Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جيوش المحللين تتعارك في ليلة مسيرات إيران

فوضى عارمة على الأرجح غير خلاقة غزت أثير منصات التواصل الاجتماعي مع استهداف إسرائيل

لافتة في تل أبيب تعلن عن افتتاح سفارة إيرانية تبين لاحقا أنها إعلان تشويقي لفيلم إسرائيلي (مواقع التواصل) 

ملخص

سرعة التحليل فاقت سرعة المسيّرات وقدرة الصواريخ وبينما العالم جالس ينتظر وصول المسيّرات الإيرانية إلى محطتها الأخيرة المرجوة كانت جيوش المحللين العسكريين والاستراتيجيين تأهبت واتخذت مقاعدها.

الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، لكن الاختلاف في تحليل الحدث نفسه من أقصى يمين الإعجاب والتحليل إلى أقصى يسار الشجب والتنديد يعكس هوة رهيبة من الخلاف لا الاختلاف.

اختلف الضيفان على الهواء مباشرة في تقييم "وعده صادق"، هذا يرى أن "الوعد" جاء مهيباً عظيماً جليلاً، وذاك يعتبر حجم "الصدق" في الرد أقرب ما يكون إلى التهويش الفارغ والتهييج منزوع المحتوى والبلبلة متناهية الصغر، ولولا حكمة المذيع لاعتبر المحلل الأول ضربة إيران الموجهة إلى إسرائيل التي أطلقت عليها "وعده صادق" أعظم ما حدث في تاريخ العسكرية وأجل ما جرى على صعيد الحروب والمعارك، ولمضى المحلل الثاني قدماً في تسفيه "الوعد" وتحقير ما يجري باعتباره "لعب عيال"، وإن كان غير محسوب الآثار.

مزيد من الخراب؟

آثار إطلاق عشرات أو مئات أو حتى آلاف المسيّرات والصواريخ الإيرانية أو التابعة لطهران صوب إسرائيل لن تظهر في التو واللحظة، لكن ما تجلى واضحاً صريحاً مباشراً في حينها هو حال الفوضى التحليلية والتفسيرية والتقييمية العارمة التي اعترت كل أنواع الأثير، بما في ذلك أثير العلاقات الاجتماعية بين جماهير المتابعين في المنطقة.

منطقة التحليل الموضوعي والتفسير المحايد والتقييم المنطقي بلغت أقصى درجات التقلص في مثل هذه الأجواء، أي أجواء الحروب والصراعات والكوارث والمصائب، لا سيما لو كانت كبرى تستدعي التحليل اللاإرادي الآني على الأثير، وكلما كان الحدث مباغتاً أو مستدعياً الاستقطاب أو مؤدياً إلى مزيد من الخراب، كانت الهرولة صوب التحليل والتفسير والتقييم أسرع.

سرعة التحليل فاقت بمراحل سرعة المسيّرات وقدرة الصواريخ، وبينما العالم جالس ينتظر وصول المسيّرات إلى محطتها الأخيرة المرجوة ألا وهي إسرائيل، كانت جيوش المحللين العسكريين والمتخصصين الاستراتيجيين ومفسري السياسة الدولية والتوازنات العالمية والمواءمات الأممية تأهبت واتخذت مقاعدها وانطلقت في التحليل.

فوضى التحليل

فوضى التحليل التي اعترت الأثير منذ انطلاق مسيّرات وصواريخ "وعده صادق" عارمة، وعلى رغم مرونة التحليل وليونة التفسير وعدم خضوع تقييم الحروب والعمليات والصراعات لمعايير جامدة ثابتة، إلا أنها في العملية الإيرانية التي تم شنها قبل ساعات بلغت درجة جنونية من الاختلاف والخلاف.

الخلاف في اللغة هو ما يحمل في مضمونه النزاع والشقاق والتباين. أما الاختلاف، فيعني التباين من دون شرط النزاع أو الشقاق. أما على شاشات الفضائيات والمواقع الإخبارية ومنصاتها الإعلامية التقليدية المختلفة، فالخلاف والاختلاف وكل مشتقات أحرف الخاء واللام والفاء، فجميعها حالياً يؤدي إلى شقاق غير مسبوق.

من التحليل ما قتل

السبق في نقل مجريات عملية "وعده صادق" على الشاشات لا ينافسه إلا سبق التحليل، فقوائم المحللين العسكريين والاستراتيجيين والسياسيين وغيرها من التخصصات القابلة للتحليل لا تفنى ولا تستحدث من العدم. إنها قوائم أزلية، ما دام أن الحياة قائمة والحروب مستعرة والأمور غامضة والمواقف ملتبسة، وإن كان خبثاء يلمحون أحياناً إلى أن اتساع رقعة التحليل بصورة مبالغ فيها يسهم في تعميق الالتباس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عمق الالتباس، وفي أقوال أخرى حجم الخلاف وقدر الاختلاف، واضح وضوح الشمس في "وعده صادق"، وعلى رغم تشابه يصل إلى حد التطابق في العبارات والكلمات والنعوت التي يستخدمها مئات المحللين والمعلقين على العملية الإيرانية، إلا أن مستخدميها يحلقون بها في سماوات تحليل تنقض بعضها بعضاً وتقف على طرفي نقيض غير مسبوقين.

المحللون العسكريون

محلل عسكري، "الهجوم الإيراني على إسرائيل مسرحية هزلية"، ومحلل عسكري ثانٍ "العملية الإيرانية حققت أهدافها بنجاح مذهل"، وثالث "ما حدث إنجاز إيراني عسكري غير مسبوق"، ثم رابع "ما جرى إنجاز إسرائيلي عسكري غير مسبوق" وخامس "نتائج الرد الإيراني على إسرائيل لم تتضح بعد"، فسادس "نتائج العملية الإيرانية واضحة وضوح الشمس"، وسابع "العملية الإيرانية بداية حرب إقليمية كبرى" وثامن يقول إن "العملية الإيرانية والعدم سواء"، وتاسع "في الأقل إيران لديها شجاعة الرد ولو لم يسفر عن شيء"، ويرى محلل عاشر أن "ما فعلته إيران هو إما سذاجة مفرطة أو تهور بالغ الخطورة يجب أن تحاسب عليه، ومحلل 11 "عملية إيران خدمت إسرائيل والغرب بصورة عامة. ويعتقد المحلل 12 بأن "إيران دقت مسماراً إضافياً في نعش إسرائيل وما تبقى من صدقية الغرب"، أما الـ13 فيصرح بأن "عملية إيران صححت مسار الصراع العربي- الإسرائيلي" ليقول المحلل 14 إن "عملية إيران ألحقت أكبر الضرر بالقضية الفلسطينية".

القضية الفلسطينية، تحديداً فصلها الحالي أي حرب القطاع، توارت عن الأخبار العاجلة وأنباء نشرات الأخبار بصورة مفاجئة وشديدة منذ أُعلن عن أن عشرات ثم مئات المسيّرات الإيرانية في طريقها إلى إسرائيل. حتى أهل غزة ممن توافرت لديهم سبل متابعة الأخبار وجدوا أنفسهم ساهرين ليلاً في مخيماتهم أو أماكن نزوحهم يعدون الساعات انتظاراً لمآل المسيّرات ومصير الصواريخ.

في انتظار الوصول

وبينما أهل غزة وبقية أهالي منطقة الشرق الأوسط وغيرها من مناطق العالم ينتظرون الوصول، كانت الأرض ممهدة تماماً أمام المحللين لملء ساعات البث بالتحليل والتفسير والتوقع والتقييم قبل أن تصل المسيّرة الأولى ويحط الصاروخ الأول بساعات طويلة.

 

 

طول ساعات الانتظار فتح أبواب التحليل على مصاريعها، فمحللو الصف الأول، وهم الأسماء المعروفة إعلامياً وقت مصائب الحروب وكوارث الصراعات محجوزون بالكامل، والمعد المسكين الذي أيقظوه من نومه قسراً وقهراً ثالث أيام إجازة عيد الفطر ليجد "من تحت طقاطيق الأرض" (من باطن الأرض) اثنين من المحللين العسكريين أحدهما استراتيجي والآخر علم اجتماع سياسي على سبيل الاحتياط، ووجد طواقم المحللين المشهورين المسجلين لديه جميعهم مرابطين على شاشات القنوات الإخبارية المعروفة. لذلك، لم يجد مخرجاً من ورطته وورطة القناة إلا سبغ صفة "خبير استراتيجي" على صحافي شاب متخصص في تغطية أخبار المحليات، و"محلل عسكري" على عمه الضابط المتقاعد الذي أمضى بضعة أعوام من خدمته العسكرية في إحدى هيئات الجيش المنوط بها الاتصال الإعلامي.

عامرة بالمحتوى التحليلي

وسائل الإعلام التقليدية، لا سيما المرئية بأنواعها، عامرة بالمحتوى التحليلي للأوضاع الإقليمية التي فاقمت العملية الإيرانية من درجة التهابها، والملاحظ أنه سواء كان المحللون معروفي الخبرات ومشهوداً لهم بالقدرات والمهارات التفسيرية والتقييمية أو كانوا مبتدئين أو تم الزج بهم إلى عوالم التحليل تحت وطأة الوضع الطارئ، يجد معظمهم نفسه في خانة التحليل المسيس والتفسير المؤدلج والتقييم المبني على مصالح الدول وتوجهاتها وبقائها من دون انجرار إلى حرب أو تورط في صراع.

الصراع، أو بالأحرى الصراعات، الدائرة في منطقة الشرق الأوسط بلغ درجة من التشابك والتداخل قلما يأتي بها صراع، فالمواقف السياسية والانتماءات الأيديولوجية والمصالح الوطنية صاحبة اليد العليا في التحليلات العسكرية والتفسيرات الاستراتيجية بصورة عامة، وفي حال "وعده صادق"، فإن هذه اليد عليا جداً.

جدية الأوضاع الملتهبة في المنطقة التي أشعلتها عملية حركة "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ثم فاقمت الاشتعال عملية إيران الحالية، لا تترك مجالاً لتجربة التحليل أو اختبار التفسير أو عدم التكهن بالتقييم.

القائمون على أمر الفضائيات وغيرها من المنصات الإعلامية المرئية والمسموعة خصوصاً، لا يملكون رفاهية الاستعانة بمحلل غير معروف التوجه، أو لا يمكن التكهن بنتائج تقييمه للمشهد. لذلك بدا المشهد منذ اللحظة الأولى للإعلان عن عملية إيران في ثالث أيام عيد الفطر وكأنه مدروس جيداً، على رغم كمية الزخم الوفيرة.

وفرة تحليل وشح التنوع

وفرة التحليل لا تعني وفرة التنوع، وجمهور المتابعين بلغ معظمهم درجة من النضج تتيح له التكهن بتوجه المحلل فلان أو المتخصص علان، والجالسون على يمين المشهد الإقليمي يعرفون أن تحليل العملية الإيرانية سيصب في خانة الفشل والإخفاق والتسرع والرعونة، أما القاعدون على يسار المشهد في الشرق الأوسط المشتعل، فيعرفون مسبقاً أن التحليل الذي سيتابعونه سيكون مقتصراً على عظمة العملية الإيرانية وروعتها ورمزيتها الجليلة ومعناها المهيب.

هيبة الوضع المشتعل إقليمياً لم تمنع المشاهدين من ملاحظة الفروق الشاسعة والهوات العميقة التي لا يفصل بين كل منها والأخرى سوى دقة زر على الـ "ريموت كونترول"، فالمذيعة هنا تقرأ بنبرة هادئة لا أثر لاستنفار أو انزعاج فيها خبر "انطلاق عشرات المسيّرات وربما مئات المسيّرات الإيرانية صوب إسرائيل"، والمذيع هناك يقرأ الخبر نفسه بنبرة زاعقة متخمة بالحماسة وغارقة في الاتقاد إذ إن "إيران تطلق مئااااات المسيّرات والصواريخ في اتجاه إسرائيل".

توقع النعوت

كذلك الحال بالنسبة إلى المحللين، إذ بات من السهل على المتابع أن يتوقع النعوت التي سيستخدمها المحلل في إطار التحليل، وعدم وقوع إصابات جراء مئات المسيّرات والصواريخ هو برهان لا يترك مجالاً للشك في رأي المتخصص على ضعف العملية وأنها لا تهدف إلى إيقاع الخسائر بقدر ما تصبو إلى إرسال الرسائل، لكنه في الوقت نفسه دليل لا يترك مجالاً للشك في أن إيران تعني ما قالت إن هجماتها ستكون محدودة والغرض منها الدفاع عن النفس، وكان لها ما أرادت.

ليلة متنازع عليها

هذه الفروق الشاسعة في التحليل والتفسير جعلت من "ليلة الانتصار" متنازعاً عليها نزاعاً لا يختلف في شدته عن فروق التحليل الشديدة، أو تتباين في آثارها عن تباينات التفسير العميقة.

 

وبين ليلة انتصرت فيها إسرائيل وحلفاؤها، والليلة نفسها التي فازت فيها إيران ووكلاؤها والمعجبون والمؤيدون لعمليتها في ليل الـ 13 من أبريل الجاري، فوضى تحليل وتفسير أخرى تعدت حدود الأثير الإعلامي التقليدي وطاولت الأثير الافتراضي، إذ يقبع ملايين المحللين العصاميين والمتخصصين الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم وبنوا خبراتهم في السياسة والعسكرية والدبلوماسية والاستراتيجية وما يستجد من واقع خبراتهم المكتسبة عنكبوتياً.

"هبد تاريخي ورزع جغرافي"

منذ انطلقت المسيّرة الأولى وتم توجيه الصاروخ الأول، رابط ورابض واستنفر جموع المستخدمين على مقاعدهم أمام شاشاتهم. كم مذهل من التحليل والتفسير الشعبي تدور رحاه على منصات التواصل الاجتماعي. وإذا كان التحليل "المهني" على شاشات التلفزيون وقف على طرفي نقيض واضح صريح لا ريب فيه حول "وعده صادق"، فإن التحليل الشعبي غارق حتى الثمالة في "هبد تاريخي ورزع جغرافي".

جغرافياً، تختلف رؤى الشعوب، لا سيما تلك التي تعيش في مناطق ملتهبة، لما يجري فيها وحولها، فما يبدو جهاداً ونضالاً ومقاومة، هو والعدم سواء لآخرين، والعكس صحيح. وتاريخياً، وكذلك ثقافياً وأيديولوجياً وأيضاً عقائدياً، تتباين مواقف الناس مما يجري من صراعات وحروب تمسهم مباشرة أو تمس ما يؤمنون به ولو عن بعد.

بعد انطلاق المسيّرة الأولى، كان ملايين المستخدمين ينهلون من معتقداتهم ويغترفون من أولوياتهم ويرتكنون إلى عقائدهم في تحليل العملية وتفسيرها وتقييم آثارها مسبقاً، وكعادة الـ"سوشيال ميديا"، تحزب الجميع ووقف كل من العملية الإيرانية بحسب تركيبته. "اللايك" و"الشير" يعنيان تطابق الأهواء وتشابه الأيديولوجيات. أما التعليق بالرفض أو النقد، فيقابل في مثل هذه الأحوال الملتهبة بالنعت بالجهل أو الخيانة أو العمالة، أو الوصم بالمهانة والمذلة والاستكانة.

فوضى غير خلاقة

فوضى عارمة، على الأرجح غير خلاقة، تغزو أثير منصات الـ"سوشيال ميديا" على خلفية العملية الإيرانية، وهي الخلفية التي يستند جزء منها إلى أرضية حرب القطاع التي دخلت شهرها السادس مخلفة نحو 33 ألف قتيل، وما يزيد على 75 ألف جريح، ودمار أكثر من نصف مباني القطاع. فوضى التحليل الشعبي على منصات الـ"سوشيال ميديا" عارمة. أما فوضى التحليل على كثير من المنصات الإعلامية، فربما لا تكون على القدر نفسه من الفداحة، لكنها تفوقها خطورة إذ إن التحليل بنكهة الانتماء.

المتابع العربي يجد نفسه مشتتاً بين قناة عربية تفرد مساحة شاسعة لاستعراض قدرات "كامان" (مسيّرة إيرانية) ومهارات "شاهد" (مسيّرة إيرانية) وبراعات "خيبر" (صاروخ إيراني)، وأخرى تصف ما سبق بـ"بمب العيد" (ألعاب الأطفال)، ورمزية العملية ومحدوديتها أو مباشرتها واتساع رقعتها، ونجاحها المبهر أو إخفاقها المخجل، وأثرها الحميد أو الخبيث على المنطقة المشتعلة تزيد من حيرة المتلقي.

 

 

حتى المحلل الوحيد الذي عبّر على الهواء مباشرة عن رفضه للتحليل غير العلمي، واعتراضه على فتح أبواب الفضائيات لمدعي التحليل الذين "لا يرتكنون إلا على أهوائهم أو أهواء القنوات التي تستضيفهم أو الدول التي ينتمون إليها"، واستشهد بنفسه لأنه "محلل عسكري واستراتيجي لا ينتمي لأي دولة ضالعة في الصراع أو لها مصلحة أو متضررة من المجريات"، انطلق ممطراً العملية الإيرانية بكل أنواع الإشادة والثناء والإطراء، قبل أن تشكره المذيعة وتعيد التعريف به، فهو ينتمي إلى مركز دراسات روسي وخريج أكاديمية عسكرية سوفياتية.

المؤكد أن كثيرين من المحللين والمتخصصين العسكريين والاستراتيجيين منزهون عن الفوضى أو التسييس أو العمل على تعميق الفجوات وتوسيع هوة الاستقطاب، لكن المؤكد أيضاً أن اشتعال الصراعات وتمددها عبر الحدود قد يؤديان إلى اشتعال استوديوهات التحليل وتمدد جيوش المحللين من دون قواعد حاكمة تقي المتلقي شرور التشتت والتصدع والاختلال. أما التحليل على الأثير العنكبوتي، فيصعب ضبطه أو ربطه أو حتى تصنيفه، فيبقى فوضى عارمة لحين إشعار آخر.

المزيد من تحقيقات ومطولات