كتاب العمر: "الجاسوس المثالي" لجون لو كاريه

عندما كنت أكتب روايتي، "الرجل الذي اختفى"، قضيت وقتاً وأنا أفكر في مفهوم الهوية، في أن الناس قادرون على خداع أنفسهم وليس فقط أقرب المقربين إليهم، وعلى التحول فعلاً إلى الشخص الذي يعتقدون أنهم عليه. وأصبحت أرى بشكل أوضح أن لا أحد يعرف الآخر حقاً. وعاد ذهني المرة تلو الأخرى إلى رواية الجاسوس المثالي لجون لو كاريه، التي يتحول فيها عالم الجواسيس والعملاء المزدوجين إلى استعارة عن الخداع في قلب الإنسان، إذ يمكن أن تضيع الهوية وتختلط عليها الأمور وسط شبكة متداخلة من المسارات الخفية.

قرأت رواية "الجاسوس المثالي" أول مرة منذ 20 عاماً وشعرت بلذة حقيقية عند إعادة قراءتها. يخرج عالم لو كاريه من الصفحات: من الألعاب التي تنفذ في الظل حيث يتعرض الناس فعلاً للتعذيب والقتل، إلى الصفقات والخداع، والمصطلحات التي لا تحتاج إلى تفسير لأنه يفترض أن القارئ ذكي. إنه عالم بديل، مسار مظلم يحاذي الحياة العادية. عالم يعج بمشاعر معقدة تبرز بشكل مؤلم جداً يخطف الأنفاس.      

ماغنوس بيم متوار عن الأنظار داخل نزل في ديفون، وهو يعلم بأنه لن يعيش طويلاً ويكتب قصة حياته لكي يقرأها ابنه. تخصص القصة حيزاً بارزاً لوالده ريك، صاحب الحضور الطاغي والطاقة العارمة وعديم النزاهة. يقضي ماغنوس طفولته بين الجنة - متمثلة بحياة الرفاهية برفقة "الجميلات" وسيد ليمون، يد ريك اليمنى المتحدر من شرق لندن - والظلمات، حين تطفأ الأضواء في غرفة الأطفال الواسعة ويختفي الطاهي وتقف سيارتا شرطة في مدخل المنزل. بعد فترة من التقشف، يعود والده وتبدأ الدورة من جديد.    

يظهر ريك ثم يختفي من حياة ماغنوس، يحضر برفقة حاشيته مطالباً بالحب ومتسبباً بالإحراج، كل مرة. في الكتاب فصل مجيد يوشك فيه ريك على النجاح في الانتخابات البرلمانية. يساعده ماغنوس في حملته الانتخابية فيسحر النساء المسنات على عتباتهن الباردة ويعدهن بأن يرعى شؤونهن. لماذا يقوم ماغنوس بهذه المهمة؟ حبه لأبيه معقد، تتداخل فيه الكراهية وتصبح وفاة ريك الشرارة التي تؤدي إلى انهيار ماغنوس في النهاية. 

كل شخصية من الشخصيات مفصلة بعناية وتعاطف. والقارئ يصدقها كلها: جاك بروذرهود، الذي يحب ماغنوس لأنه هو من جنده، ويثق به إلى أن تصبح هذه الثقة مستحيلة، وهو أيضاً رجل يطلق النار على كلبه المريض من دون أن تظهر عليه أي مشاعر، وأكسل، واسمه المستعار بوبي، الذي يخونه ماغنوس، الذي يعود ويطالب بولاء ثابت لا يتزعزع فيحصل عليه، والسيدة دابر، صاحبة المنزل الذي يقيم فيه ماغنوس في ديفونشير التي تقبل أن ترعاه كما الأم البديلة. أعرف هؤلاء الأشخاص كما لو أنهم سكنوا بجواري.     

صحيح أن جدار برلين سقط لكن روايات لو كاريه ما تزال مهمة وما يزال لها مكان اليوم. فهو يشرح عالم القلب، ويتوغل في مساراته الدفينة التي لا يحب أياً منا دخولها خوفاً مما قد يجده فيها. سمعت عن رفض لو كاريه أن تشارك كتبه في المسابقات الأدبية. وربما رفضه جيد. فلا شك أنه سيفوز كل مرة.