Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متاحف بيروت تتجاوز "سكتة المرفأ" وتعاود الحياة

جهات خارجية حريصة على الإرث الثقافي للبنان رممت الأضرار التي لحقت بها جراء الانفجار الهائل وفتحت أبوابها للزوار من جديد

ملخص

ألحق انفجار مرفأ بيروت أضراراً هائلة بمتاحف العاصمة التي صمدت في حروب كبرى سابقة... فكيف حافظت هذه المتاحف على مقتنياتها بعد كل الدمار الذي لحق بها؟

تعد متاحف لبنان وجه التراث اللبناني ومرآة هويته الثقافية الصامدة في الأزمات والحروب، وقد تعاقبت على هذه المتاحف حروب عدة، لكنها تمكنت من الصمود بكامل مقتنياتها أو بجزء منها في الأقل، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت الذي تسبب في أكبر الأضرار بعديد من متاحف بيروت.

وعلى رغم أن انفجار مرفأ بيروت بكل ما تسبب فيه من أضرار ودمار حصل وسط الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد استطاعت هذه المتاحف أن تعاود النهوض وفتح أبوابها أمام الزوار بفضل الدعم الخارجي من قبل جهات ومتخصصين ودول تقدر الإرث الثقافي وتدرك أهميته للحفاظ على الوجه الحضاري للبلاد.

المتحف الوطني... ذاكرة تاريخ لبنان

هو المتحف الرئيس للآثار في لبنان وذاكرة تاريخ البلاد منذ افتتاحه عام 1942 خلال الحرب الأهلية التي اندلعت شرارتها في منتصف السبعينيات. وتعرض المتحف لأضرار جسيمة، لكن كان من الممكن إنقاذ معظم القطع الأثرية فيه. ووفق المدير العام للآثار سركيس الخوري فإنه خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة حرص أول مدير عام للآثار الأمير موريس شهاب على حماية المتحف الوطني بكل ما فيه من قطع أثرية ثمينة، فخبأها داخل الباطون المسلح، فيما أخفى القطع الصغرى في المستودعات تحت الأرض وبنى حائطاً أمامها، ثم نشر إشاعة مفادها أن القطع الأثرية هربت إلى خارج لبنان ليحمي هذه المجموعة من الميليشيات. وفي عام 1990 كان من الممكن إخراج هذه القطع من الباطون حيث أخفيت. ومع بناء امتداد للمتحف حديثاً في قسم جديد يفتتح قريباً أجريت حفريات أثرية وكشف عن القطع الأثرية التي حافظ عليها، لكن ترميم القطع يتطلب وقتاً طويلاً من قبل متخصصين لبنانيين ومن الخارج بسبب تأثرها بالرطوبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإثر انفجار المرفأ تضرر المتحف الوطني كباقي متاحف بيروت ومبانيها، وانطلاقاً من مهامها في حماية المباني الأثرية، ومن ضمنها المتاحف، رممت المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة الثقافة المتحف الذي تعرض لأضرار عديدة في مبناه، بينما بقيت القطع الأثرية فيه سليمة. وحصلت عمليات الترميم بمساعدة من منظمة "ألف" لحماية التراث التي تقدمت بمبلغ خمسة ملايين دولار للحفاظ على التراث اللبناني، وقد أجريت عمليات الترميم وتدعيم المبنى عبر متحف اللوفر الفرنسي، كما يقام حالياً له نظام طاقة شمسية.

بحسب الخوري، تعرض في المتحف الوطني بطوابقه الثلاثة 2800 قطعة أثرية تعبر عن تاريخ لبنان منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا بتراثه المادي واللامادي، وتظهر شعائر جنائزية وتبادلاً تجارياً بين الإمبراطوريات وغيرها. وفي المتحف الوطني قطع تعود إلى 200 ألف سنة مضت. وفيه مقتنيات من جميع الحضارات التي مرت في لبنان والعهود، بما يسمح بفهم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف الحقب، ويظهر فيها التأثير الإغريقي والفارسي والروماني، وغيرها.

 

 

يتميز المتحف الوطني عن جميع المتاحف، وفق خوري، بكون كل القطع التي فيه من أرض لبنان، وقد اكتشفتها المديرية العامة للآثار في الحفريات التي تقوم بها في مختلف المواقع الأثرية في البلاد. فهي تحضر القطع وتجري دراسة عليها وتضعها بمعظمها في المستودعات فيما تختار منها إحدى القطع المميزة التي تعبر عن الموقع الأثري وعن تاريخ لبنان.

ويصف الخوري المتحف الوطني بجوهرة لبنان وذاكرته، كونه يعكس تاريخ البلاد بجميع تفاصيله. فوراء كل قطعة فيه قصة يمكن اكتشافها، لأن للتراث بعداً لا مادياً، إضافة إلى البعد المادي.

متحف الجامعة الأميركية... آخر الأضرار وأكبرها

يعد المتحف الأثري للجامعة الأميركية في بيروت الأقدم في الشرق الأدنى بعد متحفي القاهرة والقسطنطينية. ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1868 في الحقبة العثمانية، وذلك بعد أن قدم لويجي بالما دي سيسنولا مجموعة من الفخار القبرصي إلى الجامعة الأميركية لدى إقامتها في بيروت. وبين عامي 1902 و1938 حصل المتحف على مجموعات من مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وخلال الحرب العالمية الثانية بقي مقفلاً قبل أن يعاد افتتاحه عام 1948.

في خمسينيات القرن الماضي تضاعفت مساحته مع تجديده وأعيد افتتاحه في عام 1964. كما بقيت أبوابه مفتوحة خلال الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990. وخضع لعملية ترميم كاملة عام 2006، وأضيف إليه طابق زاد من مساحته بمعدل الخمس.

 

 

وتوضح مديرة المتحف نادين بانايوت لـ"اندبندنت عربية" أنه يضم مقتنيات من المنطقة وجدت منذ عام 1865، وكان من الممكن التوسع فيها من خلال هبات، لكن توقف تدفق المقتنيات خلال الحروب بعكس ما يحصل في المتاحف الأخرى، إذ إن لبنان من الدول التي وقعت على اتفاقيات دولية كاتفاقية "أونيسكو" التي تمنع الاتجار بالتحف الأثرية، وهو ملتزم إياها، لذلك منذ توقيع هذه الاتفاقية لا تباع أو تؤخذ تحف أثرية.

تؤكد بانايوت أن المتحف موجود منذ ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير، مما يؤكد عراقته وأهمية مقتنياته، لكن ينقص الوعي حول أهميته، وهناك استخفاف بالحقب التي مر بها.

عاش المتحف حروباً عدة، وتعرض خلال بعضها للقصف المباشر، بدءاً من الثمانينيات، وكان من الممكن حفظ ما تبقى من مقتنياته، حتى إن ثمة قطعاً تشهد على القصف، لكن تفصل مديرة المتحف بين ما تعرض له المتحف سابقاً وما أصابه في انفجار مرفأ بيروت، إذ تعرض للأذى الأكبر، وكانت المرحلة الأكثر صعوبة. تقول، "أسست خلية إنقاذ مع طلاب متخرجين في قسم الحفاظ على الإرث الثقافي كمتطوعين لإنقاذ المتحف ومقتنياته إثر انفجار مرفأ بيروت. وبعد التقويم تبين أن أكثر متحفين تضررا في انفجار المرفأ هما في الواقع متحف سرسق ومتحف الجامعة الأميركية في بيروت. وكانت فترة صعبة، خصوصاً أن المتحف عاش مرحلة فراغ إداري لدى حصول الانفجار، ولم أكن قد تسلمت إدارته بعد، لكني كنت أعرف كل زاوية فيه منذ 30 سنة، مما ساعدني لأعمل مع فريق المتطوعين على استعادة مقتنياته. الدمار الذي حصل فيه استفزني كما استفز الكل، مما حفزنا على بذل كل الجهود في عمليات الترميم. وجدنا 47 قطعة أرضاً مدمرة بالكامل بصورة غير قابلة للترميم. والمتحف الذي تمكن من الصمود في الحربين العالميتين والحروب اللبنانية خسر خلال ثوانٍ في انفجار المرفأ مجموعة قيمة أقارنها دوماً بالفراشات".

على رغم الدمار الذي تعرض له المتحف، حرص فريق المتطوعين بإدارة بانايوت على بذل كل الجهود اللازمة لإنقاذ ما أمكن من المقتنيات القيمة واستعادة تلك التي تضرر منها. حصل ذلك خلال الأزمة وكثرت العوائق، لكن أجريت كل الاتصالات اللازمة لإنقاذ المقتنيات.

 

 

تشير مديرة المتحف إلى أنها طلبت قفازات من نوع خاص مع الورق غير المتوافر في لبنان للبدء بالعمل وجمع القطع المتكسرة. ومما ساعد على استعادة مقتنيات المتحف وترميمها هو التعاطف اللافت والتجاوب من قبل المتخصصين والمعنيين بالإرث الثقافي من خارج لبنان، إذ أرسل فريق من المتخصصين في الترميم من فرنسا مع أدوات خاصة. وبفضل التكاتف كان من الممكن في مرحلة أولى جمع القطع عشوائياً مع زجاج النوافذ الذي تطاير بالكامل قبل أن تنتظم الأمور. حتى إن أبواب المتحف وعمرها أكثر من 150 سنة دمرت بالكامل قبل أن يعاد ترميمها، فيما حرصت الجامعة الأميركية على ترميم المبنى من الخارج.

في عملية الترميم كان من الممكن عزل الزجاج الجديد عن ذاك القديم بتمويل من منظمة "ألف"، التي أرسلت اختصاصيين. كما قدم المتحف البريطاني يد العون واستقبل ثماني قطع مكسورة بالكامل وأعاد ترميمها ثم أعادها إلى المتحف، حتى إن أحد الخبراء في الترميم عرض الحضور بمبادرة شخصية من الولايات المتحدة خصيصاً لترميم المقتنيات الزجاجية المدمرة. وكان من الممكن إنقاذ قسم إضافي من هذه المقتنيات ليعود المتحف ويستقبل زواره من جديد. كما أقام المتخصص في ترميم القطع الأثرية ورش عمل لطلاب الجامعات في لبنان حول مبادئ الترميم.

تشير بانايوت إلى أنها كانت حريصة على ترك أثر مما لحق بالقطع من أذى في الانفجار ليبقى ما حصل في الذاكرة لأجيال المستقبل. مؤكدة أن هذه القطع التي عاشت آلاف السنوات وصمدت في الحروب، ستبقى في الذاكرة حتى لا ينسى أحد ما حصل.

متحف سرسق... الأكثر تضرراً

كان أكثر المتاحف تضرراً في انفجار مرفأ بيروت، لكنه خضع حينها إلى عملية ترميم واسعة بمساعدة متخصصين في الترميم قبل أن تكون لهذا المتحف، الذي يعد أحد أبرز معالم بيروت، ولادة جديدة ويعاود فتح أبوابه لزواره بعد مضي قرابة ثلاث سنوات على أعمال الترميم في ظروف لا تخلو من التحديات.

وكان نقولا إبراهيم سرسق قد بنى القصر عام 1912 في "حي السراسقة" في بيروت الشهير بقصوره وبمبانيه الفخمة. وانتقلت ملكية القصر بناءً على وصية صاحبه إلى بلدية بيروت من عام 1952، وتحول إلى متحف عام 1961 مع افتتاح "معرض الخريف" الذي أصبح تقليداً سنوياً في الوقت نفسه.

 

 

خضع المتحف لعمليات ترميم عدة في تاريخه وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت، الذي تسبب بأكبر الأضرار التي طاولت نسبة 50 إلى 70 في المئة منه. فسقطت الزجاجيات الملونة التي تميز مبناه كاملة، ودمر الصالون العربي والأسقف والبناء. كما تعرضت مقتنيات المتحف من لوحات ومنحوتات إلى أضرار جسيمة، إذ تضررت أكثر من 57 لوحة ومنحوتة.

توضح مديرة المتحف كارينا الحلو لـ"اندبندنت عربية" أنه لولا التمويل والدعم من جهات مانحة خارجية لما استطاع هذا الصرح العريق أن يفتح أبوابه أمام زواره من جديد. وكانت فرنسا وإيطاليا الجهتين الممولتين لإعادة الحياة إلى المتحف وتأهيله ليستقبل زواره من عشاق الفن من جديد لحرصهما على الوجه الثقافي للبنان. وكان الدعم الرئيس من وكالة الإنماء الإيطالية ووزارة الثقافة الفرنسية، ومن التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (ALIPH)، ومنظمة "يونيسكو"، في إطار مبادرة "لبيروت" التي أعطته أولوية لدور المتحف البارز في تاريخ بيروت، ولأهميته المعمارية والحضارية كمتحف يعود بناؤه إلى عام 1860. أما الزجاجيات الملونة فقدمتها مجاناً إحدى الجهات المانحة.

المتحف استعاد هندسته الأساسية من دون تغييرات تذكر باستثناء بعض التحسينات التي تتطلبها المرحلة الحالية وبعض الإضافات البسيطة مثل أرجوحة جميلة هي تذكار من أهل الطفل الأسترالي إيزاك (Isaac) الذي يعد أصغر ضحايا انفجار المرفأ، والذي كان من عشاق المتحف. كما قدمت مؤسسة "غايا" (Gaia Foundation) أيضاً تذكاراً في صورة مقعد صممته.

 

 

مرة جديدة استطاع المتحف أن ينهض كما بعد حروب سابقة، لكن قد يكون انفجار مرفأ بيروت أصعب التجارب التي مر بها، فاختلف الدمار هذه المرة عما تعرض له من أضرار سابقة، وهي أضرار اعتاد عليها المتخصصون في ترميم المعالم الأثرية. أما هذه المرة فكان الترميم مختلفاً وشكل تحدياً صعباً وتطلب وقتاً طويلاً. وقد يكون تضرر مقتنيات المتحف من أبرز التحديات في عمليات الترميم. فترميم اللوحات والمنحوتات يتطلب مهارة وحرفية عالية من قبل متخصصين في هذا المجال، وهو لا يعد من التخصصات الشائعة في البلاد. لذلك كان لا بد من اللجوء إلى جهات في خارج لبنان للمشاركة في عملية ترميم اللوحات المتضررة بنسبة عالية، ومنها لوحة الفنان الهولندي الفرنسي كيس فان دونغن لنقولا سرسق من عام 1939. وتكفل مركز "بومبيدو" في فرنسا ترميمها، وعرضت لديه حتى تعود إلى المتحف من أجل حفل إعادة الافتتاح. وأيضاً لوحة الفنان اللبناني بول غيراغوسيان من عام 1970، والتي ترك فيها أثراً من الضرر الناتج من الانفجار عمداً على سبيل الذكرى. وقد عمل على ترميم هذه الأعمال الفنية على مدار نحو ثلاث سنوات متخصصون لبنانيون وفرنسيون.

متحف الجامعة اليسوعية... كل جذور لبنان

يضم متحف عصور ما قبل التاريخ اللبناني في الجامعة اليسوعية بالعاصمة بيروت مجموعة من اللقى والآثار التي جمعها الآباء اليسوعيون بين القرن الـ19 والحرب الأهلية، فقد بدأوا بالاستكشاف والتنقيب والدراسات، وجمعوا مجموعات كبيرة تتضمن بقايا عظام بشرية وحيوانات برية وكسر فخار من عصور ما قبل التاريخ. وجمعت هذه الآثار خلال رحلات استكشافية قام بها الآباء اليسوعيون في مختلف الأراضي اللبنانية لتعكس تفاصيل كثيرة عن الجذور اللبنانية، وتؤكد أن جذور لبنان ما قبل التاريخ تعود إلى مليون سنة، بحسب الأبحاث. وهو ما أظهرته قطع وجدت في موقع يعرف ببرج كاناريت في منطقة صيدا.

كانت هناك نواة للمتحف من ستينيات القرن الماضي بوجود مكتبة ومختبر، لكنه اتخذ صورته الحالية وصارت له سمة متحف وفتح أبوابه أمام الناس عام 2000، وهو لا يتضمن إلا مقتنيات من عصور ما قبل التاريخ في تسلسل زمني يظهر مختلف الحقب. كما يقيم ورش عمل ونشاطات تربوية وتثقيفية في مجال اختصاصه، إضافة إلى مشاركته في أبحاث علمية، بحسب مديرة المتحف مايا بستاني.

خلال الحرب الأهلية، سرقت ربما بعض مقتنيات المتحف، لكن لا توثيق حول ذلك. أما في انفجار المرفأ فقد تضرر كما تضررت جميع المتاحف والأبنية في بيروت. وتشير بستاني إلى أن الأذى الأساس طاول المبنى والهيكل من أبواب خارجية وداخلية ونوافذ وخشب، لكن شاء القدر ألا تتأذى مقتنياته والمجموعات التي يصعب كثيراً ترميمها لو تضررت. وقد كان ممكناً ترميم المتحف بمساعدة خارجية وجهات داعمة للإرث الثقافي قبل أن يعاود أنشطته في العام الماضي.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات