصّة مع النزوح والرحيل والهرب.

تحوّل سيغرز في روايتها التي صدرت العام 1944 تجربة نزوحها الخاصّة إلى تجربة فرار جماعيّة عاشها ألمانيّون كثر وأوروبّيّون كثر اضطرّوا إلى الهرب من نظام هتلر عبر فرنسا وتحديداً مرفأ مارسيليا. لكن حالة الهجرة والنزوح تنطبق على الشرق أيضاً. فتقيم كارولين حاتم موازاةً ذكيّة وشيّقة بين الهرب الألماني من النظام النازي الوحشي عبر مارسيليا، وبين الهرب السوريّ من النظام البعثي عبر طرابلس لبنان. يصبح الهرب من ديكتاتورية عربيّة أو ديكتاتورية غربيّة واحداً، والخوف واحداً، والنزوح واحداً، والغربة واحدة، على الرغم من مرور عقود طويلة بين الحدثين.

هرب في الزمان والمكان

لا بد من الإشارة إلى أنّها ليست هذه تجربة كارولين حاتم الأولى في الاقتباس والكتابة، فهي قدّمت سابقاً عملاً مسرحيّاً مقتبساً من نصّ "العادلون" للفرنسيّ ألبير كامو (1913- 1960)، وها هي تعيد الرهان على الأعمال المقتبسة إنّما مع عمل ألمانيّ الأصل يتناول مصير طبقة البائسين الهاربين في الزمان والمكان.


تعيد كارولين حاتم التوقّف عند حالة بشريّة وسطيّة انتقاليّة، لا هي حالة وصول ولا هي حالة مغادرة، بل هي حالة "ترانزيت" بين الاثنين، حالة استرجاع واستذكار وانتظار ونظر في الذات المتألّمة المغرّبة. وعبر مسرح شبه فارغ سوى من بعض المنصّات الخشبيّة وبعض السفن الورقيّة المرميّة على الأرض كيفما اتّفق، وعبر قنّينة عرق كانت في النصّ الأصليّ قنّينة نبيذ، يتحوّل المسرح إلى جلسة عودة إلى الوراء للعلاج من الحزن والبؤس والوحدة. حالة إنسانيّة عرفها البشر منذ قيام الدول والحروب والفتوحات، هي حالة النزوح والهرب والتغريب التي تصيب مساكين هذه الأرض وتحوّلهم إلى ضحايا حروب الكبار.

يجد الجمهور نفسه إزاء شخصيّة شاب عالق في الوسط. بين شاطئين وعالمين ومكانين وزمانين. شخصيّة شاب يعيش في غرفته بانتظار هربه إلى مكان آخر، ليسمع فجأة خبر غرق المركب الذي كانت عليه حبيبته. يقع الخبر على الشاب موقع الصاعقة، فيحاول أن يعرف إن كانت حبيبته قد غرقت فعلاً. نراه يشعر بالصدمة والحيرة والأمل. نراه يتساءل، يتخيّل، يتذكّر، يتألّم، يستعيد ماضيه ويعيشه من جديد ليتحرّر منه ويخرج منه ويجد إجوبة على أسئلته.

يتحوّل شاطئ طرابلس سنة 2024 إلى شاطئ هرب وتحرّر من الماضي والغربة والمخاوف، يتحوّل بحر طرابلس إلى أفق انتقال ونقطة حرّيّة وأمان وابتعاد عن جحيم نار الوطن، تماماً كما كان بحر مارسيليا سنة 1941 بحر هرب إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة والمكسيك، بالنسبة إلى أهل الدول الأوروبيّة الهاربين من نير النازيّة والاستبداد.

مونولوغ الهرب

تختار كارولين حاتم أن تقدّم أحوال الهرب والنزوح والوجع عبر مونولوغ يجسّده شاب واحد. شاب عشرينيّ، مرهف، موهوب، خفيف الظلّ، ينتقل من لهجة إلى أخرى، ومن شخصيّة إلى أخرى، ومن ذكرى إلى أخرى، بحنكة وثقة ومهارة. يستعيد الشاب أمام أعين الجمهور قصص هربه ووجعه وحبّه وتقمّصه شخصيّة أديب ذائع الصيت، ليتمكّن من الهرب من مآسيه. يستعيد ماضيه وحاضره ومخاوفه وهواجسه في محاولة هائلة للهرب من الماضي عبر شرب العرق والتحدّث. سيل من الكلام يوضح مكنونات صدر هذا الشاب العشرينيّ الذي يلتهب بنار الغربة والوحدة.


يؤدي الممثل اللبنانيّ جوزيف عقيقي دور النازح السوريّ، بقوّة ومهارة ويجسّد قصص الوجع والحبّ والنزوح والخسارة. يفتتح عقيقي نصّه بخوفه وهلعه على حبيبته من أن يكون قد ابتلعها البحر ويراهن طيلة العرض على هربه هو وإمكان نجاتها.

يقول جوزيف عقيقي في حواري معه حول دوره في هذا العمل: "كان التحدّي الأكبر بالنسبة لكارولين حاتم هو تحويل النصّ الروائيّ إلى عمل مسرحيّ. كان التحدّي في تحريك النصّ وبثّ الحياة والحركة فيه. فنحن إزاء قصّة حبّ ثلاثيّة الأطراف فيها ما فيها من تشابك هويّات، لكنّنا اخترنا الجوهر الذي رأته كارولين حاتم مناسباً. أمّا البطل الذي أؤدّي دوره، فهو إنسان يتجرّد من كلّ شيء رويداً رويداً، من هويّته ووطنه وماله وممتلكاته وإيمانه بالحياة وأمله وكرامته وجسده وملابسه حتّى. الشيء الوحيد المهمّ الذي يبقى فيه هو حبّ الحرّيّة والحياة."

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف عقيقي واصفاً عمليّة النظر في الذات لتحريرها واكتشافها: "يستعيد هذا الشاب ما مرّ به في نوع من "الفحص الذاتي". فيتذكّر نفسه وحياته وتاريخه وكأنّه يمرّ بالنار ليتطهّر، ليبلغ النور والحرّيّة ويكتشف نفسه. نراه يشرب ويتكلّم ويتجرّد من كلّ أعبائه ليعيش الحاضر. الترانزيت هو الحاضر وباتت الشخصيّة لا تريد شيئاً سوى الحاضر. إنّ هذه الشخصيّة هي شخصيّة الإنسان الذي لا يركض هرباً من الحرب أو الفقر ولا هرباً إلى الأمان. إنّما هو يريد أن يكون، فقط".

يمتدّ العرض حوالى ساعة وعشرين دقيقة، ويبدو متكاملاً محكم الوضع من حيث عناصره المختلفة. فأوّلاً، الديكور بسيط يقوم على طاولات وخشبات مرميّة على خشبة المسرح لتكون ملعب الممثّل، يجلس فيه أو يقفز عنه. يتحوّل الديكور عبر أداء الممثّل، فهو مرّة بحر، ومرّة شاطئ، ومرّة مقهى، ومرّة محطّة سفر. ديكور متعدد، جغرافيّاً ومكانيّاً بحسب حاجة الممثّل إليه وتنقّله داخله.

وانطلاقا من النصّ الذي يبدو رمزيّاً مؤثّراً متماسكاً معبّراً، والذي اقتبسته كارولين حاتم وعدّلت فيه ما يجب تعديله بحنكة ووعي، جاء التمثيل متماسكاً،  فنشاهد عقيقي يتنقّل بسهولة على المسرح بين اللهجات والمواقف والمشاعر. أمّا الموسيقى البديعة فهي عنصر أساسيّ مكمّل للكلام والسرد بحضور الموسيقيّ ربيع جبيلي على المسرح في زاوية قرب الممثل. تملأ الموسيقى الصمت على الخشبة ببراعة، ترافقها فيها فيديوهات للمدينة والبحر والمرأة (تصوير كارولين حاتم ووليد عبد النور وجوزيف عقيقي). فتتحوّل المسرحيّة عبر هذه العناصر مجتمعة إلى قصّة مليئة بالتفاصيل، وتتحوّل شخصيّة الشاب النازح الغريب إلى حكواتيّ يخبر قصص بشريّة بأسرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة