Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظام الفوضى الإيراني

كيف تعيد الجمهورية الإسلامية صياغة الشرق الأوسط

تظاهرة معادية لإسرائيل في طهران، أبريل 2024 (مجيد أصغريبور / رويترز)

ملخص

الفوضى بحد ذاتها بالنسبة لإيران تشكل انتصاراً

أدت حرب إسرائيل و"حماس" – واحتمالات انزلاقها إلى مواجهة أوسع – إلى عرقلة الجهود الحثيثة التي بذلها ثلاثة رؤساء أميركيين بغية التركيز على الموارد الأميركية وتخفيف الاهتمام بالشرق الأوسط. إذ على الفور بعد هجوم "حماس" في 7 أكتوبر (تشرين الأول) سارع الرئيس الأميركي جو بايدن للتحرك بغية دعم إسرائيل، الحليف الأساسي للولايات المتحدة، والحؤول دون توسع المواجهات الحربية. لكن، ولوقت كتابة هذه المقالة، فإن النزاع القائم تحول إلى مأزق جهنمي. الضرورات الأمنية التي تستدعي الحرب تحظى بدعم واسع في أوساط الإسرائيليين، بيد أن العمليات الإسرائيلية المكثفة على مدى أشهر فشلت في القضاء على "حماس"، وأزهقت حياة عشرات ألوف المدنيين الفلسطينيين، وتسببت بكارثة إنسانية في قطاع غزة. وفيما تستعر الأزمة وتتوسع، تشهد ارتباطات الولايات المتحدة ومظاهر انخراطها بالشرق الأوسط توسعاً مماثلاً. وكانت واشنطن في الأشهر التي تلت 7 أكتوبر أرسلت شحنات مساعدات إلى الغزيين المحاصرين، وأطلقت عمليات عسكرية لحماية أنشطة النقل البحري، وبذلت جهوداً لاحتواء ميليشيات "حزب الله" الشيعية اللبنانية، وسعت لإضعاف قدرات ميليشيات تخريبية أخرى من العراق إلى اليمن، وأطلقت مبادرات دبلوماسية طموحة لتشجيع العلاقات التطبيعية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.

إن معاودة الانخراط في الشرق الأوسط بالنسبة لبايدن هي عملية تحمل في طياتها الأخطار، خصوصاً خلال حملته الانتخابية للفوز بولاية رئاسية ثانية في مواجهة سلفه دونالد ترمب، الذي كانت انتقاداته للأكلاف البشرية والاقتصادية لحروب أميركا في العراق وأفغانستان قد فعلت فعلها في أوساط الناخبين الأميركيين، وعززت حملته الانتخابية عام 2016. إذ في استطلاع أجرته "كوينيبياك" QQuinnipia بعد ثلاثة أسابيع من هجوم "حماس"، أعربت غالبية كبيرة من الأميركيين عن قلقها من احتمال أن تجر الولايات المتحدة مرة أخرى إلى دور عسكري مباشر في النزاع القائم في الشرق الأوسط. كما أن شخصاً واحداً من كل خمسة مشاركين باستطلاع أجرته مؤسسة "بيو" (Pew) في فبراير (شباط) 2024، وافق على طرح أن تقوم الولايات المتحدة بممارسة ضغوط دبلوماسية "جوهرية" لإنهاء الحرب بين إسرائيل و"حماس". إلا أن الأخطار التي يتضمنها الإحجام (عن الانخراط الجدي) في هذا السياق تبقى أكثر جدية وأكبر حتى. فهناك لاعب إقليمي محدد يستفيد من تردد واشنطن، أو من عدم انخراطها، وهو الجمهورية الإسلامية في إيران. والحقيقة فإن المأزق في الشرق الأوسط يقدم (لهذا اللاعب) فرصة تحقيق اختراق [التقدم] ضمن استراتيجية تتبعها طهران منذ أربعة عقود، وتهدف لإضعاف إسرائيل، أحد ألد أعداء إيران الإقليميين – وإلحاق المهانة بالولايات المتحدة وتقليص نفوذها في المنطقة إلى حد بعيد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد سعى النظام الإسلامي في إيران على الدوام إلى إلهام انتفاضات دينية (في المنطقة) تشكل نسخة عنه وعن ثورته المنتصرة عام 1979، وذاك مسعى على ما يبدو، وفق العديد من المراقبين، لم يحقق النجاح. وبالفعل فإن الاعتقاد السائد في واشنطن ومراكز أخرى، غالباً ما اعتبر أن إيران باتت قيد الاحتواء، لا بل حتى معزولة. لكن هذا الاعتقاد لم يكن صحيحاً أبداً. بل على خلاف ذلك، قامت طهران بتطوير استراتيجية مدروسة غايتها تعزيز ودعم ميليشيات بالوكالة (تابعة لها)، وتنفيذ عمليات في محيطها والمنطقة، مع التزام سياسة انكار وتبرؤ تجاهها – وهو النهج الذي ثبتت نجاعته عبر الحجم الكارثي لهجوم "حماس" (في 7 أكتوبر)، والهجمات اللاحقة التي شنتها الميليشيات المرتبطة بإيران في كل من العراق ولبنان واليمن.

المشهد الاستراتيجي العام البارز بعد 7 أكتوبر في الشرق الأوسط هو مشهد خلقته إيران إلى حد كبير، ويتمحور حول نقاط قوتها. فطهران ترى في حال الفوضى فرصة سانحة لها. ويستغل القادة الإيرانيون الحرب في غزة ويفاقمونها كي يحسنوا مكانة نظامهم، ويضعفوا إسرائيل وينزعوا عنها المشروعية، ويقوضوا المصالح الأميركية، ويمضوا في تشكيل نظام إقليمي يخدم مصالحهم. والحقيقة تشير إلى أن إيران الآن في وضعية أفضل من أي وقت مضى تتيح لها الهيمنة على الشرق الأوسط، الأمر الذي يشمل تحقيق القدرة على عرقلة النقل البحري والملاحة عند العديد من "نقاط الاختناق" (المضائق والمعابر) الدولية المهمة.

التوسع الدراماتيكي لنفوذ إيران إن ترك من دون رادع سيكون له تأثير كارثي على إسرائيل والمنطقة ككل، وكذلك على الاقتصاد العالمي. وفي سبيل وقف هذا التوسع والتضخم في نفوذ طهران يحتاج بايدن، وعلى نحو طارئ، إلى وضع وتطبيق استراتيجية واضحة لحماية المدنيين الفلسطينيين وتجنيبهم تحمل العبء الأكبر من عمليات إسرائيل العسكرية، ومواجهة استراتيجية "الحرب بالوكالة" المدمرة التي تشنها إيران، وإضعاف قدرات شركاء طهران وأذرعها. تحقيق هذه الأهداف سيتطلب من واشنطن القيام بمجموعة من الخطوات الدقيقة، فيما الأميركيون يتبرمون من الأكلاف العسكرية والاقتصادية والبشرية المتأتية من التزامات بلدهم في الشرق الأوسط. لكن في نهاية الأمر، ليس ثمة من قوة دولية غير الولايات المتحدة تملك القدرة العسكرية والدبلوماسية لكبح الطموحات الإيرانية المدمرة، وذلك عبر ضبط النزاع المتصاعد بين إسرائيل و"حماس" واحتواء مضاعفاته المدمرة على المدى البعيد.

نظرية الفوضى

منذ سيطرة حركة "حماس" على غزة عام 2007، لعبت إيران دور الراعي الأساسي لها. فقد مدت طهران الحركة بالمال والمعدات وأشكال الدعم الأخرى التي جعلت من هجوم 7 أكتوبر ممكناً، بما في ذلك التكنولوجيات العسكرية، والاستخباراتية، وقرابة 300 مليون دولار سنوياً ضمن مساعدات مالية. وزودت إيران "حماس" بالمسيرات والصواريخ، إضافة إلى البنى التحتية والدورات التدريبية لمساعدتها على صنع أسلحتها – وهي كلها أسلحة استخدمتها "حماس" لمواصلة مهاجمة إسرائيل على مدى أشهر عدة بعد الهجوم الأول (في 7 أكتوبر).

وبعد 7 أكتوبر أيضاً، سارعت الميليشيات المدعومة من إيران إلى زيادة أنشطتها العدائية مستهدفة القوات الإسرائيلية والأميركية الموجودة في المنطقة. وأدت تلك الهجمات إلى وقوع أكثر من مئة إصابة بين أفراد الخدمة الأميركيين. وقام الحوثيون من جهتهم، المدعومون من إيران والممسكون بمقاليد حياة معظم اليمنيين، بمهاجمة السفن المبحرة في البحر الأحمر، مما أدى إلى تقلص العبور في قناة السويس بمعدل 50 في المئة خلال الشهرين الأولين من 2024. وبحسب شهادة أمام الكونغرس في مارس (آذار) أدلى بها الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية، فإن تفاقم هجمات حلفاء إيران والردود العسكرية الأميركية اللاحقة عليها، شجّعا تحرّك منظمات إرهابية أخرى غير متحالفة مع طهران، وذاك أدى إلى تصاعد هجمات جهات كتنظيم "داعش". وقد قامت إيران أيضاً في هذا الإطار بخطوات واضحة لتعزيز حضورها وموقعها الدبلوماسي عقب 7 أكتوبر. إذ بعد أيام من هجوم "حماس"، اتصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مباشرة عبر الهاتف وللمرة الأولى، بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، شارك الرئيس الإيراني باجتماع قمة إقليمي عقد في الرياض. كذلك جال مسؤولون إيرانيون آخرون، كوزير الخارجية حسين أميرعبداللهيان، في أرجاء المنطقة وخارجها، سعياً لأن تكون بلادهم وسيطاً موثوقاً في ظل الأزمة، وذلك تزامناً مع حفاظ النظام الإيراني على دعمه لحركة "حماس".

كل هذه التطورات لا تأتي من مجرد قيام إيران بتحين فرص جديدة وسط المعمعة واستغلال ما يسنح أمامها من فرص والخطو قدماً باندفاعات مستفزة. بل هي نتيجة منهج عام اختبرته طهران عبر الزمن. إذ منذ الثورة الإيرانية والقيادة الإيرانية تضمر طموحات كبيرة. فمنذ عام 1979 وإيران ترى في حالات الفوضى والتقلب، سواء في الداخل أو في الجوار، فرصاً لتحقيق مصالحها وتعزيز نفوذها. حتى اجتياح العراق لإيران عام 1980 انتهى لمصلحة الثيوقراطية الناشئة، وذلك عبر حشده دعماً داخلياً للنظام الجديد في طهران، متيحاً الفرصة لبناء قطاع صناعة دفاعية محلي، وممكناً نظام الملالي من تخطي مراحل نشأته الأولى. وقد اقتنصت طهران اضطرابات متتالية في جوارها لتعزيز موقعها وتقويته. ويمكن القول في هذا الإطار إن بعض أثمن الفرص التاريخية بالنسبة لها جاء نتيجة خطوات خاطئة ارتكبتها واشنطن وشركائها في المنطقة، كاجتياح الولايات المتحدة للعراق عام 2003، على سبيل المثل. فهذا النزاع الذي استقدم 150 ألف جندي أميركي إلى عتبة إيران سرعان ما انقلب لمصلحة النظام الإيراني. إذ جرى بنتيجته إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين، الذي شكل الخطر الوجودي الأكبر على القيادة الإيرانية، واستبدل نظام صدام بدولة ضعيفة قادها شيعة ساخطون تربطهم بإيران علاقات ومصالح. كذلك استغلت طهران لأقصى الحدود لحظات أخرى من الفوضى الإقليمية في السنوات التي تلت الاجتياح الأميركي. ففي عام 2013، تعاون الحرس الثوري الإيراني مع شريكه الأبرز، "حزب الله"، لتحريك كتائب من الشيعة الأفغان والباكستانيين، وتحويلهم إلى ميليشيات شيعية جرارة عابرة للحدود من أجل الدفاع عن نظام بشار الأسد المتعثر في سوريا. وفي نهاية المطاف أقامت طهران شراكة فعالة مع روسيا خلال الحرب الأهلية السورية، وهي شراكة تطورت إلى تعاون استراتيجي أوسع إثر قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باجتياح أوكرانيا عام 2022.

أحد المكونات الأساسية في استراتيجية إيران تجاه محيطها يتمثل بإقامة ما يسمى بـ"محور المقاومة"، الشبكة الفضفاضة المؤلفة من ميليشيات إقليمية ذات بنى تنظيمية سرية، ومصالح متداخلة، وعلاقات تربطها مباشرة بالمؤسسات الأمنية والدينية الإيرانية. وقد ظلّ مؤسسها آية الله روح الله الخميني يعتقد أن تصدير الثورة أمراً ضرورياً لبقائها، معتبراً أن بقاء الثيوقراطية الناشئة "في حالة مغلقة" سيجعلها "حتماً تواجه الهزيمة". وإزاء إصراره على تحفيز موجة أوسع من انتفاضات يقودها إسلاميون ضد أنظمة ملكية وجمهورية علمانية في الشرق الأوسط، قام الخميني ومساعدوه بتطوير بنية تحتية مخصصة لقلب الوضع القائم في العالم الإسلامي رأساً على عقب. وخلال العقدين الأولين من تولي النظام الإيراني السلطة، عمل قادتها مع جماعات تابعة ووكلاء في منطقة الخليج الفارسي وأنحاء أخرى على المساعدة في تحريض انقلاب بالبحرين عام 1981، وتنفيذ تفجيرات ضد السفارة الأميركية ومصالح أميركية أخرى في الكويت عام 1983، ومحاولة اغتيال أمير الكويت عام 1985، وتنظيم تظاهرات تحريضية ضد السعودية والولايات المتحدة خلال موسم الحج السنوي في مكة، وتفجير مقار عسكرية أميركية في السعودية عام 1996، وغيرها من الأعمال التخريبية ضد جيران إيران.

منذ العام 1979، ترى إيران في حالات الفوضى المستشرية فرصاً سانحة لها.

بيد أن الموجة الثورية العارمة التي تمناها الخميني لم تتبلور أبداً. لكن على رغم خيبة توقعات القادة الإيرانيين في حصول انتفاضات واسعة النطاق ضد النظام الإقليمي القائم، إلا أنهم عادوا وشهدوا انتعاش تطلعاتهم عبر قيام جماعات مسلحة مؤيدة  سعت لتلقي الرعاية والدعم الإيراني. وقد أسفرت الاستثمارات والموازنات الأولى التي صرفتها طهران عن مراكمة رصيد قيم شكل نموذجاً لما يمكن أن تثمره الجهود اللاحقة: تشكيل "حزب الله". إذ بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بدأ الحرس الثوري الإيراني الناشئ بتدريب وتنظيم "حزب الله"، الجماعة الشيعية المسلحة الوليدة. وقد أسهم العون الإيراني على الفور في جعل "حزب الله" أكثر قوة وفاعلية، حيث نفذت شبكاته سلسلة من التفجيرات الانتحارية الفادحة ضد مقار فرنسية وأميركية رسمية في لبنان بين 1983 و1984، إضافة إلى عمليات اصطياد رهائن (غربيين)، وخطف طائرات وأعمال عنف بعيدة المدى، كتفجير مركز الجالية اليهودية في الأرجنتين عام 1994، والتفجير الانتحاري في بلغاريا الذي أسفر عن مقتل خمسة سياح إسرائيليين عام 2012.

في السياق ذاته، وعبر جناحه السياسي، أقحم "حزب الله" نفسه عميقاً في الحكومة اللبنانية، مدخلاً أعضاءه في البرلمان ومجلس الوزراء. ولم يسهم هذا الدور السياسي في تعديل وتخفيف اعتماد الحزب المذكور على العنف. فقد اتهم بعض أعضاء الحزب بعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005. وعلى رغم ما بذلته الولايات المتحدة وإسرائيل من جهود لاستبعاد هذه الميليشيات، فإنها ما زالت تملك عشرات آلاف المقاتلين الفاعلين، وبفضل طهران، ترسانة تضم نحو 150 ألفاً من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في الغالب، إضافة إلى المسيرات والأسلحة المضادة للدروع وللطائرات والسفن. وتستمر طهران من جهتها بتزويد "حزب الله" بموازنة مالية تتراوح بين 700 مليون ومليار دولار سنوياً، فيما يبقى الحزب اللاعب الاجتماعي والسياسي والعسكري الأساسي على الساحة اللبنانية. وقد أثبت "حزب الله" نجاعته الاستثنائية بالنسبة لإيران. إذ إن قائده، حسن نصرالله، يعد أحد أبرز أصحاب القرار الفاعلين القلائل في المنطقة ممن يدينون بالولاء علناً للمرشد الأعلى في إيران باعتباره الزعيم الروحي، وذلك على رغم توقف "حزب الله" عن المناداة بشعاره الأول الذي كان يدعو لإقامة جمهورية إسلامية في لبنان. كما أن دور "حزب الله" في حمل إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان، ذاك الانسحاب الذي اكتمل عام 2000، منح الحزب مكانة إقليمية لبعض الوقت، ومنحه شرعية لبنانية داخلية، فيما تابع بحضوره الدولي مهمة تعزيز نفوذ إيران. إذ إن الحزب منذ مطلع التسعينيات يؤدي أدواراً حيوية في مهام إيصال التمويل وتأمين التدريب والسلاح من إيران إلى عدد من الجماعات والتنظيمات الأخرى، بما في ذلك "حماس"، على سبيل المثال لا الحصر.

اللعبة المديدة   

بإنشائها ورعايتها لـ"حزب الله" كنموذج ومثال، قامت إيران بعد ذلك بتخصيص مقدار هائل من الجهود والمصادر لرعاية مجموعات مسلحة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. فالدعم الذي قدمته طهران لجماعات مسلحة فلسطينية، خصوصاً "الجهاد الإسلامي" و"حماس"، أثمر مردوداً هائلاً طوال عقود متلاحقة، يحاكي ما أثمره دعمها للشيعة المناوئين لصدام في العراق. إذ إن تلك العلاقات وفرت قاعدة متينة للنفوذ الإيراني في سياق الاستقرار الإقليمي خلال منعطفات أساسية. ففي التسعينيات أدت هجمات حركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينية إلى تعطيل عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، ودفعت بالسياسة الإسرائيلية نحو اليمين. وبعد اجتياح العراق الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، أسهمت رعاية طهران للمجلس الإسلامي الأعلى في العراق ولحزب "الدعوة"، وهما جماعتان شيعيتان وازنتان في ذاك البلد، إلى جعل إيران اللاعب الأكثر تأثيراً بالسياسة العراقية في حقبة ما بعد الحرب.

إلى هذا، وفي سياق متصل، أسهمت الحرب الأهلية السورية في رفع مكانة "حزب الله" ليغدو درة تاج شبكة وكلاء إيران في المنطقة. إذ بتنسيق حثيث مع الحرس الثوري الإيراني، قام "حزب الله" بتدريب وتنظيم الشبكة الأعرض للميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً والتي تدفق عناصرها إلى سوريا من أفغانستان والعراق وباكستان واليمن. وقد أثبتت إيران على نحو لافت مدى مرونتها وبراغماتيتها في تطوير تلك الشبكة، وتمكينها من التحالف مع شركاء في قارات متعددة. وتستخدم إيران أحياناً في هذا الإطار جماعات منضوية تحت مظلة واحدة وتأتمر من غرف عمليات مشتركة وموحدة لتنسيق أنشطة المجموعات المختلفة، كما تستخدم في أحيان أخرى مجموعات متفرقة عمداً، وذلك لصون واستدامة سيطرتها عليهم. وطالما شكلت أموال إيران وتقديماتها المادية والتجهيزية عاملاً أساسياً في علاقاتها مع كل واحدة من هذه الميليشيات. إلا أن طهران، وعلى نحو متزايد، لا تؤمن الأسلحة الجاهزة فقط، بل أيضاً الوسائل والإمكانات اللازمة كي يقوم وكلاؤها بتصنيع وتعديل الأسلحة بأنفسهم وباستقلالية.

وترى مؤسسة الأمن القومي في إيران بهذا الجانب أن الاستثمار في استراتيجية "الحرب غير النظامية" (الحرب غير المتناظرة) وسيلة اقتصادية لتحقيق المكاسب في مواجهة أعداء أكثر قوة، خصوصاً الولايات المتحدة. وقد جاء سقوط أكثر منافسيها راديكالية في الشرق الأوسط (صدام حسين) ليعزز نفوذها وتأثيرها على الميليشيات. إذ بعد إزاحة نماذج ديكتاتورية ثرية من السلطة، أمثال صدام حسين ومعمر القذافي، غدت إيران أحد اللاعبين الإقليميين القلائل ممن لديهم المصلحة والمصادر اللازمة لدعم الميليشيات المسلحة. وفي جوانب عديدة من هذا الإطار، فإن العلاقة بين إيران ووكلائها تعكس ميلاً مشتركاً للتمتع بالاستقلالية والمصلحة الذاتية. وفي المستطاع القول إن الطبيعة التطورية للاستثمار الإيراني في عملاء ووكلاء، عمل لمصلحة الجمهورية الإسلامية، ومكن مؤسستها الأمنية من استدامة شراكات ذات قيمة دائمة وثابتة وقادرة على تحمل الاختلالات. إذ مثلاً، حتى حين قامت "حماس" بالابتعاد عن إيران لبضع سنوات بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، استمرت إيران في تزويد هذه الحركة برصيدها التمويلي، ومع الوقت استعادت العلاقة بينهما عافيتها.

قوس النصر

في أعقاب الاجتياح الأميركي للعراق، سعت طهران لتكريس نفسها كلياً كقوة ذات نفوذ في منطقة مضطربة. وأطلقت إسرائيل من جانبها حملة قوية لتقويض النفوذ الإيراني عبر "جز مرجة العشب"، أو القيام روتينياً بضرب المواقع الإيرانية في سوريا لعرقلة محاولات إيران في تطوير جسر أرضي لإمداد "حزب الله" وشبكة الوكلاء الأوسع. وقد حققت هذه الحملة العديد من النجاحات التكتيكية، لكنها على ما يبدو لم تحقق نتيجة رادعة ذات مغزى بمواجهة إيران ووكلائها. وكانت الولايات المتحدة في الأثناء تسعى إلى تعميق علاقتها بمراكز قوة بديلة وإلى بناء تحالفات جديدة لمواجهة طهران. إذ من خطة "الاحتواء المزدوج" التي وضعها بيل كلينتون (التي سعت إلى عزل كل من إيران والعراق بموازاة التقدم في عملية السلام العربية – الإسرائيلية)، إلى "استراتيجية التقدم للحرية" التي وضعها الرئيس جورج دبليو بوش (والتي ركزت على تطوير عملية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وأمكنة أخرى)، قامت واشنطن تكراراً بالاستثمار في خطط هادفة إلى إبعاد التطرف العنفي المدعوم إيرانياً من الشرق الأوسط، وذلك من دون تحقيق نتائج تذكر. وفي خطاب ألقاه بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، أشار المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى تلك الجهود الأميركية، فرأى أن واشنطن "فشلت تماماً في محاولة خلق شرق أوسط جديد". تابع قائلاً: "نعم، الخريطة الجيوسياسية للمنطقة تشهد تحولات جذرية، لكن ليس لمصلحة الولايات المتحدة. بل لمصلحة محور المقاومة. نعم، الخريطة الجيوسياسية في غرب آسيا تبدلت – لكنها تبدلت لمصلحة المقاومة".

منذ 7 أكتوبر، ابتهج قادة إيران برعب وحزن الإسرائيليين واستغلوا المعاناة الهائلة اللاحقة بالمدنيين الفلسطينيين في غزة وذلك للمضي قدماً في تعزيز مكانتهم كقوة فاعلة ذات نفوذ. فقد أتاحت الحرب لإيران فرصة لاستئناف دور رسمي في إطار الاستشارات ضمن العالم الإسلامي والإقليم الواسع. وكما يتصرفون دائماً، فقد قرَن القادة الإيرانيون الدبلوماسية الفاعلة بعرض قوة وعضلات هدف إلى امتحان عزم الأميركيين.

 

تطرح هجمات الميليشيات التابعة لإيران تحدياً بالغ التعقيد بالنسبة لواشنطن والعالم. فمن أكتوبر 2023 وحتى أواسط فبراير (شباط) 2024، أدت هجمات شنتها ميليشيات تابعة لإيران ومدعومة منها إلى 186 إصابة بأوساط الجنود الأميركيين الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في الشرق الأوسط. تلك الإصابات تتضمن 130 حالة رضات دماغية، وخسارة ثلاثة جنود احتياط (أميركيين) في الأردن، ومقتل اثنين من جنود البحرية خلال مهمة لاعتراض شحنة أسلحة إيرانية محظورة قبالة سواحل الصومال.

وقبل 7 أكتوبر، كانت إدارة بايدن خصصت مقداراً كبيراً من الوقت والطاقات والنفوذ السياسي في خطة لمساعدة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. هكذا اتفاق لو حصل كان من شأنه أن يطرح انفراجة ضخمة للحكومتين الآنفتي الذكروللمنطقة الأوسع عبر إتاحته فرص واحتمالات اقتصادية جديدة، ومع الوقت، عبر المساعدة في تهميش نفوذ لاعبين سلبيين، من بينهم طهران ووكلائها. جهود بايدن لإبرام مثل هذا الاتفاق مثلت المكون الأحدث لحملة أميركية انطلقت منذ زمن لتمتين التعاون بين من يعتبرون أنفسهم لاعبين إقليميين معتدلين. وقد بنيت محادثات التطبيع تلك على النجاح الذي حققته اتفاقيات أبراهام عام 2020، التي مهدت الطريق إلى تأسيس علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والبحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة، وأتاحت فرصاً غير مسبوقة للتبادل التجاري والتعاون العسكري والعلاقات الإنسانية المباشرة بين شعوب هذه الدول. وكانت مسألة فتح ثغرة مع الرياض ستعزز هذا الاتجاه، وتجبر إيران على التراجع، حتى وهي تسعى جاهدة لتأمين تقارب مع الرياض. على أن مسألة إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية تبقى اليوم مسألة ملحة. لكن حرب إسرائيل و"حماس" فاقمت تعقيد ما كان سيبدو سلفاً مهمة تاريخية بالغة الطموح. هجوم حماس المروع لم يسهم، بالنسبة لإسرائيليين كثر داخل الحكومة وخارجها، إلا بتأكيد القناعة التي تفترض أن السيادة الفلسطينية تمثل تهديداً أمنياً غير مقبول. بيد أن العمليات الإسرائيلية اللاحقة في غزة استدعت بدورها مطالب سعودية جديدة تدعو إلى مساع فعلية بغية وقف معاناة الفلسطينيين. والمساهمة الأميركية من جهتها في عملية التقارب المقترحة – الالتزام بحماية أمن السعودية والاستثمار في قطاع الطاقة النووية المدنية في المملكة – تتطلب أيضاً الحصول على تأييد المشرعين الأميركيين، هذا التأييد الذي يزداد صعوبة في الوقت الراهن وسط مخاوف من أن يؤدي تفاقم حرب إسرائيل و"حماس" إلى جرّ القوات الأميركية من جديد للمشاركة مباشرة في نزاع الشرق الأوسط.

مزيج الدعاوى والشعارات الخطابية والتحركات الدبلوماسية والإرهاب، الذي تعتمده إيران بمهارة منذ 7 أكتوبر، يطابق بعض أقدم أولوياتها الأيديولوجية والاستراتيجية. إذ شأن "حماس"، تنفخ القيادة الإيرانية في ضوضاء دعاوى تدمير إسرائيل وانتصار العالم الإسلامي على الغرب المتحلل والآفل، على نحو ما ترى. وهذه مواقف ليست وصولية وعابرة. فالعداء لأميركا وكراهية إسرائيل يكمنان في صلب منطلقات النظام الإيراني. إلا أن الحجم الهائل للدمار في غزة أسهم في بث روح جديدة بخطاب طهران ورطانتها المعادية للغرب وإسرائيل. فتلك الشعارات اليوم تحظى بجاذبية مستجدة عند جماهير المنطقة الذين لم يكونوا متعاطفين مع الثيوقراطية الشيعية، وذاك يمنح إيران فرصة ملائمة لإحراج منافسيها العرب السنة. كذلك ترى طهران في السياق عينه أن نفوذها الإقليمي يمثل فرصة لمزيد من التقارب مع روسيا والصين. إذ إن مصالح هذين البلدين، بجزء كبير منها، تتحقق من طريق إبقاء واشنطن غارقة في أزمات الشرق الأوسط التي تُسيء إلى سمعتها وتستنزف قدراتها العسكرية. واللافت اليوم في هذا الإطار أن الصين وإيران وروسيا أطلقوا في خليج عمان بمطلع مارس (آذار) المنصرم مناورات بحرية محدودة مشتركة، هي المناورات الرابعة بينهم في السنوات الخمس الماضية.

أخطار المواجهة

حرب إسرائيل و"حماس"، من وجهة نظر طهران، لا تسهم إلا في تسريع التحول بميزان القوى على حساب الهيمنة الأميركية وباتجاه نظام إقليمي جديد يميل لمصلحة إيران. وكان رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف حذر بعد عشرة أيام من هجوم "حماس" على إسرائيل، من أن الاجتياح البري لغزة قد "يفتح أبواب الحجيم" – أي سيستدعي رداً كاسحاً لا يوجه إلى إسرائيل وحسب، بل إيضاً إلى المصالح والأصول الأميركية في المنطقة. لكن على رغم هذا، وبالنسبة لثوريي إيران المشاكسين، فإن مسألة بقاء النظام وصونه تسبق أي أولوية أخرى. من هنا جاءت مقارباتهم للأمور منذ أكتوبر إلى مارس، متسمة باستهدافات حذرة ودقيقة. إذ بعد إرسال إدارة بايدن حاملتي طائرات مهاجمة (مع ملحقاتهما) إلى شرق المتوسط في أكتوبر، أجبرت إيران وحلفاءها على تجنب المواقف التصعيدية المتهورة. وقام "حزب الله "من جهته، وبذكاء، باعتماد هجمات مدروسة ومنضبطة على شمال إسرائيل كي يتفادى حمل الأخيرة على تصعيد القتال الذي قد يقوض قدرته على درء هجوم إسرائيلي ضد برنامج إيران النووي.

لقد أدى إسراع بايدن في نشر معدات عسكرية أميركية بالمنطقة، توازياً مع مبادراته الدبلوماسية في لبنان وتجاه لاعبين إقليميين أساسيين آخرين، إلى المساعدة في تفادي حرب أوسع قد تكون "حماس" سعت سعياً حثيثاً إليها. إذ أسهمت سلسلة من الهجمات الأميركية على ميليشيات مدعومة إيرانياً في العراق وسوريا واليمن، بإضعاف قدرات تلك الجماعات، وبعثت لشركاء طهران رسالة مفادها أنهم سيدفعون ثمن اعتداءاتهم المستمرة على الأميركيين. لكن خطر وقوع الأميركيين بحسابات خاطئة وبالثقة المفرطة بالنفس سيبقى في هذا الإطار وارداً مع مرور الوقت. إذ لميليشيات إيران باع طويلة في المثابرة والتكيف، وفي متناولهم أسلحة وافرة نسبياً وغير مكلفة، خصوصاً بالمقارنة مع الكلفة العالية للضربات الأميركية الموجهة ضدهم. لقد قامت إيران ووكلاؤها عبر السنوات والعقود بتطوير نزعة حادة لمعايرة الأخطار (أي تقديرها وقياسها بدقة). والآن بعد أن استشعروا تضاؤل حضور المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، يرى القادة الإيرانيون فرصة سانحة للتقدم والمغامرة. فهم بهجماتهم يسعون لدفع الولايات المتحدة إلى ارتكاب أخطاء تهدي طهران وحلفاءها فرصاً واحتمالات جديدة – أخطاء تشبه ما ارتكبته واشنطن قبل عقدين عندما اجتاحت العراق، أو في الـ 2018 عندما انسحب ترمب من الاتفاقية النووية مع إيران التي كان توصل إليها الرئيس باراك أوباما. إذ إن أي خطأ في الحسابات يرتكبه لاعب من اللاعبين المنخرطين بالأحداث، بمن فيهم إيران نفسها، يمكن أن يشعل نزاعاً أوسع وأكثر احتداماً في كل أنحاء الشرق الأوسط، ويتسبب بضرر كبير للاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي.

إيران الآن في وضعية أفضل من أي وقت مضى للهيمنة على الشرق الأوسط.  

لمواجهة طموحات إيران، حري بإدارة بايدن العمل مع إسرائيل والحلفاء الإقليميين للمضي في تقويض قدرة "حماس" على القيام بهجوم صادم آخر ضد المدنيين الإسرائيليين، وفي المقابل ضمان وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين اليائسين ووضع مسار لمستقبل ما بعد الحرب يضمن السلام والاستقرار للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. في هذا السياق، ومنذ أواخر مارس 2024، وواشنطن تمارس ضغطاً مستمراً للتوصل إلى اتفاق يحمل "حزب الله" على سحب قوات النخبة التابعة له من منطقة الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وتسهيل عودة آلاف المدنيين الإسرائيليين الذين غدت بيوتهم عرضة للقصف الصاروخي من قبل "حزب الله" منذ أكتوبر. التوصل لاتفاق كهذا يعد مسألة أساسية لتلافي نزاع أوسع. لذا على واشنطن الضغط بقوة للتوصل إليه، مستفيدة من المصلحة الواضحة لجميع الأطراف المعنية في تفادي التصعيد. لقد حققت الولايات المتحدة نجاحاً في عام 2022 بالتفارض للتوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان يسمح باستكشاف الغاز، وهذا الأمر يشير إلى وجود فرص أخرى اليوم للتوصل إلى تسوية براغماتية.

كذلك بدأت إدارة بايدن سلفاً في الاضطلاع بدور أقوى للتعامل مع الأزمة الإنسانية في غزة. لكن تلك الجهود قد تثبت على نحو مأساوي أنها ضئيلة ومتأخرة تأخراً لا يحول دون حالة المجاعة. المجاعة في غزة ستطرح فشلاً استراتيجياً وأخلاقياً بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى بايدن أن لا يكرر الأخطاء التي سمحت لطيف هذه الكارثة أن يخيم على المنطقة. كل جهود حقيقة ناجحة  تهدف إلى وضع حد للخطر الذي تمثله "حماس" – وهي تسهم أيضاً في الحد من قدرة إيران على إلحاق الأذى بإسرائيل – ستتطلب وضع حد للأذى الكارثي اللاحق بالمدنيين الفلسطينيين.

على وزارة الخارجية الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والحكومات الحليفة، تسريع المساعدات للسلطات المدنية الفلسطينية، وهي على حدة من "حماس" وغيرها من الميليشيات المدعومة إيرانياً – بما في ذلك مساعدات تضمن الحصول على مصادر تتيح جهود إعادة الإعمار في غزة حين يتوقف النزاع العسكري. لقد أدت مسارعة إيران لتقديم المساعدات بعد حرب يوليو (تموز) عام 2006 بين إسرائيل ولبنان، إلى تمكين "حزب الله " من انتزاع النصر من براثن الهزيمة، والتفوق على الحكومة اللبنانية بتقديم التعويضات الفورية وبرامج وخطط إعادة الإعمار. على الولايات المتحدة أن لا تسمح لطهران أو وكلائها في استغلال فرص وثغرات مماثلة عندما تنتهي الحرب في غزة.

وما يضاعف التحديات أمام واشنطن اليوم يتمثل بواقع قيام إيران بتسريع تطوير برنامجها النووي منذ انسحاب ترمب من الاتفاق النووي عام 2018. الاهتمام بالجانب الواقعي وتطويره يمثل أمراً حيوياً بالنسبة للمسؤولين الأميركيين في هذا الإطار. فقد تتحقق اللعبة الاستراتيجية الكبرى المتجسدة بتقريب المملكة العربية السعودية من إسرائيل. تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية يشكل سبيلاً لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة ومواجهة تأثير إيران السلبي في المدى البعيد. لكن تحقيق ذلك يتطلب رافعة سياسية معقدة لم يتم الانتهاء بعد من تصميمها، كي يجري تركيزها والصعود عليها. فتحقيق هذا التطبيع يمكن القول يتطلب خططاً أكثر فاعلية، وأنساق (برامج) قصيرة ومتوسطة الأمد لتوفير الحوكمة والأمن في غزة، وفتح الطريق أمام التحولات في صفوف القيادة بالأراضي الفلسطينية كما في إسرائيل، واحتواء الضغوط التي تمارسها مجموعة متعددة من اللاعبين، خصوصاً إيران، بهدف تمديد النزاع وتوسيعه في الشرق الأوسط. هذه الأمور يجب أن تشكل أولويات واشنطن خلال العام المقبل.

إيران الآن، بمعنى من المعاني، تتمتع بميزة تتفوق بها افتراضياً على الولايات المتحدة، لأنها غير مضطرة في الواقع إلى تحقيق أي أمر جوهري في المدى القريب. الفوضى بحد ذاتها بالنسبة لها تشكل انتصاراً. في المقابل، معيار النجاح بالنسبة للولايات المتحدة يبقى مرتفعاً. لكن، سواء أعجبنا الأمر أم لم يعجبنا، فإن الولايات المتحدة تظل لاعباً أساسياً لا غنى عنه في المنطقة على رغم سجلها الملتبس طوال العقود الماضية. مؤازرة الحلفاء – وتأمين خطوط النفط الذي يبقى مادة حيوية بالنسبة للعالم – والحفاظ على التوازن في مظاهر الدعم وضبط النفس، يتطلبان الالتزام. لقد سبق وتمنى العديد من الرؤساء الأميركيين تقليص دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط– وذريعة بايدن إلى ذلك تتمثل بالتفرغ لمواجهة التحدي الصيني وخطر روسيا المتنامي. إلا أن "حماس" وإيران دفعتا الولايات المتحدة للعودة إلى براثن المنطقة.

*سوزان مالوني نائب رئيس معهد بروكينغز ومديرة برنامجه للسياسة الخارجية.

مترجم من فورين أفيرز، مايو (أيار) / يونيو (حزيران) 2024

المزيد من آراء