Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أطفال التوحد العرب يسددون فواتير الحروب صحيا

تزخر المنطقة بتوليفة من الصراعات وآثار ما بعد الحروب جعلت مرضى التوحد تراجعوا كثيراً على قائمة أولويات الاهتمام

ما زال التوحد من الأمراض غير المطروقة بصورة كافية في المنطقة العربية (غيتي)

ملخص

الحروب الدائرة في المنطقة العربية، على رأسها غزة والسودان واليمن، والهزات الارتدادية للصراعات في ليبيا وسوريا، ويضاف إليها مخيمات النازحين واللاجئين من دولة صراع إلى أخرى مجاورة أو في دولة صراع، جميعها يمثل عبئاً رهيباً على مرضى التوحد وذويهم

اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد هذا العام يتخذ من شعار "الانتقال من مرحلة البقاء إلى الازدهار" عنواناً له. العالم هذا العام في احتفائه بالمصابين بالتوحد وأسرهم في الثاني من أبريل (نيسان) يركز على أصوات وتجارب الأفراد المصابين بالتوحد أنفسهم.

التوحد، هذه الحالة العصبية التي تبقى مع صاحبها مدى الحياة تظهر في مرحلة الطفولة المبكرة، ولا تفرق بين المصابين بناءً على الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وبصورة رئيسة، يتفرد التوحد بين الاضطرابات العصبية بتفاعلاته الاجتماعية الفريدة، وطرق المريض غير العادية للتعلم، والاهتمام البالغ بموضوعات محددة، والميل إلى الأعمال الروتينية، إضافة إلى مواجهته صعوبات في الاتصالات التقليدية.

الغرب والشرق سواء

ويعتقد البعض أن معدلات الإصابة بالتوحد في الغرب تفوق مثيلتها في الشرق. لكن الحقيقة، بحسب منظمة الصحة العالمية، هي أن المعدل في جميع مناطق العالم متقارب ومرتفع. لكن اكتشافه، وعدم الممانعة أو المقاومة في طلب الكشف والتشخيص الطبيين يختلف من مكان إلى آخر. وإضافة إلى متطلباته المادية الكثيرة، ما زال التوحد ومرضاه يرزحون تحت وطأة وصمة العار والتمييز بصورة كبيرة.

اليوم الأممي هذا العام يشهد تعاوناً مع "معهد التنوع العصبي"، وهي منظمة أسستها وتقودها الأقليات العصبية، ويديرها متطوعون، ومقرها سويسرا، وتعمل في 23 دولة. والأقليات العصبية هي أي مجموعة من الأشخاص، مثل المصابين بالتوحد، تختلف عن بقية السكان من حيث السمات السلوكية ووظيفة الدماغ. هذه المنظمة تهدف إلى تمثيل وتمكين الأقليات العصبية، وتعزيز القبول والتقدير والتعليم والدعوة إلى تكافؤ الفرص وحقوق الإنسان.

في اليوم العالمي للتوحد هذا العام تقف مبادئ مثل تكافؤ الفرص وحقوق الإنسان، وحتى مبدأ "الأقليات العصبية"، في تناقض فج مع أوضاع الأشخاص المصابين بالتوحد وأسرهم ومقدمي الرعاية لهم في أماكن الصراع والحروب العربية.

من دون صراعات أو حروب ما زال التوحد من الأمراض غير المطروقة بصورة كافية في المنطقة العربية. الاكتشاف نادر، التشخيص صعب، التعامل بعد التشخيص بالغ الصعوبة. ويكفي أن نقطة الانطلاق المطلوبة للتعامل مع أي مرض، ألا وهي معرفة حجم انتشاره، إما غائبة تماماً أو تقريبية بناءً على دراسات محدودة في بعض الدول العربية.

قدرت أعداد الأطفال العرب المصابين بالتوحد في عام 2014 نحو 2.6 مليون طفل (تقدير غير رسمي)، ويضاف إلى ذلك الكبار المصابون بالتوحد، الذين لا توجد أرقام تقديرية لهم.

 

اعتقاد شائع مفاده أن معدل الإصابة باضطراب طيف التوحد أقل في الدول العربية مقارنة بدول العالم الأول، إلا أن دراسة منشورة في دورية "التوحد واضطرابات النمو" أجريت على المصابين بالتوحد وأسرهم في الدول والثقافات العربية، تدعو إلى النظر إلى العوامل الثقافية العربية التي ربما تلعب دوراً في التعرف إلى الأعراض وطريقة التعامل معها.

وتشير الدراسة إلى درجة أكبر من التسامح مع التصرفات الغريبة للصغار في الأسر العربية مقارنة بالمجتمعات الغربية. والمقصود هو أن هناك ميلاً عربياً لتعليل تصرفات الصغار الغريبة بأنها شقاوة، أو قلة نوم، أو جوع، وليست سبباً يدعو إلى القلق أو اللجوء إلى طبيب أو تشخيص. وحتى في حالات التشخيص، وعلى رغم صعوبته فإن نقص إمكانات التعامل والتأهيل في غالب الدول العربية يضع التوحد العربي في خانة بالغة الصعوبة، ويضع ذوي الشخص أو الطفل المصاب بالتوحد في خانة أكثر صعوبة.

وتتحول الصعوبة إلى محنة حقيقية حين يواجه الأهل أو مقدمو الرعاية ولو حتى الأسرية أنفسهم في وضع صراع أو حرب، حيث المسؤولية تتحول إلى كابوس، وتحدي البقاء على قيد الحياة يصبح مجموعة من التحديات.

مسؤولو الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان دائماً يحذرون أن الأشخاص ذوي الإعاقة، لا سيما الأطفال، يواجهون أخطاراً وتحديات جسيمة خلال الفرار وحماية أنفسهم والوصول إلى الضرورات في حالات النزاع المسلح. انهيار الخدمات والبنى التحتية تعد ضرراً مضاعفاً لهؤلاء، وغالباً يتحولون إلى أشخاص غير مرئيين عند تقديم المساعدة. وتحث الأمم المتحدة الدول على اتخاذ تدابير وقائية والعمل على ضمان إدماج ومساعدة ذوي الإعاقة في تلك المناطق.

التحذير الأممي المصحوب بدعوة إلى المراعاة الإضافية يحمل مفارقة مبكية في اليوم العالمي للتوحد هذا العام. هذا العام، تزخر المنطقة العربية بتوليفة من الصراعات والحروب وآثار ما بعد الحروب، منها ما يطفئ شمعته العاشرة هذا العام، حيث الحرب في اليمن، ومنها من سيستهل عامه الثاني بكل ثقة ومن دون ملامح تهدئة أو توافق، حيث الحرب في السودان، ومنها من يلملم جراح سنوات طويلة من الحرب الأهلية ولم يتعاف بعد مثل سوريا وليبيا، ومنها ما اندلع في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ليتحول إلى إحدى أشرس الحروب غير المتكافئة في تاريخ المنطقة والعالم.

التوحد في حرب القطاع

حرب القطاع المتأججة في غزة تقتل وتصيب وتشرد وتهجر. لكن المصابين بالتوحد من أهل غزة كباراً أو أطفالاً يجرعون وأسرهم مرارة الصراع مرتين. كثير في المنطقة العربية يعاني نقص تشخيص وإمكانات لرعاية الأشخاص، لا سيما الأطفال المصابون بالتوحد. أعدادهم كانت تقدر بين 3 و5 آلاف حالة، طبقاً لتقديرات غير رسمية. ومراكز الرعاية والتأهيل أو الفصول الملحقة بالمدارس المخصصة لهم، على قلتها، خرج جميعها من الخدمة، وخرج معها أي أمل في تقديم المعونة للصغار في ظل الحرب التي لا ترحم الأصحاء، فما بالك بالضعفاء!

أحد الأعراض الشائعة لمرض التوحد فرط الحساسية للمدخلات الحسية، وعلى رأسها الأصوات العالية. قد يعاني المصابون بالتوحد حساسية الصوت، والمعروفة أيضاً باسم احتداد السمع، وهي تؤدي إلى إحساس بعدم الراحة والقلق، وربما تصل إلى الألم الجسدي.

في الأيام الأولى لحرب القطاع بثت قنوات إخبارية لقاءً مع أب فلسطيني في مستشفى الشفاء، ويبحث عن ابنه مريض التوحد (13 سنة) الذي هرب من بيت الأسرة فجراً لدى سماعه أصوات القصف، ولم يجده.

 

النصائح التي يعطيها الاختصاصيون لذوي المصابين بالتوحد تشمل تخصيص أماكن بعيدة من مصادر الأصوات العالية تكون بمثابة ملاذ آمن لهم في حال انتابهم الخوف أو القلق جراء الصوت، وكذلك تركيب أنواع معينة من الستائر واستخدام أنواع الطلاء المعروفة بقدرتها على امتصاص الصوت، وتدريب مرضى التوحد على التعرف إلى المفاتيح المرئية التي تعقبها عادة الأصوات المرتفعة وذلك لتقليل شعورهم بالفزع والتوتر. كما ينصح بعمل روتين منظم لمريض التوحد يتضمن فترات متوقعة من الهدوء والسكينة، لأنه يساعدهم على توقع الأحداث التي قد تكون صاخبة بحسب الجدول والاستعداد لها، وغيرها.

هذه الاحترازات وغيرها يمكن اعتبارها رابع المستحيلات في زمن الحرب والصراع. ويكفي أن النازحين في غزة مثلاً يقيمون إما في خيام لا ستائر أو جدران تطلى فيها، أو في مراكز إيواء. كما أن الحديث عن "مفاتيح مرئية" غالباً تعقبها أصوات مرتفعة في ظل أصوات قصف ودك غير متوقعة على مدى ساعات الليل والنهار هو حديث خارج السياق.

أزمات اليمن والسودان وليبيا

سياق الحرب يضفي بعداً مختلفاً على مرضى التوحد، لا سيما الأطفال في اليوم العالمي للتوحد في 2024. أطفال اليمن المصابون بالتوحد وقت اندلاع الحرب أصبحوا شباباً أو مراهقين بعد مرور عقد على الصراع. كما ولد غيرهم مصابون بالتوحد، وغالباً لم يجر تشخيصهم، وإن حدث فيصعب الحديث عن علاج وتأهيل في ظل الظروف الراهنة، باستثناءات بسيطة.

الوضع الصعب نفسه في ظل حرب أوشكت على دخول عامها الثاني يسري في السودان، الذي يشكو في أيام السلم ضعف إمكانات تشخيص وتأهيل مرضى التوحد، أتت الحرب لتفاقم مصاعبهم وأسرهم. وحتى المراكز الشحيحة المتخصصة في تأهيل أطفال التوحد أغلقت أبوابها بعد أيام من اندلاع الحرب، بما في ذلك محاولات التواصل عبر الاتصالات الهاتفية، بسبب تضرر شبكات الاتصالات ونزوح كثر سواء اختصاصيي التعامل مع مرضى التوحد أو المرضى نفسهم وذويهم مما جعل التواصل للمساعدة شبه مستحيل.

 

استحالة تقييم أوضاع المصابين بالتوحد في ليبيا لم تبدأ مع بداية الصراع، بل قبله بسنوات. الحزمة الكلاسيكية من قلة المراكز المتخصصة في التشخيص والتأهيل، وكذلك الاختصاصيون، مع امتناع البعض من الأهل عن فكرة الكشف، والخوف من الوصمة، أضيف إليها أثر سنوات الصراع وآثارها الباقية، لا سيما أن عدم الاستقرار مستمر، وأمل الوصول إلى حل يجمع الفرقاء ما زال بعيداً.

وتفسر دراسة منشورة في "المجلة العربية للبحث العلمي" تحت عنوان "مستوى انتشار مرضى اضطراب طيف التوحد في ليبيا" (2023) خفض عدد الحالات الرسمية موثقة للمصابين بالتوحد في الأعوام القليلة الماضية في ضوء ما يسمى "الربيع العربي"، حيث تدهور الأحوال الأمنية والنزاع المسلح، وصعوبة التنقل بسبب نقص الوقود، وغلق بعض المطارات الداخلية، والتهجير والنزوح الجماعي، وتردي الوضع الصحي في بعض المناطق، واستحالة الوصول إلى المرافق الصحية، لأخذ المشورة الصحيحة هي الأسباب المنطقية لانخفاض الأعداد المسجلة لمرضى التوحد.

في مطلع العام الحالي، أشارت تقارير صحافية ليبية إلى وجود توجه لدى حكومة الوحدة الوطنية لإنشاء خمسة مراكز لمرضى التوحد، إضافة إلى تطوير 23 مركزاً لمرضى التوحد خلال العام. وأشارت التقارير أيضاً إلى مشكلات تراجع القطاع الطبي بسبب سنوات الحرب، وقلة خبرة وتدريب الطواقم الطبية والنفسية الليبية للتعامل مع مرض التوحد، إضافة إلى المصاعب الاقتصادية التي تواجه كثيراً من العائلات الليبية، التي تحول دون سعي الأهل للحصول على الدعم والعلاج والتأهيل لأبنائهم.

عزلة في سوريا

صورة تكاد تكون طبق الأصل في سوريا، حيث معاناة مرضى التوحد وذويهم مضاعفة بفعل سنوات الحرب واستمرار عدم الاستقرار. الحرب في سوريا أسهمت في زيادة عزلة المصابين بالتوحد، لا سيما بعد ما اضطر عديد من مراكز تأهيل مرضى التوحد وأسرهم للإغلاق تحت وطأة الأوضاع الأمنية. وحتى في الحالات التي بقيت فيها المراكز مفتوحة، حالت الأوضاع الاقتصادية المتردية دون قدرة الأسرة على التوجه إليها، إضافة إلى موجات النزوح التي باعدت المسافات بين المرضى وذويهم من جهة ومراكز التأهيل من جهة أخرى.

في ظروف الحرب، يجد مرضى التوحد أنفسهم وقد تراجعوا كثيراً على قائمة أولويات الاهتمام. فبين قطاع صحي يولي الأولوية للطوارئ الطبية، حيث الإصابات الناجمة عن العنف والأمراض التي تحتاج إلى تدخلات جراحية أو علاجية آنية، ووكالات معونة إنسانية تهمل، من دون عمد، هذه الفئة، وبعضها لا يكون مدركاً تماماً لطبيعة هذا المرض ومتطلبات مرضاه وذويهم.

 

حتى الأسرة نفسها في وضع الصراع تجد نفسها وقد أعطت الأولوية لعوامل مثل البقاء على قيد الحياة، وتأمين المأكل والمشرب وسقف آمن نسبياً، ومحاولة الفرار من الأماكن الخطرة، سواء داخلياً أو خارجياً. وهنا يهبط التوحد والمتوحدون سلم الأولويات بضع درجات.

"الأبطال الحقيقيون في مجتمع الأقليات العصبية هم في الغالب الوالدان والأشقاء وأقارب الشخص المصاب بالتوحد"، بحسب مما يؤكد مقال منشور في دورية "سايكولوجي توداي" (2022) تحت عنوان "كيف تصيب الحرب والنزوح الأشخاص المصابين بالتوحد بالصدمة؟". المقال يتناول أثر الحرب في أوكرانيا في المصابين بالتوحد وذويهم، وهو الأثر الذي لا يختلف كثيراً عن أقرانهم في غزة أو السودان.

المتوحدون في إسرائيل!

اللافت أن عديداً من التقارير الصحافية تطرقت إلى آثار "الحرب" والصدمة الناجمة عنها على المصابين بالتوحد في إسرائيل. كما تبحث في كيفية التغلب على اضطرار المصابين بالتوحد في إسرائيل إلى فقدان الروتين اليومي الذي اعتادوه بسبب النزوح الداخلي لأسباب تتعلق بالإقامة في أماكن خطرة قريبة من خط النار، أو مرور هؤلاء المرضى بفترات عصيبة نتيجة فقدان أحد أفراد الأسرة أو أحد الداعمين أو مقدمي الرعاية في مراكز التأهيل ممن انخرطوا ضمن الجيش الإسرائيلي في القتال الدائر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحروب الدائرة في المنطقة العربية، على رأسها غزة والسودان واليمن، والهزات الارتدادية للصراعات في ليبيا وسوريا، ويضاف إليها مخيمات النازحين واللاجئين من دولة صراع إلى أخرى مجاورة أو في دولة صراع، لكن في منطقة أخرى آمنة، جميعها يمثل عبئاً رهيباً على مرضى التوحد وذويهم، وهو العبء الذي يفرض نفسه في اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد هذا العام، لا سيما أنه تقرر لهذا العام أن يحمل "وجهات نظر وتجارب إقليمية يقدمها المصابون بالتوحد". إلا أن وجهات النظر المشار إليها لم تشمل مرضى التوحد أو ذويهم في أماكن الحروب والصراعات.

في هذا اليوم، ينبغي الإشارة إلى أن الحروب والصراعات تؤدي إلى زيادة السلوك السلبي لدى الأطفال المصابين بالتوحد، وهو سلوك يتفاقم ويتضاعف من أثر صدمة الحرب والفزع والقلق. وحين يجد مرضى التوحد أنفسهم منفصلين عن أسرهم، بسبب موتهم أو إصابتهم أو ظروف الحرب التي فرقت بينهم، فإن محنتي المرض والحرب يضاف إليهما محنة العيش وحدهم، ومن ثم تعرضهم للخطر الجسدي والنفسي بصورة مضاعفة. هذه الأخطار تبقى معهم مدى الحياة في حال نجوا من الحرب وأفلتوا من الصراع.

في اليوم العالمي للتوحد، يتحدث العالم العربي هذه المرة لا عن حرب واحدة على وصمة التوحد وتجاهله، لكن عن التوحد في ظل الحرب الحقيقية. وتحمل المنطقة هم صراعين: الصراع من أجل التوسع في خدمات التشخيص والتأهيل على رغم المقاومة الثقافية وقلة الإمكانات المادية، وصراع البقاء على قيد الحياة للمتوحد في زمن الحرب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات