Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رد متفاوض عليه وليست حربا مفتوحة

مهاجمة إسرائيل حاجة إيرانية لاستعادة الهيبة في الداخل والإقليم ومواصلة "التغيير في غرب آسيا "

إيران أطلقت أكثر من 300 طائرة مسيرة وصاروخ باتجاه إسرائيل (أ ف ب)

ملخص

الرد الصاروخي لن يلغي واقع 40 سنة من الممارسة الإيرانية تجاه دول المشرق سادها اعتقاد أن إسرائيل ليست الهدف الفعلي لإيران، بل اعتقادها بالهيمنة على المشرق بالاستفادة من شماعة القضية الفلسطينية

بعد مرور أسبوعين على غارة تدمير "القنصلية الإيرانية" لدى دمشق وعلى سيل من تهديدات طهران ردت إيران على الهجوم الإسرائيلي من أراضيها وأراضٍ تهيمن عليها أذرعتها في العراق واليمن، فأطلقت على مدى 5 ساعات نحو 185 مسيرة متفجرة و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض - أرض نحو إسرائيل التي قالت إنها أسقطت قسماً كبيراً منها في أجواء العراق وسوريا بمشاركة القوات الأميركية. فيما أصاب قسم آخر مواقع في إسرائيل أبرزها مطار عسكري في النقب، قالت إيران إنه مخصص لطائرات F35.

لقد كانت هذه المرة الأولى في تاريخ إيران التي تهاجم فيها إسرائيل، وهي التي تقول منذ عام 1979 بتحرير القدس وتدمير "الكيان الصهيوني"، وتتعرض لهجمات إسرائيلية استخباراتية ومباشرة في داخل إيران نفسها. وفي سوريا، حيث تنشر ضباطها وميليشياتها، وحيث تتعرض تلك الميليشيات التي أسهمت في قيامها وتمويلها إلى حملات إسرائيلية منتظمة بلغت أقصاها في حرب غزة الكارثية.

هذه المرة لم تكن القيادة الإيرانية قادرة على مواصلة دفن رأسها في الرمال بحجة "الصبر الاستراتيجي" مع أن آراء كثيرة ظهرت في إيران دعت إلى تجنب الرد خوفاً من تداعيات أكثر خطورة على وضع داخلي هش يعاني فيه الاقتصاد صعوبات جمة، وتتدهور الحالة المعيشية وتنهار العملة الوطنية، إذ بات الدولار الأميركي يساوي 67 ألف تومان .

كان لا بد للقيادة الإيرانية من رد تستعرض فيه قواها، ليس لاستعادة قدرة الردع تجاه إسرائيل فحسب، بل لاستعادة الهيبة في الداخل الإيراني، وكذلك لتطمين الأذرع والوكلاء أنها ما زالت قوية بعد أن اهتزت ثقة مريدي نظام الملالي بسياسته وبحساباته منذ اندلاع حرب غزة وتبيان واقع "محور المقاومة" المتفكك، هو الذي أرادته طهران قوتها المسلحة في وجه الأنظمة والمجتمعات العربية تحت عنوان مواجهة إسرائيل.

لم يعد احتمال التراجع وارداً بعد أن ظهر المرشد علي خامنئي متكئاً على قناصة "دراغانوف" الروسية في خطبة عيد الفطر ليكرر "وعده الصادق" بالرد على استهداف إسرائيل الأرض الإيرانية في القنصلية. قالت صحيفة "خراسان" الأصولية، إن ظهوره هذا مع القناصة "جعل الرد حتمياً" وكان إعلاناً بأن "وقت الدبلوماسية انتهى".

لقد بات عدم الرد اعترافاً بالفشل. قد يراه البعض تواطؤاً مع إسرائيل على الإزعاج في تمزيق المشرق العربي. على أن الرد في حد ذاته لن يلغي هذا الاحتمال الذي بات ركناً في السياسة الخارجية الإيرانية. والرد الصاروخي والمسير لن يلغي واقع 40 سنة من الممارسة الإيرانية تجاه دول المشرق سادها اعتقاد أن إسرائيل ليست الهدف الفعلي لإيران، وأن الهدف هو وضع اليد على هذا المشرق ونواحٍ عربية أخرى، بالاستفادة من شماعة القضية الفلسطينية.

لكن المجزرة الفلسطينية لم تستدع استنفاراً للصواريخ الإيرانية. فقط بعد هدم القنصلية في الأول من الشهر الجاري هدد الإيرانيون بالانتقام لكنهم قبل التنفيذ أودعوا رسائلهم إلى الولايات المتحدة في مسقط واتخذوا من دمشق، وليس بيروت هذه المرة، منبراً لتأكيد العزم على الرد، فيما كانت العاصمة السورية تنأى بنفسها عن موجبات المحور الإيراني في تهييج الجبهات، ويتولى راعيها الروسي بناء مزيد من مواقع المراقبة على تلال الجولان لضمان استمرار الهدوء على جبهة يحاول وكلاء إيران إشعالها.

لم يعد الرد الإيراني على الاستهداف الإسرائيلي فعالاً عندما صار قيد التداول الإعلامي والتفاوض. كثرة الجدل والتوقعات حوله أفقدته تماماً عنصر المفاجأة، وتحول إلى نقطة تفاوض مكشوف بين إيران والغرب وإسرائيل ضمناً حول الحجم والتوقيت والأهداف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفيما حرصت طهران على تعداد وزراء الخارجية الأوروبيين والدوليين الذين دعوا عبر وزيرها حسين أمير عبداللهيان إلى "ضبط النفس"، كانت الأنباء تتواتر عن تفاوض سري حول الرد الإيراني وشروطه.

لم يعد الاشتباك الإيراني - الإسرائيلي لدى حصوله لبنة في استراتيجية "تدمير الكيان الصهيوني" كما درج الخطاب الإيراني على القول، بل جاء في سياق إعادة ترسيم حدود موازين القوى الإقليمية والدولية في منطقة شرق المتوسط.

كانت الأولويات الإيرانية، ولا تزال في مكان آخر. وقتلى إيران في سوريا ودماء أنصارها في فلسطين ولبنان على يد إسرائيل بمثابة أضرار جانبية لمشروع وضع اليد الإيرانية على المشرق العربي وليس لتحرير القدس، مثلما أن قتلاها من العلماء والخبراء داخل إيران مجرد ضحايا في مشروع استكمال البرنامج النووي وليس دافعاً إضافياً لذلك التحرير.

بين المشروع النووي واستكمال تفتيت المحيط العربي تراوح الجهود الإيرانية، وإسرائيل ستبقى عنواناً في إعلام أيديولوجي يفتح الطريق أمام التأثير في الجمهور الفلسطيني والعربي، في عملية غش يدفع ثمنها هذا الجمهور من حياته واستقرار بلدانه، فيما تبقى إيران بعيدة من تحمل وزر أعمالها.

كانت السيطرة على العراق هدفاً إيرانياً أولاً سبقه بسنوات إرسال الحرس الثوري إلى لبنان لبناء تنظيم مذهبي تحت عنوان مقاومة إسرائيل، ومنذ 13 عاماً وضعت إيران يدها على سوريا، ثم تمددت إلى اليمن عبر المجموعة الحوثية.

وفي كل تلك البلدان حلت الفوضى محل المؤسسات وغابت الدولة لمصلحة الميليشيات. شعار مقاومة إسرائيل كان قاسماً مشتركاً في سياسة إيرانية شرط بقائها على قيد الحياة، ألا تدفع إيران الثمن جراء رفع هذا الشعار بالذات.

هذه المكاسب الإقليمية هي الثروة التي تتمسك بها إيران. صحيح أن المرشد علي خامنئي ظهر في عيد الفطر ليؤكد حتمية الرد على إسرائيل، إلا أنه كان أوضح قبل أيام قليلة في الرابع من أبريل (نيسان) الجاري أن هواجسه في مكان آخر. وفي تغريدة بالإنجليزية لم يشر فيها إلى إسرائيل، قال إن "المعادلة تغيرت ومستمرون في تغيير منطقة غرب آسيا. أعداء المقاومة لا يستطيعون الصمود أمام هذا التغيير المقبل، ولا يملكون أي خيار في ذلك، وعليهم أن يدركوا أنهم لن يستطيعوا حكم هذه المنطقة".

التغيير الإيراني في غرب آسيا يعني تعزيز الهيمنة الإيرانية على مفاصل الدول المفككة في العراق وسوريا ولبنان وبث الفوضى حيث يلزم. وفي هذه الرؤية التي لا تتضمن أي إشارة إلى "الكيان الغاصب" ربما يقول خامنئي إن الحرب المباشرة مع إسرائيل ليست خياراً، وإن رداً موضعياً سيكون كافياً، وسيجد لذلك تبريرات لن تتأخر في الظهور على ألسنة الناطقين باسم النظام الخميني.

وفي الواقع بدأت هذه التبريرات بالظهور للقول إن الحرب ليست فخاً إسرائيلياً فحسب، وإنما مؤامرة كونية على النظام. وها هو الدبلوماسي الإيراني السابق جلال ساداتيان يفضل مزيداً من الصبر الاستراتيجي على التسرع في مهاجمة إسرائيل. فهذه الأخيرة "نفذت هجومها بهدف استفزاز إيران وإجبارها على الرد، بالتالي جرها إلى المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، كما أن روسيا لديها مصالح كثيرة في هذه الحرب لأنها تمنحها فرصة لحسم المعركة على الجبهة الأوكرانية، أما الصينيون فلا يمانعون في اتساع رقعة الصراع لأنها ستشل أميركا، والأوروبيون يحبذون الأمر لأنه سيضعف الولايات المتحدة في المنطقة!

ماذا يبقى إذاً غير انسحاب إيراني هادئ بعد "لكمة" تعيد للنظام هيبته، وتبهر جمهور الممانعة، ثم العودة إلى التركيز على استثمارات الحرس الثوري في بلدان المشرق العربي المنكوب، تحقيقاً لرؤية خامنئي حول "التغيير المستمر" في غرب آسيا؟

المزيد من آراء