Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تولد الفضيحة بعد الموت

ما الذي يجمع بين هارولد ويلسون وفرانسوا ميتران وجون ف. كينيدي ومحمود درويش وغادة السمان؟

الفضيحة تعيش بعد رحيل أبطالها ("اندبندنت عربية")

ملخص

أسرار متوارية وحكايات دفينة ظهرت إلى العلن بعد رحيل أصحابها، سواء بإرادة طرف معني بتلك الأسرار أو الحكايات أو عن طريق النبش خلف الأبواب المغلقة

استعاد الإنجليز، ومعهم صحافتهم بشقيها الرصين والرخيص، سيرة رئيس وزرائهم الأسبق هارولد ويلسون (1916 ـ 1995). بدا أنهم استذكروه في الوقت المناسب. فالمملكة العريقة تنوء تحت عاصفة اقتصادية هوجاء، واجه مثلها ويلسون خلال فترتي حكمه من 1964 إلى 1970 ومن 1974 إلى 1976. استطاع يومها رئيس الوزراء العمالي التخفيف من مضاعفات الأزمة بسياسات معتدلة. لكن الرأي العام البريطاني لا يستذكره ـ اليوم ـ لاستعارة ما هو مناسب من علاجاته السالفة للعلل الحالّة. استذكروه فقط بسبب "لطخة" في سيرته الشخصية. هم شغوفون بالغبار العالق بالأسماء. يبتهجون بالملابس المبقعة، أو عندما تصبح مجرد أسمال. اكتشفوا أن رئيس الوزراء القديم كان خلال فترة ولايته الثانية على علاقة مع إحدى موظفاته. ليس مهماً، هنا، أن يكون المعني محافظاً أو عمالياً. الفضيحة المجلجلة أهم من السياسة، حتى ولو كان صاحبها قد غادر الدنيا مخلفاً وراءه سمعته الناصعة أو... الملطخة.

تقول التقارير التي نشرت إن ويلسون كان على علاقة مع نائبة السكرتير الصحافي الخاص به جانيت هيوليت-ديفيز خلال سنته الأخيرة في داونينغ ستريت.

لم تراع الصحافة البريطانية قانون الخصوصية (الإنساني) للطرفين بعد رحيلهما، أو رحيل أحدهما. المبدأ في عرفهم هو الوظيفة العامة، بما تقتضيه من شفافية وعلانية. هارولد ويلسون تنبه في حياته إلى ما يمكن أن يلحق بسمعته خصوصاً عندما لاحقته اتهامات بالخيانة الزوجية، نفاها بشدة، وربح دعوى قضائية في هذا الشأن. لكنه لم يتنبه أنه سيصبح ضحية عندما يذهب إلى مستقره الدائم والأخير.

جيران الإنجليز الفرنسيون لهم في حياتهم وحيوات سياسييهم والمشهورين عندهم مذاهب أخرى. يرفعون حواجبهم عجباً عندما يسمعون ضجيج أهل المملكة المتحدة، حول ما يتداعى من السير الذاتية لأصحاب المناصب وذوي الشأن. فما يجري خلف الأبواب المغلقة يخص أصحابه فقط، سواء كانوا من الحكام أو العوام. ولذلك فإنهم تقبلوا برحابة صدر ما تكشف من سيرة رئيسهم الاشتراكي فرانسوا ميتران (1916 ـ 1996). بعد رحيله نحّوا اختلافاتهم حول هويته السياسية جانباً، واحتفوا بابنته السرية مازارين بما تستحق كابنة رئيس جمهورية. استمعوا لها بشغف وهي تروي حكايات عن العائلة التي ظلت لسنوات خلف الحجب. فرحوا بما كان يبديه الرئيس من عطف أبوي. كانوا ينظرون إليه في السابق كصاحب وجه صارم، يهوى المناقشة إلى حد المناكفة، ويفضل صفحات الكتب على واجبات المكتب. بعد الرحيل أصبح الرئيس المحبوب من ابنته ومن شعبه.

ميتران الراحل عن عشيقة سرية، وابنة غير شرعية، منح الجرأة لخلفه جاك شيراك (1932 ـ 2019)، لكي يعترف في مذكراته "كانت هناك نساء أحببتهن، بتكتم وسرية قدر الإمكان". فحفظ مكانه في مخيلة وقلوب أبناء شعبه.

على الضفة الأخرى للأطلسي يعشق الأميركيون "الجلجلة" التي تحدثها حكايات أولئك الذين نقلتهم أصواتهم الانتخابية إلى مراكز الحكم، سواء في البيت الأبيض أو مجلسي الكونغرس، أو على مستوى الولايات وحكامها. لا شيء في عرفهم ينبغي أن يبقى طي الكتمان. كل تفصيل يصلح لأن يكون قصة هوليوودية فضفاضة وبراقة. لا فرق أن يكون البطل نابضاً بالحياة، أو خامداً تحت التراب. جون ف. كينيدي، الرئيس الـ35 للولايات المتحدة الأميركية ترك لمواطنيه رواية ما زالت الأجيال تردد صداها.

بين ظهراني الأميركيين ظهر جيفري إبستين. ملياردير عاش بين لجج الفضيحة ومات في أعماقها. لكن ما تكشف بعد انتحاره عن حكايات جزيرته العجائبية وأبطالها وزوارها تجاوز الخيال السينمائي. إنها الحياة الفوارة التي يعشقها الأميركيون، سواء أفرجت عنها الصدور أو انبعثت من بين القبور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عند العرب ترتدي الفضيحة أقنعة سوريالية، يتلاطمون بها وحولها. هي تهمة جاهزة يطلقها الكل في وجه الكل، وينكرها الكل بالأصالة أو بالنيابة. هذا ما حصل بالضبط عندما تعرضت سمعة محمود درويش للخدش. كتب سليم بركات الشاعر والروائي السوري فصلاً في كتاب عن صديقه الشاعر الفلسطيني الأشهر، نشرته إحدى الصحف. أذاع بركات اعترافاً قال إن درويش أدلى به بين يديه خلال سهرة. فهو (أي درويش) أنجب ابنة من علاقة عابرة مع سيدة متزوجة. لم ينته الاعتراف بالنقطة التي وضعها الصديق الثرثار على آخر السطر. إذ هاجت قبائل الدرويشيين وماجت في الدفاع عن شاعرها المنزّه، وانزلق بعضهم في معارج عنصرية وهم يذكّرون بهوية سليم بركات الكردية. كاد المنافحون يطهّرون درويش من وحل الدنس بدثار العصمة. ولو كان صاحب "الجدارية" على قيد الحياة لما اختار أبداً ذلك التجاوز "التأليهي" على شخصه. هو شاعر مجيد لأنه إنسان، وليس إلهاً أو نصف إله. ووسط غبار المعركة لم ينتبه المتلاطمون إلى أن المقصد الأول لسليم بركات في فصله الدرويشي هو القول إن شاعريته أجلى من شاعرية صاحب "مديح الظل العالي". قدم صاحب "الجمهرات" ذاته الشعرية على حساب صديقه، في غفلة ممن انساقوا وراء حكاية الابنة "الشعرية" أو... غير الشرعية.

على طريق بركات، سارت مواطنته غادة السمان ولكن بمسحة رومانسية. نبشت في أدراجها السرية واستخرجت أوراقاً مكتوبة باعتلاجات الصدور ولهفة القلوب. لام اللائمون الروائية التي كتبت بجرأة "أعلنت عليك الحب"، لأنها سمحت لأشواق مكتومة أو حبيسة الورق والحبر أن تصبح مشاعاً بما تكتنزه من حسرات وتأوهات. سيرثي كثر حال غسان كنفاني وأنسي الحاج (وربما نزار قباني، وسمعت من رابع أنه نجا من التأويل والرثاء، لأنه لم يدلق مشاعره على الورق). ربما زرعت المحبوبة الأشواك على طريق المحبين، لكنها جعلتهم يمشون فوق خناجر مسننة بعد رحيلهم. لم يغفر البعض انتهاك السرية والخصوصية على هذا النحو. لكن مراجعة جديدة لرسائل غسان كنفاني ربما تمنح القصة زاوية أخرى للنظر، غير تلك التي تخص المرسل والمتلقي.

كتب غسان رسالة إلى غادة بتاريخ الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1966، من... غزة GAZA (وردت التسمية في الرسالة  باللغتين).

أي أشهر قبل أن يصبح الحب مجبراً أن يشهر نفسه فوق حراب الحرب. يعطي صاحب "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا" إشارات مبكرة عن المدينة المحاصرة بالنار والدمار. يقول:

"كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها، ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين، وأنا، وأنت، في هذه القارورة الباردة من العزلة والضجر. إنه الصباح، وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا؟ ثم جئنا جميعاً إلى هنا: أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب، موجود بينهم أكثر مما كنت أنا.

إنني معروف هنا، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع، أكثر بكثير. وهذا شيء، في العادة، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني. طوال النهار والليل أستقبل الناس، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً، وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي. إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضاً بذل من طراز صاعق………

ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي... أنا لم أفقد صوابي بك بعد، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنت أذكى وأنبل وأجمل (...)".

كان يمكن لعشق غسان كنفاني، ومن بعده أنسي الحاج، أن يبقى طياً عند منبعه الأول، لكن الحبر ـ كما الدم ـ فضّاح ولو بعد حين.

المزيد من متابعات