Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل قرأنا فعلا هذه الكتب؟

النخب الجديدة محكوم عليها بالعيش في عزلة وحصار رمزي ثقافي

حيثما تعيش النصوص الكبرى الكلاسيكية بين القراء والكتّاب في حال من الشبابية تكون النصوص اللاحقة المعاصرة في معافاة وتجدد (أ.ف.ب)

ملخص

"دون كيشوت" و"ألف ليلة وليلة" و"الكوميديا الإلهية" من الكتب المرجعية الكبرى التي وغيرها تمثل جوهر القراءة القاعدية للنخب في العالم، وعلى رغم حضورها شكلياً في العالم العربي، إلا أنها لم تشكل روح السؤال المعرفي لدى النخب العربية المعاصرة، وهي عناوين كثيراً ما يتم ذكرها من قبل الجامعيين أو الإعلاميين، إلا أن تأثيرها محدود جداً في تشكيل وتجديد المخيال الإبداعي والفلسفي في بلدان العالم العربي وشمال أفريقيا.

الآداب الجميلة كما الفلسفة والنقد الأدبي على اختلاف مدارسها واتجاهاتها تأخذ استمراريتها ونفس تجددها من مجموعة من الكتب العالمية التي لا يمكننا تجاوزها أو القفز عليها، إذ إن الكتب الكبيرة المعاصرة تستند إلى مثيلاتها القديمة، وكذلك حال الكتّاب أيضاً، وكما أن هناك شجرة أنساب في العائلات البشرية فالكتب والكتّاب لهم شجرة أنساب أيضاً.

وفي مسار تاريخ الكتابة والإبداع هناك كتب مركزية تمثل طريقاً إجبارياً لا يمكن تغافله بالنسبة إلى الكاتب أو المفكر أو الناقد المعاصر، فهي مجموعة من الكتب التي تمثل القاعدة الخلفية الصلبة والملهمة لكل إبداع معاصر وجديد.

وفي مساره كقارئ فكل كاتب عاش حالاً من التشوش والخض والمساءلة من خلال علاقته بمجموعة من الكتب التي تشكل الذاكرة الثابتة والأمينة للفكر الإنساني برمته.

إن الأدب الجيد هو الذي يهز القارئ ويزلزل إيمانه ويجعله في حال من غليان الأسئلة، ويدفع به إلى مراجعة ونقد ما يسمى بالثوابت على المستوى السياسي والديني والجمالي والفلسفي.

إننا لا نقرأ كي ننام، بل على العكس من ذلك نحن نقرأ كي نصحو ونتفطن، والكتب التي تجلب النوم تجلب معها الخمول إلى الذهن، والكتب التي تساعدنا في النوم هي كتب ألفت للأموات، والكتاب الذي يساعدنا في النوم هو كتاب ولد ميتاً، والأدب الجميل والجيد جرس إنذار الوعي الفردي والجماعي.

الكتب التي تؤرق وتزعج تعمر طويلاً، بل إن بعضها يظل خالداً، وهناك كتب مقدسة مع أنها ليست إلهية ولا دينية.

وفي واقع الأمر فكل كتابة هي وقع حافر على حافر وتمرين جديد على نصوص قديمة ناجحة، والقديم هنا لا يعني الشيخوخة، فالنصوص الكبيرة العامرة المعمرة لا تشيخ ووجهها لا تهدده الأسارير، وتبعاً لذلك فقراءة هذه النصوص تظل متجددة ومتعددة وعابرة للأزمنة وللجغرافيا.

إن ما يقوم به الكتّاب المعاصرون الأذكياء والموهوبون هو النفخ الفني الإيجابي على جمر النصوص العتيقة الخالدة النائمة تحت الرماد كي تتوقد ثانية في نصوصهم، وهذه العملية تحول النصوص الجديدة إلى حال من النقل أو المسخ أو التكرار.

وحيثما تعيش النصوص الكبرى الكلاسيكية بين القراء والكتّاب في حال من الشبابية، تكون النصوص اللاحقة المعاصرة في معافاة وتجدد.

ولأن النصوص الكلاسيكية المعتقة لم تخطئ زمنها فالنصوص المترتبة عنها والخارجة من رحم سلالتها وجيناتها والمحاورة لها لن تخطئ هي الأخرى أزمنتها.

أتساءل ومن دون حكم مسبق، هل قرأت الأنتلجانسيا العربية والمغاربية المعاصرة فعلاً وفعلياً النصوص الأساس التي تشكل قلب الآداب والفلسفة، والتي أسست للفكر الإنساني عبر العصور وفي كل اللغات وفي مختلف الحضارات البشرية المتعاقبة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في غياب قراءة واعية وفاعلة للآداب الإنسانية الكبرى فإن النخب الجديدة محكوم عليها بالعيش في عزلة وحصار رمزي ثقافي فظيع وخطر، وفي غياب هذه القراءة فإن المجتمع سينتج نخباً غير قادرة على الدخول في سلم قيم الفكر العالمي الإنساني، بل ستظل هذه النخب تعيش على هامش التاريخ وفي معارضة سلبية مع صناع هذا التاريخ، وفي حال من التوتر والعدوانية ضد الآخر.

لكن ما هي هذه الكتب التي تعيش معنا وفينا والتي كلما زاد عمرها زاد تأثيرها وقوي سحرها، مثل الخمرة المعتقة كلما طال عمرها علت جودتها وعظم إمتاعها وارتفع ثمنها؟ 

إنها كتب كثيرة وموجودة في كل اللغات، ولكننا سنذكر بعضها للتمثيل لا الحصر والتي تشكل بالفعل حضوراً وازناً وجلياً، فعلى مستوى المنطقة الأدبية لشمال أفريقيا نتحدث كثيراً عن كتاب بعنوان "الحمار الذهبي" لأبوليوس المادوري (125-170)، ومدينة مادور هذه تسمى اليوم مداوروش، وهي مدينة جزائرية تقع في الشمال الشرقي للبلاد، وتعد "الحمار الذهبي" أول رواية في تاريخ الآداب السردية الإنسانية، ويأتي ذكر هذه الرواية كثيراً على ألسنة الجامعيين والقراء العاديين، ولككننا نتساءل هل قُرئ هذا الكتاب فعلاً أم أن ما يقال عنه هو عبارة عن تكرير عبارات مكررة من دون تمحيص؟ وهو تساؤل يقلقني كلما سمعت حديثاً عن هذا الكتاب المركزي.

وكلما جاء الحديث عن الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إلا وذُكرت رواية "نجمة" لكاتب ياسين بكثير من المدح والتهليل الأدبيين، ولكني أتساءل هل قرأ الجزائريون فعلاً هذه الرواية، كتّابا وقرّاء عاديين؟ 

أطرح هذا التساؤل والذي كان قد شغل كاتب ياسين نفسه حين قال جازماً "كثيرون يتحدثون عن رواية نجمة ولكن القليل من قرأها". 

وعلى مستوى القراءة التاريخية تحتل "مقدمة ابن خلدون" المرتبة الأولى في الاستشهادات، فهي في كل فم وعلى كل لسان، ولا يتوقف المثقفون عن ذكر الكتاب في جميع المناسبات وفي الحديث الاقتصادي وعلم الاجتماع البشري وعلم اللسانيات وعلم العمران وحتى الشعر، ومع ذلك أتساءل هل قرئت المقدمة أم أن ما يقال عنها هو استعراض ثقافوي خارجي؟

ومن بين الكتب المرجعية الكبرى التي لا يتوقف الحديث عنها بين النخب العربية والمغاربية نذكر "دون كيشوت" لسرفانتيس، و"ألف ليلة وليلة" و"الكوميديا الإلهية" لدانتي، و"مائة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز، و"رأسمال" لكارل ماركس، و"الإنجيل"، و"التوراة"، و"أزهار الشر" لبودلير، و"زاديق وكانديد" لفولتير، و"الفتوحات المكية" لابن عربي، و"الشاه نامة" للفردوسي، و"الكتاب الأحمر" لماو تسي تونغ، و"فصل المقال" لابن رشد، و"خطاب عن المنهج" لديكارت، و"الأوديسا" و"الإلياذة" لهوميروس، و"روميو وجولييت" و"هاملت" لشكسبير، و"الحرب والسلم" لتولستوي، و"البؤساء" لفيكتور هيغو، و"الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، و"مجنون إلزا" لأراغون، و"العجوز والبحر"، و"لمن تدق الأجراس" لهيمنغواي، و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه، و"في البحث عن الزمن المفقود" لمرسيل بروست، و"مقدمة في التحليل النفسي" لفرويد، و"الفكر الميتافيزيقي" لسبينوزا.

لكن هل قرئت هذه العناوين المركزية، على سبيل التمثيل لا الحصر، فعلاً من قبل القارئ العربي؟ وهل لها حضور فعلي في تطور وتطوير الكتابة والتفكير داخل ما يكتب باللغة العربية؟ وهل الترجمات التي قدمت مثل هذه الكتب المفصلية الأجنبية ترجمة أمينة ودقيقة؟ تؤرقني مثل هذه الأسئلة لأننا حيال كتب هي الركيزة الأساس لتشكيل نخب قادرة على الدخول والإسهام في سؤال المعرفة الإنسانية.

أعتقد بأن هذه العناوين وغيرها والتي تمثل جوهر القراءة القاعدية للنخب في العالم، وعلى رغم حضورها شكلياً في حقلنا الإعلامي، إلا أنها لم تشكل روح السؤال المعرفي لدى النخب العربية المعاصرة، وهي عناوين كثيراً ما يتم ذكرها من قبل الجامعيين أو الإعلاميين، إلا أن تأثيرها محدود جداً في تشكيل وتجديد المخيال الإبداعي والفلسفي في بلدان العالم العربي وشمال أفريقيا.

أشعر وأتمنى أن أكون مخطئاً في ذلك، بأن حقلنا المعرفي مخترق بأضاليل وأوهام أدبية كثيرة، حتى أننا نسمع ونقرأ لكثير من الكتّاب وهم يسوقون في نصوصهم أو على ألسنتهم مثل هذه العناوين التي ذكرناها أعلاه وغيرها، من دون أن يكونوا قد اطلعوا عليها فعلياً، ولكن فقط من باب الاستعراض "الثقافوي"، والأخطر من ذلك أنه لا يوجد من يصحح مثل هذه الأضاليل، وهو ما يجعل وللأسف كرة الكذب الأدبي والمعرفي تكبر ككرة الثلج في بلداننا.

المزيد من آراء