Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإجهاض بين الدستور والدين والجريمة

يظل من أكثر الموضوعات إثارة للجدل في الشرق والغرب والاغتصاب والعلاقات غير الشرعية والاتجار بالجنس ثالوث مرتبط به عربياً

سرية الإجهاض في الدول التي تجرّمه أمر معروف للجميع (رويترز)

ملخص

في الشرق والغرب يظل الإجهاض من أكثر الموضوعات إثارة للجدل، تارة بسبب التحريم الديني، وأخرى بسبب العادات والتقاليد التي تجعله جريمة وثالثة لاعتبارات أخلاقية حيث الإجهاض يعني القتل

جرى العرف أن ينص الدستور، أي دستور، على حريات وحقوق الإنسان الأساسية والبديهية، التي لا يمكن للبشر أن يعيشوا من دونها: حرية التعبير والمعتقد والفكر والمساواة والتجمع والتنقل والعمل والصحة والتعليم وغيرها حقوق متعارف عليها، وينص عليها عديد من دساتير العالم. أما أن ينص دستور على الحق في الإجهاض، فهذا أمر غريب، لكن أصبح حديث الجميع قبل أيام.

قبل أيام، أصبح الدستور الفرنسي يدرج الحق في الإجهاض ضمن قائمة الحقوق، وذلك في تصويت تاريخي في الجمعية الوطنية. اللافت أن 30 نائباً فقط اعترضوا على التشريع الجديد من أصل 500 نائب شاركوا في التصويت.

حق فرنسي

حتى قبل تحوله إلى حق دستوري منصوص عليه، كان غالب المشرعين الفرنسيين لا يرون ضرورة في اتخاذ هذه الخطوة، لأن النساء الفرنسيات كان يحق لهن اتخاذ قرار الإجهاض. هذا الحق تحقق في عام 1975 بعد سنوات من الشد والجذب بين المؤيدين والمعارضين. في ذلك العام، أصبح من حق المرأة الفرنسية الإجهاض شرط ألا تكون فترة الحمل قد تجاوزت 12 أسبوعاً.

واستمر الجدل والضغط، لكن هذه المرة لم يكن على الحق، لكن على الحد الأقصى لفترة الحمل التي لا يسمح بعدها بالإجهاض. وفي عام 2022، جرى تمديد الفترة إلى 14 بدلاً من 12 أسبوعاً. ومن عوامل التعديل كانت النظرة الواقعية لما يحدث فعلياً، إذ كانت النساء الراغبات في إنهاء حملهن بعد انقضاء 12 أسبوعاً يسافرن إلى بلجيكا أو سويسرا أو غيرها من الدول الأكثر ليونة لإجراء الإجهاض.

تقف فرنسا بتلك الخطة على طرف نقيض من الولايات المتحدة الأميركية، التي سارت في الاتجاه المعاكس. ففي عام 2022 أصدرت المحكمة الأميركية العليا قراراً بإلغاء الحق الدستوري في الإجهاض. وبذلك، انتهى نصف قرن من الحماية الدستورية للإجهاض الذي ظل أحد أكثر "الحقوق" إثارة للانقسام في المجتمع الأميركي.

وعلى رغم أن قرار المحكمة في أميركا لا يعني تجريم الإجهاض أو منعه، فقط العودة للنظام المعمول به قبل عام 1973 وقت سمح بالإجهاض، والعودة لحق كل ولاية في منعه أو السماح به، فإنه يعني أن كل هذه العقود من التظاهر وحجج المنع ومبررات السماح وسرديات الحقوق وممانعات الحق في الحياة لم تؤد إلى توافق حول الإجهاض، منحاً أو منعاً.

"توافق" و"إجهاض"

"توافق" و"إجهاض" كلمتان متنافرتان. العالم ينقسم أمام الفكرة. البعض ترتعد أوصاله وتستنفر عروق غضبه ما إن تذكر كلمة "إجهاض". والبعض الآخر يعتبره حقاً بديهياً، سواء من باب حق المرأة في التحكم في جسدها وحياتها، أو لأن المرأة الساعية إلى الإجهاض ستحصل عليه بطريقة أو بأخرى، فإما الطريقة آمنة في مجتمع لا يجرمه، أو خطرة لأنها ستجرى بصورة غير قانونية، حيث لا حق للمريض، أو محاسبة للطبيب حال حدوث خطأ ما، لأنها تجري سراً.

سرية الإجهاض في الدول المجرمة له أمر معروف للجميع. أسماء أطباء يجرون العملية يجري تداولها سراً. وقيمة العملية شبه معروفة بحسب تسعيرة تتدخل فيها عوامل كثيرة، أبرزها المستوى المادي والاجتماعي للمريضة، أو لمن سيقوم بالسداد، وبحسب مقدار الخوف واللهفة والقلق لدى السيدة، لا سيما في حالات العلاقات غير الشرعية فكلما زاد الخوف زادت التسعيرة.

 

وبين "تسعيرة" الإجهاض في الدول التي تمنعه، ومجانيته وإدراجه ضمن خدمات التأمين الصحي الحكومي في دول تسمح به، فجوة واسعة. محتويات الفجوة ليست اختلافات ثقافية وتباينات في حجم التداخل والتشابك بين الدين والقوانين فقط، لكنها تباينات فارقة في أسباب الإجهاض أيضاً.

الاغتصاب والعلاقات غير الشرعية والاتجار بالجنس ثالوث مرتبط بالإجهاض عربياً، ومن ثم الوصمة الملازمة له. وقد أسهمت الدراما بصورة كبيرة في تجذير متلازمة "العاهرة" أو "الساقطة" و"عيادة طبيب الإجهاض الجرم"، التي عادة تنتهي نهاية سعيدة بموت "العاهرة" في أثناء العملية، والقبض على المجرم ليكونا عبرة لمن تسول لها نفسها الإتيان بعمل قد يدفعها إلى حمل ينبغي إنهاؤه.

الإجهاض المتعمد هو إنهاء الحمل بتدخل ما. وهو في بعض الدول عملية إجرامية من ألفها إلى يائها، وفي أخرى مجرد التلويح به وصمة وعار، وفي غيرها حاجة من حاجات الرعاية الصحية الضرورية.

ومن الضروري معرفة أن عمليات الإجهاض تجري طوال الوقت، بغض النظر عما ينص عليه القانون، وما يجري تفسيره بناءً على نصوص دينية. وطبقاً لتقارير "معهد غاتماتشر" (جمعية خيرية أميركية تعنى بالصحة الإنجابية)، فإن معدلات الإجهاض في البلدان التي تحظره كلياً أو تسمح به في الحالات التي تستدعي إنقاذ حياة المرأة فقط تبلغ 37 لكل 1000 شخص، بينما تبلغ 34 لكل 1000 شخص في البلدان التي تسمح بالإجهاض على نطاق واسع.

تدخل مأمون

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الإجهاض "تدخل مأمون" من تدخلات الرعاية الصحية حال جرى إجراؤه بأحد الأساليب، التي توصي بها المنظمة، وتتناسب مع مدة الحمل، وعلى يد شخص يمتلك المهارات اللازمة.

لكن عندما تواجه النساء في حالة الحمل غير المقصود حواجز تحول دون حصولهن على رعاية مأمونة ومناسبة التوقيت وميسورة الكلفة ومتاحة جغرافياً ومحترمة وغير تمييزية في مجال الإجهاض، فإنهن غالباً يضطررن إلى الإجهاض غير المأمون.

وتشير منظمة العفو الدولية إلى أن الحكومات حين تفرض قيوداً صارمة على الإجهاض، فإنها تضطر النساء للجوء إلى عمليات إجهاض سرية غير آمنة، لا سيما للنساء اللاتي لا يستطعن السفر للحصول على الخدمة في دولة لا تجرمه، وهو ما لا يؤدي إلى تقليص عمليات الإجهاض، بل تقليص إجراءات السلامة المتبعة في إجراء عمليات الإجهاض، بمعنى آخر، تجريم الإجهاض لا يمنعه، لكن يجعله أكثر خطورة.

 

ومن الخطورة إلى التحريم الديني، حيث تدور الغالبية المطلقة من الآراء الدينية في تناول الإجهاض حول الحلال والحرام، وتصنيف العلاقة التي نجم عنها الحمل، وأحياناً إصابة ما في الجنين. دار الإفتاء المصرية تقول إن الفقهاء اتفقوا على أنه "إذا بلغ عمر الجنين في بطن أمه 120 يوماً، وهي مدة نفخ الروح فيه، فإنه لا يجوز إسقاط الجنين، ويحرم الإجهاض قطعاً في هذه الحالة لأنه يعتبر قتلاً للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق".

وتضيف الدار أن الفقهاء اختلفوا في حكم الإجهاض إذا لم يبلغ عمر الجنين في بطن أمه 120 يوماً. بعضهم قال بالحرمة، وبعضهم قال بالكراهة مطلقاً، وبعضهم قال بالإباحة لعذر فقط، وبعضهم قال بالإباحة مطلقاً.

ولخصت دار الإفتاء رأيها في أنه من "الراجح والمختار للفتوى أن الإجهاض لا يجوز قبل نفخ الروح إلا إذا كانت النطفة من زنى، أو كان ذلك لعذر".

وبحسب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإن "الإجهاض يحول الأم إلى قاتلة إن فعلت ذلك عمداً، وإن وفاق الزوج على إجراء عملية الإجهاض يكون شريكاً في الجريمة". وتستثني الكنيسة الحالات التي يكون فيها الحمل أو الولادة خطراً على حياة الأم.

البعض يجادل بأن حياة الأم ليست فقط قياس مدى الخطورة، التي تتعرض لها بسبب الحمل والولادة، أو إصابة الجنين بمرض ما، لكنها توقيت مناسب واستعداد نفسي ومادي للقادم الجديد وغيرها من العوامل التي قد تدفع بعض النساء إلى عدم الرغبة في استمرار الحمل.

في الشرق والغرب يظل الإجهاض من أكثر الموضوعات إثارة للجدل، تارة بسبب التحريم الديني، وأخرى بسبب العادات والتقاليد التي تجعل من الإجهاض جريمة أو تعدها الوجه الآخر للعلاقات خارج إطار الزواج في المجتمعات المحافظة، وثالثة لاعتبارات أخلاقية حيث الإجهاض يعني القتل.

إجهاض غير مضمون

بلغة الأرقام، وبحسب منظمة الصحة العالمية، واحدة من كل أربع حالات حمل تنتهي بالإجهاض سنوياً. وعلى رغم ذلك تظل الخدمات الآمنة طبياً وقانونياً في مجال الإجهاض غير مضمونة. كما أن النقاش حول الإجهاض في كثير من دول العالم تختلط فيه المعلومات الصحيحة بالخاطئة بالأعراف الرافضة.

يشار إلى أن الأعراف الرافضة الإجهاض موجودة في عديد من دول العالم، شرقاً وغرباً. بولندا، على سبيل المثال لا يسمح بالإجهاض إلا في حالتي الاغتصاب أو تعرض الأم للخطر.

الأجواء الرافضة فكرة الإجهاض، بغض النظر عن الأسباب سمة تجمع كل الدول العربية. وإحدى الجهات القليلة التي تتطرق إلى هذا الموضوع الشائك عربياً هي صندوق الأمم المتحدة للسكان. في تقرير نادر صدر عام 2018 عن الحمل غير المرغوب فيه والإجهاض في العالم العربي، اعتبر الإجهاض غير الآمن في الدول العربية تحدياً مهملاً في منظومة الصحة العامة، وهو ما يشكل عبئاً على الأفراد، والأسرة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

 

ويصف التقرير وعنوانه "معالجة حالات الحمل غير المرغوب فيه في المنطقة العربية" معدلات الحمل غير المقصود في المنطقة العربية بـ"المرتفعة"، حيث ثلثها يحدث بين نساء متزوجات وفي سن الإنجاب. هؤلاء النساء لا يرغبن في مزيد من الأطفال أو في تأخير الإنجاب، لكن حاجتهن إلى تنظيم الأسرة والحمل غير ملباة.

في منطقتنا، حالتان بين كل خمس حالات حمل غير مقصودتين. ونصف حالات الحمل غير المقصود ينتهي بالإجهاض، وهذا معدل مرتفع، ويمكن الوقاية منه من المنبع، وذلك بالتوسع في تقديم خدمات تنظيم الأسرة.

ويشير التقرير إلى أن غالب النساء في المنطقة العربية حين يقررن الخضوع لعملية إجهاض يضطررن للجوء إلى عمليات سرية بالغة الخطورة. التقديرات تشير إلى أن مليوني حالة إجهاض حدثت سنوياً بين عام 2010 و2014 في دول شمال أفريقيا وحدها، وأكثر من ثلثي هذه العمليات كانت غير آمنة.

وتعريف غير آمنة يعني أن الأشخاص الذين أجروا الإجهاض ينقصهم التدريب اللازم، وأن العملية جرت في أوضاع طبية من دون المستوى. وهذه النسب تزيد ثلاثة أضعاف على النسب العالمية. ويضاف إلى ذلك أن 10 في المئة من وفيات الأمهات في المنطقة العربية تحدث بسبب عمليات إجهاض غير آمن.

الإجهاض السري

ويعلل التقرير افتقاد الغالبية العظمى من عمليات الإجهاض التي تجرى في المنطقة العربية معايير الأمان بعدم قانونية الإجهاض مما يدفع النساء إلى الإجهاض السري. كما أن النسبة الكبرى من معدلات الحمل غير المرغوب فيه تحدث في دول عربية تعاني أنظمتها الصحية الضعف وقلة الإمكانات التي تتيح سبل تنظيم الأسرة وكذلك القدرة على التعامل مع مضاعفات الإجهاض غير الآمن.

وهناك عوامل أخرى مثل الوصمة المحيطة بالصحة الإنجابية، لا سيما للنساء غير المتزوجات، إضافة إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الهشة للنساء.

ويلفت التقرير كذلك إلى خصوصية عربية أخرى، وهي كون المنطقة مركزاً لأكبر عدد من اللاجئين والنازحين في العالم، وهو الوضع الآخذ في التفاقم مع الصراعات المستمرة، التي تدفع الملايين إلى الهرب من بيوتهم، وافتقاد أقل القليل مما كان متاحاً من خدمات الصحة الإنجابية.

ويشير التقرير إلى هشاشة أوضاع النساء والفتيات العربيات في أحوال اللجوء والنزوح، لا سيما مع احتمالات التعرض للعنف الجنسي وكذلك زواج الأطفال. وعلى رغم تركز حديث المساعدات والخدمات الطارئة في أماكن الصراع والنزوح على المأوى والطعام والشراب والسكن الآمن ومياه الشرب، وعلى رغم ما يبدو من أن الإشارة إلى خدمات الصحة الإنجابية تبدو رفاهية، فإنها ليست كذلك.

من دون صراعات

ومن دون صراعات، يعيش ما يقارب ثلث سكان المنطقة في 11 دولة لا تسمح بالإجهاض أو السماح به فقط لإنقاذ حياة المرأة مثل السودان، الذي يسمح به في حالة حدوث الحمل نتيجة الاغتصاب. وفي دول مثل جزر القمر وجيبوتي وموريتانيا يعتبر الإجهاض غير قانوني في كل الأحوال من دون استثناءات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي قطر والإمارات العربية المتحدة يسمح به فقط في حال اعتلال الجنين. وفي العراق يسمح به في حالتي اعتلال الجنين أو اعتلال الصحة العقلية للمرأة. أما مصر والأردن والسعودية فيسمح بالإجهاض "لأسباب صحية" من دون تحديد. وباستثناء تونس، يوجد نصوص تجرم الإجهاض بصورة أو بأخرى في كل القوانين العربية.

يعرف البعض أن الحديث عن حرية المرأة في التحكم في جسدها أمر أقرب ما يكون إلى العار أو الخيال أو الانحلال أو كل ما سبق. وينفي البعض الآخر ذلك معتبراً حرية المرأة مكفولة، لكن في الحدود التي تضعها تفسيرات رجال الدين، وتوجهات المشرعين في القوانين، واختيارات المجتمع للأعراف والعادات والتقاليد، وقرارات الأنظمة السياسية، وإجراءات الموازنات الاقتصادية، وأولويات الرجال في حياتها من زوج وأب وابن وعم وخال وجد، وكل ما عدا ذلك، فهو حرية مطلقة لها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات