Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التحول الجنسي... موقف جديد للفاتيكان

هل يمكن لـ"وثيقة الكرامة البشرية" أن تنشئ حلفا بين الكنيسة الكاثوليكية وبقية الأديان في المواجهة؟ وأية شروط طبية تقبل بها المؤسسة الدينية لتغيير طبيعة الفرد؟

وثيقة صدرت عن مجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان وجاءت تحت عنوان "الكرامة اللامتناهية" (رويترز)

ملخص

كان للأزهر الشريف بوصفه عمق المؤسسة الإسلامية في العالم السني، موقف واضح، فقد تطرق فضيلة الإمام الأكبر لما وصفه بـ "هوس التحول الجنسي"، من دون وجود ضرورة طبية قاطعة، وذلك في مناسبة ما عرف باسم "اليوم العالمي للمتحولين جنسياً" في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.

من بين القضايا التي تدخل ضمن إطار ما بات يعرف بـ "فقه النوازل أو المستجدات"، وعلى صعيد الأديان والمذاهب الدينية كافة، تأتي قضية التحول الجنسي، أو العبور الجندري، بمعنى قيام المرء بإرادة كاملة بتغيير نوعه وجنسه الذي ولد عليه بحسب الفطرة الطبيعية، من ذكر إلى أنثى، أو من أنثى إلى ذكر.

هنا، فإننا نجد بعض الذين يريدون تغيير جنسهم، يعرفون أنفسهم بأنهم "عابرون جنسياً"، وقد بات لقب "العبور الجندري" اسماً شاملاً إضافة إلى شموله الأشخاص الذين هويتهم الجندرية هي عكس الجنس المحدد لهم عند الولادة.

ولعله من نافلة القول إن عالمنا المعاصر بات يواجه استحقاقات هذه الظاهرة، والتي تكاد تتحول إلى نوع من أنواع حركات التحرر، أو حقوق الإنسان، إن جاز التعبير، وتبدو دول عدة، غرباً وشرقاً في مواجهة تبعات الدعوات المغرقة في الليبرالية المتصاعدة، تلك التي تطالب بحق الإنسان في تغيير جنسه، متى شاء له ذلك، وبالكيفية التي يريدها، وذلك انطلاقاً من اعتبار أن الجسد ملك لصاحبه، ولا وصاية لأي إنسان على جسد إنسان آخر.

هذه الصيحة في واقع الحال، فتحت أبواباً عاصفة لتساؤلات مثيرة للقلق حول مستقبل النوع الإنساني، والتلاعب في مقدرات الفطرة التي خلق الخالق النوع البشري عليها، ذلك أنه منذ البدء خلقهما ذكراً وأنثى، وقال لهما: انموا وأثمروا واملأوا الأرض.

من نوعية تلك الأسئلة: "هل قضية التحول الجنسي ضرورة بيولوجية؟ أم أنه صيحة تسعى لتشويه صورة الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم"؟

على أن ما يزيد القضية تعقيداً، تشابك الظاهرة الاجتماعية مع بعض التفسيرات العلمية لما يعرف بأزمة اضطراب الهوية الجنسية، وربما مرض هذه الهوية.

 

هنا يتداخل الحابل مع النابل، بين ما هو مجرد رايات أيديولوجية ترفع، وأزمات بيولوجية يتحدث البعض عنها، وتكاد تخرج القضية من بين أصابع وأيادي السياسيين والمنظرين الاجتماعيين، مروراً بدوائر الطب والأطباء، ومن ثم الوصول إلى دائرة المؤسسات الدينية.

ويمكن لقارئ هذه السطور أن يتساءل: "ما الذي يستدعي فتح هذا الملف الشائك في هذه الأوقات"؟

الجواب ربما تقف وراءه الوثيقة الأحدث التي صدرت، هذا الشهر عن مجمع العقيدة والإيمان في حاضرة الفاتيكان، وجاءت تحت عنوان "الكرامة اللامتناهية"، أو DIGNITAS INFINITA والتي تسلط الضوء على العديد من القضايا الطبيعية التي لا غنى عنها لكرامة الإنسان في الأنثروبولوجيا المسيحية، وتوضح أهمية الآثار المفيدة للكرامة الإنسانية، في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مع الأخذ في الاعتبار، أيضاً، آخر التطورات حول هذا الموضوع الشائك، التحول الجنسي، في الأوساط الأكاديمية والطرق المتناقضة التي يقدم بها هذا المفهوم اليوم .

على أنه قبل الدخول في عمق الموقف الفاتيكاني من جهة، وموقف الإسلام من جهة ثانية تجاه أزمة تغيير النوع البشري، والذي يكاد يبدو صرعة معاصرة، ربما يتوجب علينا التوقف والاقتراب من عمق هذا المفهوم من أكثر من زاوية، بهدف تبيان أبعاد الإشكال ومن ثم التعاطي معه بعقلية واضحة، من غير تهوين أو تهويل.

في مفهوم التحول الجنسي بداية

من غير الغوص عميقاً في أبعاد هذه الظاهرة، يمكن تعريفها بأنها السعي إلى تغيير النوع الإنساني الذي ولد عليه المرء، وهي كذلك الحالة التي يعرف فيها الفرد نفسه على أنه ينتمي إلى الجنس المختلف عن جنسه الحيوي الأصلي، وغالب ما يكون شعور المرء بعدم شعوره بالراحة في ما هو عليه من نوع وجنس، هو السبب في هذا السعي، وكذلك رغبته في أن يصبح فرداً من أفراد الجنس الآخر.

وهناك حالات أخرى يعاني فيها الفرد من إعاقة تسبب له قلقاً من نوعه الحالي.

وفي كل الأحوال، فإن المتحولين جنسياً يشعرون بأنهم محبوسون داخل جسد الجنس المقابل لتصورهم عن أنفسهم، الأمر الذي يؤدي ولا شك إلى قدر كبير من الصراع العاطفي والنفسي، وكثيرون منهم يحملون وصمة أمام المجتمع، ولهذا فإن 41 في المئة من المتحولين جنسياً يحاولون الانتحار مقارنة بـ 1.6 في المئة من عامة الناس.

هل العالم إزاء ظاهرة حديثة أم قديمة؟

على العكس من ظاهرة المثلية الجنسية، الضاربة الجذور في الحضارات الإنسانية منذ أزمنة بعيدة جداً، والتي توقفت معها الكتب السماوية بالتحريم والتجريم، نجد أن ظاهرة التحول الجنسي تعد حديثة جداً، ولم تطفُ على السطح إلا بعد منتصف القرن الـ 20، وقد تزامنت مع انفجار الثورة الجنسية، ودعوات التحرر من القيود الأخلاقية والدينية التي كانت تمثل حواجز من هذا الذي يراه البعض انفلاتاً، فيما نفر آخر يعتبرونه حقاً شخصياً مشروعاً.

والثابت أنه على رغم أن مجتمعات ذات طبيعة متحفظة، ومؤسسات دينية وإيمانية لها عراقتها كالأزهر والفاتيكان، لا تزال ترفض فكرة التحول الجنسي، إلا أن هناك حركات عالمية مثل "ناشطون مدافعون عن حقوق المتحولين"، والتي تأسست في مدريد عام 2016، تعمل جاهدة على تعزيز حقوق هذه الفئة السكانية وإلغاء التمييز والعنف ضدها، في ما يتعلق بالإسكان والتوظيف، والمرافق العامة، عطفاً على التعليم والرعاية الصحية.

 

أزمة مرضية أم صحية مجتمعية؟

يبدو هذا التساؤل وكأنه حجر عثرة في طريق تحديد أبعاد قضية التحول الجنسي، لا سيما أن منظمة الصحة العالمية، في مايو (أيار) من عام 2019، أصدرت دليلاً طبياً جاء فيه أن التحول الجنسي لا علاقة له بالاضطراب العقلي أو السلوكي.

وسرعان ما تلقفت منظمات حقوق الإنسان مثل "هيومن رايتس ووتش"، هذا التحديد، لتؤكد أنه سيكون لهذا المعتقد الجديد "تأثير تحرري في جميع أنحاء العالم ".

والمعروف أنه في الكتيب الذي يحمل اسم "ICD-11"، يُعرّف عدم الاتساق الجندري بأنه تناقص ملحوظ ومستمر بين الهوية الجنسية للمرء بناء على خبرته والأخرى المحددة له.

هنا تحدثت خبيرة الصحة الإنجابية في منظمة الصحة العالمية الدكتورة ليلي ساي قائلة: "لقد تم شطب ذلك من فصل اضطرابات الصحة العقلية، لأننا بتنا أكثر إدراكاً أن ذلك لا يتعلق بالصحة العقلية".

من هذا المنطلق، اتخذت جماعات الدفاع عن حقوق المتحولين جنسياً موقفاً تجاه الدول والحكومات، فقد رحب مدير حقوق المثليين ومزدوجي الميول الجنسية والمتحولين جرايم ريد، في حملة مجموعة منظمة "هيومن رايتس"، بالتعديلات التي أقرتها منظمة الصحة العالمية وقال: "يجب على الحكومات إصلاح الخدمات الصحية والقانونية الوطنية التي تتضمن هذا التشخيص الذي بات شيئاً من الماضي رسمياً".

في الوقت عينه، قالت تسع منظمات تعمل في مجال الهوية الجنسية في بيان مشترك "استغرق الوصول إلى هذه النتيجة وقتاً طويلاً، فحتى قبل بضع سنوات، كان من المستحيل عدم تصنيف أمراض المتحولين جنسياً ومزدوجي الجنس ضمن قائمة الاضطرابات العقلية"، وأضاف البيان "على رغم تحقيق تقدم في هذا المجال، إلا أن ذلك ليس وصفاً مثالياً إطلاقاً، فعلى سبيل المثال، اختزل تعريف صحة المتحولين على أنها مرتبطة بالصحة الجنسية فقط".

هل جاء الدليل الجديد لمنظمة الصحة العالمية ليمثل "كعب أخيل" للمتحولين جنسياً يدفع في طريق تحريرهم في جميع أنحاء العالم بعد إلغاء تصنيف المشهد على أنه من ضمن الأمراض العقلية والسلوكية بخاصة في البلدان التي يتحدث فيها النشطاء عن التشخيص الخاطئ والمناكفات التي تواجههم من قبل الطواقم الطبية عند مناقشة مسألة الهوية الجنسية؟

التساؤلات تجاوزت ذلك الحد إلى التطلع لجهة إزالة وصمة العار عن تلك الفئات التي تعدّ في نظر جماعات حقوق الإنسان مهمشة بالفعل. غير أن القضية، ولحساسيتها البالغة من جهة، ولتماسها المؤكد مع المنطلقات الدينية والإيمانية، بدا وكأنها تتقاطع طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً، مع التوجهات الدينية والإيمانية.

لم تكن وثيقة "الكرامة اللامتناهية" الصادرة أخيراً عن مجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان، هي الخطوة الأولى من نوعها التي تقترب من هذه الجماعات المثيرة للتفكير، فقد سبقتها وثيقة أخرى قبل نحو عقد من الزمان. ماذا عن ذلك؟

 

عن وثيقة ذكراً وأنثى خلقهما

في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2019، صدرت عن "مجمع التربية في الفاتيكان"، هذه الوثيقة التي تحمل عنواناً يكشف عن محتوى الوثيقة، إذ يتوقف عند المفهوم الأساس الذي وجدت عليه البشرية منذ بداية الخليقة، أي النوع الإنساني الثنائي، ذكراً وأنثى فقط، ومن غير الحديث عن النوع الثالث أو التحولات الجنسية الحديثة.

الوثيقة ترفض فكرة الهوية الجنسية وتصفها بـ "مفهوم مشوش للحرية في عالم المشاعر والرغبات".

مهمة هذا المجمع أنه يضع المناهج الرسمية للمؤسسات التعليمية الكاثوليكية وتصف الوثيقة التي حملت توقيع الكاردينال ورئيس الأساقفة أنجيلو زاني، التفكير الحالي حول الهوية الجنسية، بأنه محاولة "لإبادة مفهوم الطبيعة"، وتلفت الوثيقة إلى أن "الجهود المبذولة لتجاوز الاختلاف الجنسي التأسيسي بين الذكور والإناث، مثل أفكار المثليين أو المتحولين جنسياً تؤدي إلى رجولة أو أنوثة غامضة، وهذا يؤدي إلى ارتباك ثقافي وزعزعة استقرار الأسرة كمؤسسة".

هذا التذبذب، في نهاية الأمر، وبحسب الوثيقة، بين الذكور والإناث، يصبح مجرد عرض استفزازي ضد ما يسمى الأطر التقليدية للخليقة البشرية.

وتعتبر الوثيقة أن المؤسسات التعليمية، لا سيما الكاثوليكية، تعيش حالة من حالات "الطوارئ التعليمية"، ولا سيما في ما يتعلق بموضوعي العاطفة والجنس في مواجهة التحدي الذي نشأ عن "أشكال مختلفة من الأيديولوجية، التي تسمى عموماً بالجنس، والتي تنكر المعاملة بالمثل والاختلافات بين الرجل والمرأة"، وترى الوثيقة أن أحاديث التحول الجنسي تحمل على الابتعاد عن الطبيعة، فتصبح الهوية الجنسية والعائلة قائمتين على فهم خاطئ لحرية الشعور والرغبة.

وتتوقف الوثيقة عند المواضيع المنطقية التي تحدد محورية الجسد كعنصر جوهري للهوية الشخصية وللعلاقات العائلية، لأن الجسد هو ذاتية تنقل هوية الكائن، ويتم التذكير، بعدها، ببعض أمثال التحليل الفلسفي حول تنشئة الهوية التي تقوم على الاختلاف ووجود الآخر، ففي المواجهة مع الـ "أنت"، يمكن للمرء أن يتعرف إلى الـ "أنا".

وتركز الوثيقة كذلك على الحقيقة التي تولد من الأنثروبولوجيا المسيحية وتقوم الخطوة الأولى فيها على الاعتراف بالإنسان الذي يملك طبيعة لا يمكن التلاعب بها وبحسب الرغبة.

هذا هو ما تسميه الوثيقة، الأساس الإيكولوجي، المتكامل للإنسان، ويتم التذكير هنا بالحقيقة الأولى الواردة في قصة الخلق في "سفر التكوين"، أول أسفار التوراة أو العهد القديم، بأن الخالق خلق "ذكراً وأنثى"، وبأنه ينبغي فهم الطبيعة البشرية في ضوء وحدة النفس والجسد التي يُدمج فيها البعد الأفقي للشركة بين الأشخاص، والبعد العامودي للشركة مع الله. أما في ما يتعلق بالتربية فيتم تسليط الضوء على الحق والواجب التربوي للعائلة، والذي لا يمكن تفويضه لآخرين، وأنه من حق الطفل أن ينمو مع أب وأم، وأن يتربى على التعرف إلى جمال الاختلاف الجنسي، لا التحول الجنسي.

وكان من الطبيعي للغاية أن تنفتح أبواق الداعمين لحقوق التحول الجنسي ضد الوثيقة، فعلى سبيل المثال، قالت ماريان دودي بيرك المديرة التنفيذية لمنظمة "ديغنتي" الأميركية، وهي مجموعة تدافع عن مجتمع المثليين والمتحولين جنسياً، إن ما حملته الوثيقة خطير جداً، وغير محترم من قبل الفاتيكان، مضيفة "الوثيقة موجهة إلى المعلمين الكاثوليك الذين يستخدمونها كذريعة لفرض هذه التعاليم هو أمر خاطئ"، على أن الرؤية الفاتيكانية لقضية التحول الجنسي بدت وكأنها، أخيراً، تأخذ منحى آخر أشد رفضاً لهذا الناموس المنافي للطبيعة البشرية، بحسب الكرسي الرسولي، وهو ما تتفق معه غالبية الأديان. فماذا عن ذلك؟

عن وثيقة الكرامة الإنسانية بداية

خلال المجمع المنعقد في 15 مارس (آذار) عام 2019، قرر مجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان البدء في "صياغة نص يسلط الضوء على الطبيعة التي لا غنى عنها لكرامة الإنسان في الأنثروبولوجيا المسيحية، ويوضح أهمية الآثار المفيدة للكرامة الإنسانية". وصدرت الوثيقة في 25 مارس الماضي، حاملة توقيع الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز عميد المجمع، وتهتم في فك الاشتباكات التي جرت بين المفهوم الإيماني للإنسان، وما جرى من تطورات مجتمعية لا سيما في العقود الأخيرة.

وتقطع الوثيقة الأحدث بأن كل إنسان يمتلك كرامة لا متناهية، متأصلة بشكل غير قابل للتصرف في كيانه، وتتجاوز كل الظروف أو الحالات أو المواقف التي قد يواجهها الشخص على الإطلاق، وهذا المبدأ الذي يمكن الاعتراف به بالكامل حتى بالعقل وحده، يشكل أساس أولوية الإنسان وحماية حقوقه.

هنا وفي ضوء الوحي، تؤكد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وبحزم، على الكرامة الوجودية للشخص البشري، ومن هذه الحقيقة، تستمد الكنيسة أسباب التزامها تجاه الضعفاء والأقل قوة، مؤكدة، دائماً، على "أولوية الإنسان والدفاع عن كرامته فوق كل الظروف"، هذه الكرامة الوجودية والقيمة الفريدة والبارزة لكل رجل وامرأة في العالم قد تم التأكيد عليها بشكل رسمي في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1948 .

وجاءت الوثيقة الفاتيكانية في الذكرى الـ 75 لوثيقة الأمم المتحدة، وترى الكنيسة أنها فرصة لتعلن من جديد اقتناعها بأن جميع البشر يجب الاعتراف بهم ومعاملتهم باحترام ومحبة بسبب كرامتهم غير القابلة للتصرف، كما تتيح الذكرى فرصة للكنيسة لتوضيح بعض المفاهيم الخاطئة المتكررة بشأن كرامة الإنسان ومعالجة بعض القضايا الخطيرة والملحة ذات الصلة.

ماذا عن أهم القضايا التي تتناولها هذه الوثيقة؟

مؤكد أنها تشاغب العديد من القضايا الحرجة في حاضرات أيامنا، فعلى سبيل المثال، تتحدث عن الالتزام بحرية الفرد، والاحترام غير المشروط لكرامة الإنسان، وتتوقف كذلك أمام البنية العلائقية للإنسان، وتحرير البشر من المؤثرات السلبية في المجالين الأخلاقي والاجتماعي.

وتتناول الوثيقة كذلك قضايا من نوعية دراما الفقر، والحروب، ومعاناة المهاجرين، والإتجار بالبشر، والعنف ضد المرأة والإجهاض، وتأجير الأرحام والقتل الرحيم والمساعدة على الانتحار، عطفاً على تهميش الأشخاص ذوي الإعاقة والنظر إلى الجنس كمفهوم مجرد عن الكرامة الإنسانية وتسليعه في عالم سلع كل شيء حتى البشر.

التحول الجنسي والكرامة البشرية

كان من البديهي أن تتوقف الوثيقة مع مسألة التحول الجنسي، أو تغير النوع، تلك التي غيرت الكثير من الأوضاع، وبدلت العديد من الطباع حول العالم في العقود الماضية.

وتنص الوثيقة على أنه لا يمكن اعتبار كرامة الجسد أدنى من كرامة الشخص في حد ذاته، وتذكر بأن تعليم الكنيسة الكاثوليكية يدعو صراحة إلى الاعتراف بأن "الجسد يشترك في كرامة الفرد المستمدة من خالقه"، هذه الحقيقة تذكر الوثيقة بها، بخاصة عندما يتعلق الأمر بتغيير الجنس بالنسبة للبشر، لا سيما أن الروح لا تنفصل عن الجسد، بل إن الجسد يشكل السياق الحي الذي فيه تتكشف بواطن الروح وتظهر نفسها، كما تفعل أيضاً من خلال شبكة العلاقات الإنسانية.

يقول النص "النفس والجسد اللذان يشكلان كيان الإنسان، يشتركان في الكرامة التي يتميز بها كل إنسان، علاوة على ذلك، يشارك الجسد في تلك الكرامة لأنه مُنح معانٍ شخصية، لا سيما في حالته الجنسية"، وفي الجسد، يتعرف كل شخص إلى نفسه على أنه متولد من الآخرين، ومن خلال أجسادهم، يستطيع الرجال والنساء إقامة علاقة حب قادرة على توليد أشخاص آخرين .

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوثيقة تذكر ما توقف عنده البابا فرنسيس من قبل في قوله: "الخليقة أسبق منا ويجب قبولها كعطية، وفي الوقت نفسه، نحن مدعوون لحماية إنسانيتنا، وهذا يعني في المقام الأول، قبولها واحترامها كما خلقت".

ويترتب على ذلك أن أي تدخل لتغيير الجنس، كقاعدة عامة، يهدد الكرامة الفريدة التي اكتسبها الشخص منذ لحظة الحمل.

هنا قد يطرح أحدهما علامة استفهام بشأن الأشخاص الذين يولدون في صورة مركبة أو معقدة جنسياً، ولا نقول مشوهة، فهل هذه الوثيقة تقف في وجه هؤلاء وتضاعف من ظلم الطبيعة لهم؟

تقول الوثيقة "المفهوم المتقدم لا يستبعد احتمال أن يختار الشخص الذي يعاني من تشوهات تناسلية واضحة، بالفعل، عند الولادة، أو التي تتطور لاحقاً، تلقي المساعدة من متخصصي الرعاية الصحية لحل هذه التشوهات. ومع ذلك، في هذه الحالة، فإن مثل هذا الإجراء الطبي لن يشكل تغييراً في الجنس بالمعنى المقصود هنا".

وتحتاج هذه الوثيقة لمزيد من القراءة المعمقة، وتبدو وكأنها نوع من الحصون الأدبية في مواجهة صرعة مجتمعية تنادي بنوع معين من الانفلات، وهذا ما يقلق الكرسي الرسولي، لا سيما أنه حال التمادي في سياقاتها، يمكن للبشرية أن تستيقظ عند لحظة بعينها لتجد ذاتها مفرغة من الهدف الرئيس الذي خلقت من أجله، وهو إعمار الأرض والسعي في مناكبها.

وتبدو قضية التحول الجنسي، من هذه الزاوية، تحمل نوعاً من أنواع المؤامرات الحديثة على مستقبل البشرية، وتناسل البشر، وربما فناء هذا النوع مرة واحدة.

هنا ربما يتوجب علينا التساؤل: هل يمكن لهذا الصوت الفاتيكاني مع أصوات مؤسسات دينية أخرى كالأزهر الشريف أن تقف صداً في مواجهة هذه الدعوات المتعالية بذرائع حقوقية تبدو للبعض منحولة، في حين يراها البعض الآخر حقوقاً أصيلة؟

شيخ الأزهر و"هوس التحول الجنسي"

لا يكاد موقف شيخ الأزهر يفارق كثيراً رؤية البابا فرنسيس، لا سيما أن الكيمياء الإنسانية بينهما متصلة منذ بعض الوقت.

وكان للأزهر الشريف بوصفه عمق المؤسسة الإسلامية في العالم السني، موقف واضح، فقد تطرق فضيلة الإمام الأكبر لما وصفه بـ "هوس التحول الجنسي"، من دون وجود ضرورة طبية قاطعة، وذلك في مناسبة ما عرف باسم "اليوم العالمي للمتحولين جنسياً" في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.

في ذلك النهار كتب الدكتور أحمد الطيب، وبما لا يختلف في العمق الجوهري كثيراً، عما جاء في وثيقة "الكرامية اللامتناهية للفاتيكان"، وقال "خلق الله الإنسان وصوّره في أحسن صورة، وأراد لهذا الكون أن يسير وفق حكمته وإرادته وما نراه اليوم من هوس التحول الجنسي، من دون ضرورة طبية قاطعة، لهو أمر تأباه الفطرة الإنسانية السوية، وترفضه الأديان الإلهية، ثم هو محاولة بائسة لتغيير خلق الله، واتباع للشهوات تحت دعاوى الحريات الزائفة".

يمكن لنا في نهاية هذه السطور التساؤل: "ترى هل يمكن للمؤسسات الدينية، متحدة معاً، أن تشكل جبهة، تحفظ للإنسان كرامته، وتفصل بين ما هو في حاجة لمداواة طبية، وبين ما هو من باب البدع المنفلتة والحريات الزائفة؟

يبدو الجواب سائراً حائراً في دائرة الصراع مع العلمانيات الجافة، والأنوار التي تعمي، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي الأشهر ريجيس ديبريه.

هنا وفي غالب الظن، فإن قضية التحول الجنسي سوف تمثل واحدة من المعارك القائمة والمقبلة، لا سيما أن هناك حكومات غربية ذات توجهات فائقة الليبرالية، تربط بين نظرتها ومعاييرها الخاصة لهذه الإشكالية، وبين دعمها ومساعداتها لدول بعينها، ترفض الانجرار الأعمى وراء صيحات التحول النوعي، ويبقى الخلاف سيد المشهد إلى أجل غير مسمى.

المزيد من تقارير