Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحثا عن الأصل الإسلامي لمدريد التي سميت مجريط

الباحث الاسباني دانيال خيل بن أميَّة يحيي جدلاً عمره مئات السنين

مشهد من مدينة مدريد القديمة (من الكتاب - المركز القومي)

ملخص

يتتبع الباحث الإسباني المولود في المغرب دانيال خيل بن أميَّة في كتابه "مدريد الإسلامية: الأصول الخفيَّة لعاصمة مسيحية" الجذور القديمة للعاصمة الإسبانية العريقة، ويبحث في أصولها مؤكداً أنها إسلامية. ويشارك في السجال القديم حول هوية هذه المدينة التي كانت تدعى "مجريط" ليضيف رأيه المبني على مراجع تاريخية وحضارية.

يقدم كتاب "مدريد الإسلامية: الأصول الخفيَّة لعاصمة مسيحية" لدانيال خيل بن أميَّة Daniel Gil - Benumeya والذي صدرت طبعته الإسبانية في العام 2015 وترجمه حديثاً إلى العربية خالد سالم (المركز القومي للترجمة – القاهرة)، طرحاً جديداً، في سياق جدل عمره مئات السنين بين المتخصصين في التاريخ واللغة. والمقصود هنا الجدل حول الأصل العربي لاسم العاصمة الإسبانية، التي لا تزال إسبانيا الرسمية تنكره، وتصر على أن وجود مدريد سابق على وجود العرب والمسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية. وهذا الجدل يشمل بالطبع أصل مدريد، بين إصرار على أنها مدينة مسيحية، ربما كانت قبل ذلك يونانية أو رومانية أو قوطية، وإقرار بأن المسلمين أنشأوها من العدم، وظلت تحت سيطرتهم لقرنين من الزمان. وفي هذا السياق استقر دانيال خيل بن أمية، والذي يعمل أستاذاً في قسم اللسانيات والدراسات العربية والعبرية ودراسات الشرق الأدنى في جامعة مدريد كومبلوتينسي، على أن اسم مدريد أصله "مجريط"، المكوَّنة من كلمتين: مجرى، واللاحقة اللاتينية "إيت" التي تعني الكثرة. وقد أطلق عليها لكثرة المجاري المائية الجوفية التي بنيت عليها هذه المدينة في منتصف القرن التاسع الميلادي على يد الأمير محمد الأول لتكون ثغراً بين طليطلة وعاصمة الخلافة الأموية، قرطبة. واعتبرها دانيال خيل بن أميَّة مدينة إسلامية؛ لوجود العنصر البربري في الأندلس منذ الفتح، وإلى سقوط غرناطة، عام 1492. ويقول: "إذا كان لسكان مدريد القدامى والجدد ذاكرة تاريخية، فإن هذه الذاكرة لا يمكن أن تعود إلى أبعد من زمن المسلمين الضبابي الذي يخترق كحالة داكنة، المخيلة الشعبية في شبه الجزيرة كلها. العلماء لم يصلوا إلى أبعد من هذا".

حوليات ليون

ويضيف أن الذين كانوا يعرفون اللغة اللاتينية كان في قدرتهم فقط أن يستدعوا أسقف ليون، قبل خمسمائة عام، الذي ذكر في حولياته بخصوص مدينة مجريط أنها كانت في أراضي الكلدانيين ودمرها الملك راميرو الثاني عام 936. والواقع أن نصوصاً كانت هناك تشير إلى مجريط وسكانها أقدم من نص هذا الأسقف. لكنها مكتوبة باللغة العربية، اللغة التي كانت الملكية تسعى جاهدة لنفيها. لقد أهيل التراب على المخطوطات لعدة قرون قبل أن يستعيدها أناس قادرون على قراءتها. ولاحظ المؤلف أن نظرة إسبانيا "للغزو العربي البربري" الذي وقع عام 711م وسنوات تاريخ الأندلس وثقافتها الثمانمائة، لا تماثل نظرتها للغزو الروماني والقوطي وإفرازاته التاريخية، "خاصة عندما لا يكون هناك في الواقع شيء يفرق بشكل جوهري الغزو الأول عن الأخيرين". ويضيف: "تعلّمنا أن الرومان والقوطيين جزء من شجرة عائلتنا، هم منا، في حين أن دور الأندلس في الصورة التي نكونها عن أنفسنا لا تزال موضع نقاشات تتخطى حدود التكهنات الأكاديمية. كان يتعايش فيها اليهود والمسلمون مع المسيحيين. لا يتوقف طريقنا مع تنصير المسلمين قسراً، بل استمر وانتهى في النقطة نفسها، حيث بدأ في مدريد التي أسستها عائلة هابسبورغ الملكية"، بحسب الرواية الرسمية التي تزعم أنها وريثة اليونانيين القدامى وأن الإسلام كان يُمَارس في البلاد سراً، وكان يخدم السادة عبيدٌ جاءوا بهم من غرناطة ومن شمال أفريقيا"!  

يعالج الفصل الأخير من الكتاب اسم مدريد ويتوقف أمام الطريقة التي نظرت وتنظر المدينة بها إلى نفسها في مرآة الماضي. استفاد المؤلف من كتب عدة كمراجع، منها كتاب خايمي أوليبير "تاريخ اسم مدريد" (1959) و"مدريد مدينة صغيرة من الأندلس"2011 لكريستين مازولي – غينتار، و"المجتمع المدجَّن في مدريد" (1989) لخوان كارلوس دي ميغيل. كما رجع إلى دراسات تضمنتها كتب أخرى منها "مدريد من القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر" (1990)، "مجريط: دراسات في علم آثار العصور الوسطى" (1992).

الأدلة الأثرية

تنسب الحوْليات تأسيس مدريد إلى أبي المنذر محمد بن عبد الرحمن (محمد الأول) الأمير الخامس في قائمة المستقلين عن قرطبة والذي حكم طوال 34 عاماً. ولكن ماذا كان في مدريد قبل أن يؤسسها محمد الأول؟ وماذا يعني اسم مدريد؟ ويقول المؤلف إن فكرة أن مدريد ولدت قبل وصول المسلمين كانت فكرة تاريخية ثابتة، تستند إلى ملاءمة أن عاصمة إسبانيا هي ذات أصل مسيحي. ولكن لا توجد مصادر أثرية أو وثائق تمكنت من تأكيد وجود قرية، ليس فقط، بل مستوطنة بسيطة قبل القرن التاسع. والواقع أن آثار القوط الغربيين في منطقة مدريد نادرة عموماً؛ مقارنة بالآثار الرومانية. وعلى ما يبدو فإن هذا يشير إلى أن هناك تصحراً سكانياً قبل قرون من وصول المسلمين. على العكس من ذلك، توجد في وسط مدريد آثار تدعو للتفكير في وجود سكاني قبل بناء السور أو معاصر له، ولكنه بالفعل إسلامي، على تل لاس بيستيياس والمنطقة التي سيطلق عليها لاحقاً اسم بوثواتشو. أما الاسم، فأصله مجريط، الذي جاء عبر اللغة الإسبانية في العصور الوسطى Magerit. ويرى المؤلف أن هذا الاسم عربي؛ لأنه ظهر للمرة الأولى في نصوص عربية. إلا أن الكلمة لها المعنى نفسه في هذه اللغة وفي القشتالية. ومجريط هي التكيف الكتابي والمطابق لاسم كان يستخدمه السكان الأوائل. ويرجح أن الاسم مزج بين العربي "مجرى" واللاحقة الرومانثية it التي تعني الوفرة، أي ما يعني مكاناً فيه مجار مائية، أو ربما كان تعريباً للكلمة الرومانثية matrice التي تنطق ماتريث. ولكن هل يعني ذلك وجود منطقة سكنية قبل وصول الإسلام في المكان ذاته؟ ليس بالضرورة؛ يجيب المؤلف. ويضيف أنه لا يوجد ما يمنع من التفكير في أن مؤسسي مدريد أنفسهم هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم، مع الأخذ في الاعتبار أن الثنائية اللغوية العربية – الرومانثية كانت إحدى ثمار التمازج الثقافي، وكانت شائعة خلال القرون الأولى من عمر الأندلس.

تناقض رسمي  

ويرى المؤلف أن الاعتراف للمسلمين بأبوة اسم المدينة، بعد الجهود التي بذلت لنفي تأسيسها عنهم، يمكن أن يبدو متناقضاً. وبالفعل كان له معارضوه مثل خيرونيمو دي كينتانا. وكانت التناقضات فيما يتعلق ببقاء ما هو مسلم عملة شائعة في إسبانيا الرسمية في تلك الفترة. فليبي الثاني نفسه كان يجمع مخطوطات عربية في الإسكوريال، وفي الوقت نفسه كان يلاحق امتلاكها ويقمع استخدام اللغة العربية بين رعاياه. وشاع عن مدريد وصفها بأم العلوم؛ لكونها الجامعة التي كان يتعلم فيها المسلمون القرآن. في 14 يونيو / حزيران، نشرت صحيفة أ.ب.ثABC  خبراً مقتضباً يعلن أن من الممكن أخيراً رفع حجاب الغموض عن تأسيس مدريد بفضل الترجمة التي قدمها إفاريست ليفي – بروفنسال، لكتاب "المعطار" للحميري سنة 1938. ويؤكد نص الحميري أن الأمير محمد الأول هو مؤسس مدريد، ما أغلق احتمال وجود المدينة قبل الإسلام. ويرى الأكاديمي إلياس ترومو الذي نشر في السنة نفسها عمله الكلاسيكي حول أسوار مدريد، أن الاكتشاف له أهمية استثنائية؛ ليس فقط لأنه حسم الجدل حول الأصل، حين أكد أن مدريد ليست حالة حصن للدفاع عن بلدة سابقة، ولا حتى حالة قرية تولد وتنمو شيئاً فشيئاً، بل أنشئ حول قلعة معزولة سابقاً. يقر ترومو بأن الأمير محمد الأول أنشأ مدريد لتكون مدينة وحصناً، مضفياً عليها طابعاً لمؤسس ملكي، ومن ثم لا حرج من تكريمه في ساحة عظيمة أو حديقة عامة فخمة، "رغم أن هذا غير مريح لنا، نظراً لأنه كان عاهلاً مضطهداً للمسيحيين"، على حد قول تورمو. ولم يتجسد اقتراح تورمو إلا بعد أربعين سنة، عندما وُضع مشروع حديقة الأمير محمد الصغيرة بجوار لوحة السور العربي لمنحدر رامون (لم تفتتح حتى عام 1991).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولاحقاً اكتشف خايمي أوليبر أسين منحدر لا بيغا، ورجع تورمو إلى أمادور دي لوس ريوس، للعثور على إشارة حيّة للوحةٍ سور منحدر رامون، الذي كان يعتقد أنه دُمر بسبب أشغال الجسور. كان هذا في عام 1953 عندما كشفت أشغال تعديل بيتين في شارع بايلين عن السور المفقود. استنفر المستعرب خايمي أوليبر أسين، وعالم الآثار ليوبولدو توريس بألباس، السلطات من خلال الصحافة لإيقاف الأشغال. وهو ما حدث بالفعل. ومن ثم أعلنته هيئة الآثار معْلماً وطنياً تاريخياً في السنة التالية، "ولكن هذا لم يمنع مواصلة التدمير"، كما يؤكد المؤلف. وعلى أية حال، فإن حفريات السنوات التالية أعادت الاهتمام بأصول مدريد والحفاظ على تراثها الأثري. ومنذ الثمانينيات، كان التطور الملحوظ لعلم الآثار والدراسات عن مدريد يدحض فكرة وجودها قبل أن ينشئها محمد الأول، سواء أكانت يونانية أو رومانية أو سلتية أو قوطية. فقد كان التأسيس الإسلامي لعاصمة إسبانيا هو الوحيد الموثَّق. كانت حديقة الأمير محمد الأول، المعروفة أكثر بالسور العربي، مسرحاً لحفلات موسيقية وعروض بلدية خلال بضعة سنوات، ثم تحولت إلى فضاء مغلق ومهمل. وقد أعيد تأهيلها بين عامي 2009 و2011، لكن المشروع الجديد أهمل الإشارة إلى الأمير محمد كمؤسس لمدريد.       

المؤلف باحث إسباني، ولد في الرباط عام 1970، ويعمل أستاذاً في قسم اللسانيات والدراسات العربية والعبرية ودراسات الشرق الأدنى في جامعة مدريد كومبلوتينسي. وهو أيضا باحث في مجموعة تحليل الإسلام في أوروبا في الجامعة ذاتها. كما أنه المنسق العلمي لمركز الدراسات حول مدريد الإسلامية، التابع لمؤسسة الثقافة الإسلامية، وهي مؤسسة علمية غير طائفية لتعزيز التراث التاريخي للحضارة الإسلامية (وخصوصاً الحضارة الأندلسية). ترتكز أبحاثه حول تاريخ العلاقات بين أوروبا والإسلام، وخاصة على الخطابات والتمثلات وآليات الإدماج والاستبعاد التي أُنتجت في إطار هذه العلاقة التاريخية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة