Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماركيز العاشق والخائف من الموت في ذكرى رحيله العاشرة

روايته غير المنشورة "نلتقي في أغسطس" تثير حماسة قرائه ونتفليكس ستعرض "مئة عام من العزلة" مسلسلا

ماركيز في الذكرى العاشرة لرحيله (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

قبل 10 سنوات  في 17 أبريل (نيسان) رحل الروائي الكبير غابريال غارثيا ماركيز، لكنه في ذكراه العاشرة يحضر بقوة، بصفته رائد مدرسة الرواية الواقعية السحرية. فروايته "نلتقي في أغسطس" التي اكتشفت حديثاً سرعان ما ترجمت إلى لغات عالمية، وجذبت للفور جماهيره، عطفاً على أن منصة نتفليكس تزمع على عرض مسلسل مستوحى من رائعته "مئة سنة من العزلة".

تزامنت الذكرى العاشرة لرحيل غابريل غارثيا ماركيز هذا العام في 17 أبريل (نيسان)، مع انتشار روايته الأحدث "نلتقي في أغسطس"، التي شكل صدورها حدثاً أدبياً بارزاً على مستوى العالم. ماركيز الذي كان معروفاً عنه دقته الشديدة في تحرير أعماله قبل نشرها، ومراجعة مخطوطاته، وإعادة كتابتها أكثر من عشر مرات حتى يصل إلى مرحلة الرضا النسبي عنها، تُنشر روايته الجديدة، خالية من لمساته الأخيرة، بسبب معاناته من مرض ألزهايمر في أعوامه الأخيرة، مما جعله غير قادر على التعرف إلى نصه.

لذا أثيرت أسئلة حول دوافع ولديه لنشرها، هل هو العائد المادي أو تكريم ماركيز؟ هذه تساؤلات طرحت بين قراء ماركيز ونقاده، وفور وصول الرواية إلى أيدي القراء، صنفها كثيرون بأنها لا تُضاهي أعماله الضخمة مثل "مائة عام من العزلة"، أو "الحب في زمن الكوليرا"، أو غيرها. إنها رواية أقرب إلى النوفيلا لا تتجاوز 150 صفحة، تتناول قصة أستاذة في العقد الخامس من عمرها تدعى آنا ماغدالينا باخ، تعيش مع زوجها الموسيقي وقائد الأوركسترا، وفي كل عام، خلال شهر أغسطس، تذهب إلى زيارة ضريح والدتها في إحدى جزر البحر الكاريبي، وهناك تخوض مغامرة عاطفية مختلفة مع كل شهر أغسطس، ليلة واحدة فقط، تتحرر فيها آنا ماغدالينا من كل ارتباطاتها، مستسلمة لنداءات ملحة بالمضي بعيدا في اكتشافات حسية جريئة وغامضة في آن واحد، فكيف ستنتهي هذه التجربة؟

لنقرأ: "وقفت هناك، أغمضت عينيها واستنشقت عبق البحر الممزوج برائحة الأرض الطيبة، سمعت صوت الأمواج يتكسر بلطف على الشاطئ الرملي. كان الوقت يمر ببطء، وهي تاركة نفسها تستسلم لإحساس عميق بالسلام الداخلي. مرت لحظات قليلة، سرعان ما قررت أن تخرج لاستكشاف هذه الجنة الصغيرة التي اختارتها كملاذ لها. بخطوات وئيدة، تركت غرفتها، متجهة نحو الشاطئ، يجذبها خط الشفق الذي تلوح فيه أطياف الغروب بألوانه الساحرة. لم تكن تعرف بعد ما الذي ينتظرها في هذا العالم الجديد، لكن في قلبها كانت تشعر بأنها على وشك اكتشاف سر جميل، سر يمكن أن يغير مجرى حياتها. بكل الأمل الذي يمكن أن تحمله روحها، بدأت مغامرتها في الجزيرة، بحثاً عن السكينة، وربما، عن نفسها. لكن قبل أن تغادر غرفتها، خلعت خاتم زواجها، ثم ساعة اليد التي كانت ترتديها على معصمها الأيمن، ووضعتهما على الطاولة".

حلقات الزمن

تستدعي رواية "نلتقي في أغسطس"، رواية أخرى لماركيز بدت مثيرة للجدل في حينها، إنها "ذكريات غانياتي الحزينات"، التي كتبها غابو بتأثير رواية ياسوناري كاواباتا "الجميلات النائمات". ربما لا يبدو ظاهرياً مدى التشابه بين روايتيه، سوى في انحراف ماركيز عن الواقعية السحرية في كليهما، لكن بعد قليل من التأمل تتضح التقاطعات بينهما، الكاشفة عن انشغال ماركيز بأفكار وجودية ترتبط بالعلاقة بين الزمن وشيخوخة الجسد، وبينهما يمتد الحب بكافة أوجهه.

في "ذكريات غانياتي الحزينات"، يقرر البطل العجوز خوض مغامرة جسدية لم يقم بها من قبل، يقول: "في السنة التسعين من سنوات حياتي، رغبت في أن أهدي إلى نفسي ليلة حب مجنونة، مع مراهقة عذراء. تذكرت روسا كباركاس، صاحبة بيت سري، اعتادت أن تتصل بزبائنها الجيدين، عندما يكون تحت تصرفها جديد جاهز. لم أستسلم قط لهذا الإغراء، أو لأي واحد آخر من إغراءاتها الفاحشة، ولكنها لم تكن تؤمن بنقاء مبادئي. فكانت تقول بابتسامة خبيثة: الأخلاق مسألة زمن أيضاً، ولسوف ترى. كانت أصغر مني بعض الشيء، ولم تعد لدي أخبار عنها منذ سنوات طويلة، بحيث يمكن أن تكون قد ماتت. ولكنني، منذ الرنين الأول، تعرفت إلى صوتها في الهاتف، وبادرتها من دون مقدمات: اليوم، أجل".

يبدو أن أسئلة ماركيز، لم تتغير في الروايتين؛ فالمغامرة التي يقرر الصحافي العجوز خوض غمارها مع عذراء شابة، لا تقل خطورة عن علاقة عابرة، تقوم بها سيدة أربعينية متزوجة، تسعى لتبديد الملل من حياتها الراكدة. حيث يضع ماركيز بطليه في مواجهة رحلة صعبة من التحديات الذاتية، وجهاً لوجه مع المخاوف الداخلية بكل جرأة. يتجلى هذا التحدي في مغبة النزوع النفسي من رعب تلاشي العلاقة مع الحواس واهبة اللذة، وبالتالي غياب القدرة على الاستمتاع بالحياة، ما يدفع بطليه على اختلاف مرحلتيهما العمرية، إلى استكشاف تجارب جديدة تؤكد على حقيقة الوجود والإحساس الحقيقي بالحياة.

تستدعي هذه الأحوال، تناول ماركيز لفكرة الزمن، التي ظهرت بقوة منذ روايته الخالدة "مائة عام من العزلة"، حيث عبر من خلال بطلته أورسولا، زوجة أوركاديو بوينديا، عن موقفه من الزمن، حين قالت: "إن الزمن لا يمر، بل يدور في حلقة"، وإن كانت قرية ماكوندو محبوسة في حلقة الزمن، يطمح أبطالها أن يعيشوا أطول من العمر المتاح بيولوجياً للإنسان، فإن بطل ماركيز في "ذكريات غانياتي الحزينات"، يتطلع أيضاً إلى زمن أطول لتحقيق اللذة.

في الوقت الذي تواجه آنا ماغدالينا بطلة "نلتقي في أغسطس"، تخبطها من مرور الزمن، وزوال الصبا، يشكل اللقاء مع الآخر، مرساة النجاة، التي تمنحها طمأنينة زائفة، بأنها لا تزال جميلة ومرغوبة، وقادرة على الحصول على المسرات الجسدية، ومنحها في وقت واحد، هذا يرتبط عند آنا ماغدالينا بشكل وثيق مع فكرتها عن الحياة والأنوثة، ويتصل بكيانها كامرأة حملت ميراث أمها، التي طلبت منها القدوم إلى هذه الجزيرة تحديداً، وكما لو أن الأم الراحلة تقدم لابنتها وقتاً إضافياً، تكون فيه حرة ومتحررة من ارتباطاتها الأسرية، وتكون أنانية، ومخلصة لذاتها فقط.

معرفة ماركيز بمكامن النفس الإنسانية مكنته من أن يقترب من فكرة تؤرق النساء جميعاً، تتعلق بعلاقتهن مع أجسادهن في مرحلة زمنية حساسة، وهي منتصف العمر. اختار غابو أن تكون بطلته امرأة، وهنا تكمن الحيلة السردية، إذ لو وضع رجلاً بدلاً من آنا ماغدالينا، وتركه يعيش ذات المغامرة، فإن النص لن يقدم جديداً، أما اختياره سيدة متزوجة وأم، تقودها المغامرة في كل عام للمبيت في سرير رجل غريب، فهنا تكمن المفارقة. لكن في الوقت عينه، لا يمكن اعتبار هذه التجربة الإيروسية العابرة للبطلة إشعاراً معلناً بالخيانة، بقدر ما هي طريقتها الأعمق كي تُضفي على حياتها تلك الشرارة الغائبة، التي تلاشت بمرور الوقت، على رغم أنها خاضت مع زوجها تجارب جسدية صاخبة، لكن نوع الرجال غريبي الأطوار الذين تلتقي بهم، يجعلونها ترى العالم من زاوية مختلفة كل عام.

أما بطل "ذكريات غانياتي الحزينات"، فإن ماركيز يمنحه قدرة أوسع على الاختيار، ففي عامه التسعين، يبحث عن فتاة عذراء، هنا تكمن الجرأة، على رغم أن تجربته تنتهي إلى اللاشيء، على النقيض من آنا ماغدالينا، فإن احتدام السرد أدخله بين اللحظة الآنية والذكريات، يعبر بشكل حيوي عن موقفه من التقدم بالسن حين يقول: "ليست السن هي ما بلغه أحدنا من العمر، بل ما يشعر به". رغب ماركيز دائماً، في أن يؤكد على الحاجة الملحة للعاطفة والمحبة، والتواصل الجسدي في كل مرحلة من مراحل الحياة. إلى جانب هذا، تتناول الروايتان فكرة العلاقة مع الذكريات، وأثرها على تحولات الشخصية واختياراتها. كما عمد ماركيز أيضاً إلى التبئير الداخلي بغرض إظهار التناقضات النفسية، سواء عند آنا ماغدالينا في "نلتقي في أغسطس"، أو عند الصحافي العجوز في "ذكريات غانياتي الحزينات".

ماركيز عربياً

ترك ماركيز أثراً كبيراً في الثقافة العربية؛ فهو كاتب تقدمي وإنساني تتميز أعماله بقوة السرد الفذ، وتحقيق معادلة قلما تمكن الكُتاب من تحقيقها، وهي المستوى الأدبي الرفيع والانتشار الجماهيري، لذا لا يمكن اعتبار ماركيز مجرد كاتب فاز بجائزة نوبل، فهناك العديد من الأسماء الفائزة التي لم تترك أثراً كبيراً في ثقافتنا. لكن غابو تحديداً وعبر رواياته المؤثرة مثل: "مائة عام من العزلة"، "خريف البطريرك"، و"الحب في زمن الكوليرا"، و"وقائع موت معلن"، وغيرها، حفر مجرى عميقاً في الثقافة العربية، ربما بسبب وجود تأثير متبادل بين ماركيز والثقافة العربية، عبر كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي انعكس على كتابته في حضور الواقعية السحرية القائمة على العجائبي والأسطوري والسريالي، هذا النموذج الإبداعي الفريد الذي بنى ماركيز من خلاله عالمه الروائي، مؤلفاً بين القديم والجديد. وبسبب مزجه بين الواقعي والأسطوري، وجد القارئ العربي ما يحاكي مخيلته، ويغذي تطلعاته الأدبية نحو نماذج إبداعية جديدة، لا يشعر نحوها بالاغتراب، بل تأتي متماشية مع جماليات التراث السردي العربي القديم، فالأسطورة كما يقول بورخس تقع في بداية الأدب ومنتهاه.

استطاع ماركيز في معظم رواياته، أن يقدم شخصيات وأحداث تكشف عن معاناة أهل بلده، في قالب الواقعية السحرية التي تميز بها، لقد اهتم بالإنسان وبالأرض وما يجري عليها، وكتب عن الجذور والهوية.

ربما لا يمكننا أن نُغفل أيضاً جوانب متشابهة أثرت في النتاج الإبداعي في أميركا اللاتينية، وفي العالم العربي، تتعلق بالوقائع السياسية والاقتصادية والحروب المدمرة والثورات، مما أدى إلى تشابه واقعي وموضوعي. إذ على رغم التباعد الجغرافي والديني، فإن كليهما يعاني من معظم مشكلات العالم الثالث. فلطالما عانت دول أميركا الجنوبية من أنظمة الحكم الدكتاتورية، وهذا ظهر في العديد من الأعمال الإبداعية، كما أن هذه الدول تجمع تناقضات تتعلق بالقدم والحداثة، وترنو إلى أميركا والغرب، وكذلك هي المجتمعات العربية. وهذا كله يظهر في كتابات ماركيز وفي إبداعات الكتاب اللاتينيين، وكذلك في نصوص الكتاب العرب الذين تناولوا بشتى أساليب السرد واقعهم الاجتماعي، وانتقدوا السلطة والظلم والتفاوت الطبقي، والكفاح من أجل لقمة العيش. أيضاً هناك تشابه في أن بلدان القارة اللاتينية تعرضت للاستعمار الأوروبي، والأميركي منذ الكشوف الجغرافية عام 1492، لأن سكان أميركا اللاتينية في النتيجة هم مزيج من الهنود الحمر، والفاتحين الأسبان، والمهاجرين العرب؛ بالتوازي مع هذا عانت الدول العربية أيضاً من الاستعمار الأوروبي لوقت طويل، وظهرت الأعمال الروائية التي تكشف عن معاناة البشر في تلك المرحلة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة