Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطفلة المهددة بالعماء يشعل جدها فيها نور الفن التشكيلي

"عينا مونا" رواية فرنسية تتحول ظاهرة عالمية رغم بعض الهنات التي تعتريها

فتاة صغيرة في متحف الفن الحديث في باريس (صفحة المتحف - فيسبوك)

ملخص

"عينا مونا" رواية الكاتب الفرنسي توما شليسير، تحولت بسرعة إلى ظاهرة أدبية واحتلت أعلى المرتبات في لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، وسرعان ما تم الاتفاق على ترجمتها إلى أكثر من 30 لغة. الرواية تسرد وقائع العلاقة بين طفلة مهدد بالعماء، وجدها الذي يقرر التجوال بها على متاحف باريس لتشاهد أجمل الأعمال الفنية، فتفرد لها مساحة ساطعة في ذاكرتها، إذا ما حل بها مرض العماء.

لم يعرف تاريخ الأدب في فرنسا، وربما في العالم، ظاهرة مثل تلك التي شكّلتها حديثاً رواية الفرنسي توما شليسير، "عينا مونا". فقبل صدورها عن دار "ألبان ميشال" الباريسية، وقّع صاحبها وناشرها 31 عقد ترجمة لها. وفقط بعد أسبوع من صدورها، احتلت المركز الثاني في لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا. ما الذي يفسّر هذا الاهتمام؟ القصة التي يرويها شليسير فيها؟ شخصيتاها الرئيستان؟ موضوعها المثير؟ فتنة أسلوبها؟ صرحها الفريد؟ شكلها الذي يخرج عن المألوف؟ سهولة ولوجها؟

الظاهرة تبقى غامضة، لأن الرواية التي لا تخلو من مكامن ثراء، لكنها تعاني من عيوب عدة، أبرزها حبكتها الظاهرة، وسعي كاتبها الواضح فيها إلى مسّ أكبر عدد من القراء بدعوتهم إلى وليمة لا يمكن إلا أن تثير ذائتقهم، لأن أطباقها ليست أقل من روائع الفن التشكيلي على مر التاريخ. وكان من الممكن لهذه المبادرة أن تكون جديرة بالثناء لو لم يعمد شليسير إلى طهو هذه الأطباق من دون أي توابل مخافةً من سدّ شهية المدعوين وامتناعهم عن تذوقها، ولولا أن وتيرة تقديمه هذه الأطباق لا تصبح مملة بسرعة.

معظمنا يتذكّر رواية "عالم صوفي" (1991) التي سعى كاتبها النرويجي جوستاين غاردر فيها إلى فتح أبواب الفلسفة لقرائه بتقديمها لهم بطريقة مبسّطة ولعبية تسهّل استيعابها، وقد حصدت هذه الرواية نجاحاً عالمياً باهراً. في "عينا مونا"، يسير شليسير على خطى غاردر، لكنه يستبدل الفلسفة بالفن التشكيلي. كيف؟ بتخيّله سيناريو تختبر في بدايته طفلة في سن العاشرة تدعى مونا نوبة إقفارية عابرة، أثناء قيامها يوماً بواجباتها المدرسية، تجعلها تصاب بالعمى لمدة ساعة تقريباً. ولأن احتمالات تكرر هذه النوبة كبيرة، ونتائج ذلك هو فقدان مونا بصرها نهائياً، يقرر جدّها هنري فويلمان، الذي كان من المفترض به مرافقتها بانتظام إلى عيادة طبيب نفسي من أجل مساعدتها على عبور هذه المحنة، استبدال هذه الزيارة الطبية الأسبوعية بزيارة أحد متاحف مدينة باريس. لماذا؟ كي تتذوّق "أجمل الأشياء التي أنتجها العالم" وتحتفظ بذكريات لا تُنسى عنها، قبل أن تفقد بصرها، فتتمتع لاحقاً ب"نوع من المخزون، في عمق ذاكرتها، يمكنها أن تغرف منه روائع بصرية".

جولة على المتاحف

هكذا، يأخذ هنري حفيدته مونا كل أسبوع إلى متحف "اللوفر" أولاً، ثم إلى متحف "أورسيه"، فمركز "جورج بومبيدو"، ويطلب منها تأمّل تحفة فنية واحدة من اختياره، لمدة عشر دقائق على الأقل، قبل مناقشتها معه. تأملات ونقاشات تمتد على مدى 52 أسبوعاً، أي ما يعادل سنة كاملة. ومن خلال عيني مونا، وخصوصاً سعة اطلاع جدّها، نتوقف معهما عند لوحة أو منحوتة لكل من بوتيتشيلي، دافينشي، مايكل أنجلو، فيرمير، تورنر، مونيه، مانيه، دوغا، موندريان، بيكاسو، باسكيا أو فريدا كاهلو. وفي الوقت نفسه، نشاهد بأم عيننا الصحوة الروحية لهذه الطفلة بفعلي التأمل والتساؤل، وبفضل سلطة الفن. صحوة تقودها على مر هذه الزيارات، ونحن معها، إلى اكتشاف "عينٍ مطلقة" لديها، تساعدها على البحث ورؤية ذلك النور الذي يومض داخلها، ومن شأنه إنارة الليل الدامس الذي يتربّص بها، ويمكن أن يكون سرمدياً.

الكيمياء الجميلة بين الحفيدة والجد تمسّنا، على الأقل في البداية، وقد تفسّر النجاح الاستثنائي للرواية. فبين رقةّ وإعجاب متبادلين، يتجلى تحت أنظارنا رابط عميق، يتميز بنضجٍ مدهش. وعلى مر الفصول، يلعب شليسير أيضاً على وتر إرثٍ عائلي ثقيل، تاركاً شبح جدّة رحلت باكراً يخيّم على هذا الرابط، ومعه كل الأشياء المسكوت عنها التي تحيط بمسألة رحيلها. لكن علاقة مونا بجدّها لا تحتل مع الأسف سوى مساحة ضئيلة جداً داخل الرواية، تتمثّل ببضعة سطور في مطلع كل فصل، مثلها مثل موضوع "القتل الرحيم"، المشبوك مع قصة الجدة، والذي يحضر في شكلٍ خاطف من دون أن يحظى بالمعالجة التي يستحقها، علماً أننا نتّفق مع الكاتب في مسألة أن "مهنيين كثراً ــ في مجال الصحة تحديداً ــ يمنحون أنفسهم حق القرار في فعلٍ لا يعني سوى الشخص الذي يعاني من عذابٍ رهيب ويطلب المساعدة لوضع حد لحياته".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبسبب ذلك، تفقد عملية السرد بسرعة حيويتها لصالح تصميم نمطي يتكرر 52 مرة، ويتألف من ثلاثة خطوط عريضة لا غير: مشهد قصير من حياة مونا اليومية، وصف العمل الفني الذي اختاره الجد لها، ونقاش سريع حوله بينهما. تصميم يفرّغ السرد من أي مفاجأة، ويثير النفور بنمطيته. ولو أن شليسير ــ وهو مؤرخ فن! ــ يسدّ هذا الفراغ بالمقاربة التي يعتمدها لقراءة الأعمال الفنية المتأمَّل فيها، وجَعلِها سهلة البلوغ لقارئ مبتدئ في ميدان الفنون التشكيلية، لغضضنا الطرف عن العيب المذكور وتقبّلنا روايته. لكن مقاربته، إضافةً إلى جانبها التعليمي المنفّر، تناقض هدفها المعلَن، أي "البحث عن الرسالة التي تختبئ خلف كل عمل فني عظيم"، ببقائها على سطح كل اللوحات والمنحوتات التي يتناولها، وبعدم توفيرها سوى بضعة تفاصيل تقنية فقيرة وأكاديمية حولها، لا تفسّر إطلاقاً ما الذي يجعل منها روائع فنية طبعت حقبتها، كل واحدة على طريقتها. ومسألة توجُّه الجد إلى طفلة في سن العاشرة لا تبرر هذا التسطيح.

وبالنتيجة، ما يُفترض أن يكون رحلة مسارّية جميلة ومثيرة داخل عالم الفن، لا يرقى حتى نهاية الرواية إلى مستوى هذا الطموح. وبدلاً من إثارة فضولنا لمعرفة المزيد، سواء عن مآل الطفلة مونا أو عن الأعمال الفنية المقارَبة (التي تحضر صورة لكل منها بالألوان في سترة خاصة داخل غلاف الكتاب)، يثير شليسير مللنا ويجعلنا نرغب مراراً في إيقاف القراءة قبل بلوغ الصفحة الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة