Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

  راوي الحاج يكتب في "كلاب شاردة" قصص الشك

في مجموعته الجديدة يستعيد أعطاب الماضي ويكشف غربة الذات في العالم

لوحة للرسام دييد كولوان (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

رواي الحاج روائي كندي، لبناني الاصل، يكتب بلإنجليزية، وقد أصدر روايات عدة لقيت نجاحاً في العالم الأنغولفوني، وفازت روايته "لعبة دونيرو" بجوائز مهمة. لكن الحاج يكتب القصة أيضاً وصدرت له مجموعة بعنوان "كلاب شاردة" ترجمت حديثاً إلى العربية. في قصصه يقدم الحاج رؤيته العبثية والساخرة إلى العالم.

 يقدم الكاتب الكندي، اللبناني الأصل، راوي الحاج (1964)، في مجموعته القصصية "كلاب شاردة" (ترجمها إلى العربية أسامة أسعد، وصدرت حديثاً عن شركة المطبوعات- بيروت)، رؤيته إلى العالم من زاوية كونه مصوراً فوتوغرافياً محترفاً، في الأصل، ومثقفاً معتبراً في بلاده الثانية، كندا، التي اتخذ جنسيتها، ويكتب بلغتها الإنجليزية. ومن المعلوم أن الحاج كان أصدر روايات عدة منها "مصائر الغبار" و"الصرصار". وفازت روايته الأولى "لعبة دنيرو" بجائزة ماك لينان، وجائزة فرست بوك برايز، وغيرهما، وترجمت إلى 20 لغة، وفيها يروي الكاتب سيرة شخصيتين نموذجيتين، بسام الشخص الشكاك الذي يحيا على هامش المجتمع، في حين أن صديقه جورج، المتهتك، يصير ميليشياوياً وقاتلاً في عز الحرب الأهلية اللبنانية أوائل الثمانينيات.

في القصة الأولى، بعنوان " المتمرد"، يحكي الراوي - وهو اسم المؤلف الحقيقي - بعضاً من سيرة مصور وكاتب في آن واحد، كان تلقى دعوة للإقامة في برلين والكتابة فيها، وتعين عليه الإقامة لدى زوجين ألمانيين، لوكاس وهانا. ولما كان لوكاس مصوراً فوتوغرافياً سابقاً، كانت صديقته هانا موظفة في مكتب، مما أتاح للراوي أن ينقل جانباً من الحوارات التي دارت بينهما حول المخصصات المالية التي تقدمها الدولة الألمانية للكتاب الأجانب، "بينما يجب أن تخصص هذه الأموال للبرامج الاجتماعية" (ص:11)، على قول لوكاس.

وفي المقابل، يقول له الراوي - البلااسم - إنه يتفهم سلوك الألمان القصي والحذر "تجاه الغرباء"، وإن هذا مما يزيده فضولاً في التعمق بمعرفة الشخصية الألمانية. ولم يطل المقام بالراوي حتى قرر لوكاس أن يبادله الزيارة إلى بيروت مع هانا. يتدبر الراوي لهما إقامة لدى صديق، يكتشف لوكاس خلالها بيروت على صورتها "الحديثة جداً"، ويخطر له أن يتخذ قراراً ينم عن مبالغة مضحكة، بأن يترك صديقته هانا ليمضي إلى حبيبة شابة عربية، ومن ديانة أخرى... حسبه أن المهم مواكبة الذات في تبدل صورها وزوال هذه الصورة، لا في زوال الذات، على ما يقول: "في حين كان عملي يدور بالفعل حول الزوال، إلا أنه لم يكن يتناول تيمة زوال الذات، بل زوال صورة الذات"، (ص:13).

ولعل هذا ما كان الكاتب يقصد بعنوان القصة "المتمرد"، أي ذلك الكائن الذي يجرؤ على تحطيم الصور النمطية التي كثيراً ما اعتد بها الأفراد والجماعات.

فضح الذات الجماعية

في قصة "أمة الطيور"، أو بالأحرى المقالة الموشحة بقليل من السرد، يشن الكاتب راوي حاج حملة شعواء على أبناء بلاده، آكلي القمح ومستهلكيه، على أنه السبب الأول في سمنتهم، وأمراضهم، إلى جانب أمور أخرى. ومن يتابع النص، ينتبه إلى أن الكاتب جعل القمح باباً للدخول إلى معتقدات أهل بلده، وأنماط عيشهم ومبالغاتهم، وتخلفهم أحياناً كثيرة، ويورد، على سبيل المثال، ظاهرة استخدام المزارعين مبيد الآفات الممنوع عالمياً (دي دي تي)، والمؤدي إلى إصابات بالسرطان. كما يتطرق إلى الصيد، وشيوع ظاهرته بين العامة، بدءاً من أواخر الخمسينيات، والتباهي باقتناء أسلحة الصيد، ورحلاته الكثيرة إلى الأرياف والبوادي. وينتقل بعد ذلك إلى تسليط الضوء على ظاهرة السيارات الفخمة، وذات الزجاج الداكن، التي راجت بفعل الدعاية والتقليد الأعمى بين فئات المجتمع اللبناني الميسورة. ولكن الكاتب لا ينسى أن يختم نصه بمقطع سردي تخييلي، يصور فيه الناس العاديين (الفقراء المعدمين) في بلاده، والزاحفين تحت سيارات الهامر ذات الزجاج الداكن، وقد صاروا طيوراً تحوم فوق الطرقات. وعندئذ يعمد السياسيون وأزلامهم إلى رميهم بنيران بنادقهم: "عندما بدأ الناس يتحركون، أعلى وأبعد، رفع سياسي وحارسه الشخصي بندقيتيهما ووجهاهما نحو السماء"، (ص:31).

الشيق في كتابة حاج القصصية أنه لا يسرد قصة إلا انطلاقاً من فكرة أو تيمة أو قضية تخدم رؤيته الشكاكة إلى العالم، في سرد يخالطه الرمز، ويتسرب إليه الشعر والفلسفة والأحداث الراهنة، مع ميل راجح إلى السوداوية. في القصة الثالثة المعنونة "كلاب شاردة" - وهي عنوان الكتاب نفسه - يعالج الكاتب تيمة محورية، غالباً ما يتطرق إليها الكتاب من أصول شرقية، وهي ملاحظة الفروق بين شعبين، بين حضارتين، ولكن بناءً على معطيات حسية، يخدم السرد في عرضها وتبيانها. ومفاد القصة أن شخصاً، عربي الاسم، يدعى سمير معروف، وفلسطيني في جنسيته الأولى، دعي إلى طوكيو للمشاركة في مؤتمر حول التصوير الفوتوغرافي الياباني، وكان عليه أن يلقي مضمون مقالة أعدها حول صورتين لكلبين لمصور ياباني يسمى كوديلكا، تحمل كل منهما بعداً أسطورياً. وفي المقالة راح الكاتب سمير معروف يجري مقارنة بين كلبي الشرق العربي والحضارة اليابانية. وبينما هو كذلك أخذ يعرج على سيرته الشخصية، كلما احتاج إلى مثل على اختلاف أو تباين بين الرؤيتين إلى العالم، فعلى سبيل المثال، قال معروف - بحسب القصة - إن الثقافات العربية والإسلامية تحتقر الكلاب، فهي "لا تجوز تربيتها إلا لأمرين هما الصيد والحراسة". وينتقل من ثم إلى مسألة أن الغرب سيظهر فضولاً جديداً لاكتشاف الحضارة العربية والإسلامية، بعد زوال ردة الغضب الأولى الناجمة عن انهيار البرجين، في الـ11 من أيلول (سبتمبر) عام 2001. وفيما يتحدث عن الجنس بل المظاهر الجنسية الغائبة كلياً في الثقافة والفن اليابانيين، والعائدة إلى المعتقدات، ولا سيما من حقبة دايدو، يستحضر التناقض الحاصل بين الكبت الجنسي لدى العرب، وبين خلاعيته وممارسته الجنس مع فتاتين معاً، إلى جانب استمتاعه بالمآكل الطليانية.

 وبينما هو كذلك، يستطرد إلى الحديث عن ابنة عمه سعاد، التي يجعلها عنواناً آخر للنفاق الاجتماعي الساري في المجتمعات العربية، تروج له الصور العائلية، ولا سيما صورة زفاف ابن العم. يقول: "أغضبته الصور، أغضبه نفاقها. كانت الصور قد أخذت قبل زفاف ابن العم مباشرة. وبدا الجميع سعداء. لكن ما حدث بعد التقاط هذه الصورة كان شنيعاً. حدثت معركة رهيبة، وألغي حفل الزفاف. راح يمزق الصورة ببطء. أولاً إلى نصفين، ثم جانب والده، ثم هو وسعاد في المنتصف، ثم جانب والدته. ببطء، فقد كل واحد رأساً أو ذراعاً أو ساقاً..."، (ص:45). وفيما بدا سمير منهمكاً بأخذ الصور الفوتوغرافية لمعالم مدينة شينجوكو، إلى حيث دعي، والرياح تعصف على أشدها، اتصل بمنزل والديه في السعودية، فسمع نحيباً. قيل له إن والده توفي للحال. فحضرته آخر جملة قالها هذا الوالد، وهو يغادر قريته بفلسطين، مهجراً منها مع عائلته: "رحلنا، لكن الكلاب بقيت"، (ص:48).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقيس الكاتب راوي حاج جيداً خلطاته، ويركب سرده على الحدود بين الأنواع، بل خالطاً بين الأنواع، ومازجاً بين التفاصيل الخاصة، والمناخات العامة، وبين صوره الأثيرة وبين الصور التقليدية المعروضة على نحو فاضح وفاجر، أحياناً. ولئن كان الكاتب لا يطلق أحكاماً على ما يصف من ظواهر نافرة لدى جمهور أهل بلده الأصلي (لبنان)، فإنه لا يكاد ينتهي من بناء لوحته السردية، أو لقطته الوصفية، حتى يجعلها قاب قوسين أو أدنى من تكوين الحكم المبرم عليها، مانحاً القارئ، شريكه بل المتواطئ معه بلغة أومبرتو إيكو، فرصة لفظه، والتوسع فيه.

في القصة الرابعة "أماه، أماه، أماه" يستحضر الكاتب راوي حاج بعضاً من سيرته، أو يستعير بعضها لتكون أقرب إلى سيرته الشخصية، لينسج منها سرداً قصصياً ماتعاً ومفيداً ودالاً على رؤيته الاجتماعية. ومفاد القصة أن مكالمة هاتفية من ابنة عمه تخبره فيها أن والدته قد توفيت. فكان هذا الأمر كفيلاً بفتح أفق الأحداث بحركة ارتجاعية، أو "فلاش باك" طويل، بلغة أهل السينما، إذ سرعان ما عاد بالذاكرة إلى طفولته الأولى الهنية، وأوضاع بيته الميسورة نوعاً ما، ووالدته ذات الأناقة والعناية بالهندام والمتآلفة سريعاً مع بيئة مدينية منفتحة على حياة السهر والرقص والتحرر، وهي الريفية الخريجة من دير للراهبات. ومن ثم ينتقل إلى الحديث عن الخادمة السورية نبيلة، التي ربيت في المنزل، وتلقنت فنون التحرر الجنسي من أجواء سيدة المنزل، مانحة الصبي الراوي بعضاً من متعها. وكيف أن الصبي علم نبيلة حروف الأبجدية فصارت تطالع المجلات وتكتسب اللغة الفرنسية بيسر. وكيف أن الوالد كان مولعاً بالصيد، على غرار كثير من مجايليه، وأنه اقتنى له البندقية الأحدث، ثم المسدس في خلال الحرب الأهلية. ولما احتدم الصراع بين نبيلة وأم الراوي، وطردت الأم نبيلة من منزلها، وقدم والد الأخيرة - وهو جندي سوري - لاسترداد ابنته، لقيه أفراد من الميليشيات المسلحة واغتالوه على الطريق، وتركوا نبيلة لسبيلها. ولما لاقاها والده إلى حيث كانت محتجزة، هدأ من روعها ووعدها بأن يعبر بها الحدود إلى ذويها. ولدى تحقيقه وعده، اختفى ذكره تماماً. 

 بالطبع، في المجموعة القصصية للكاتب راوي حاج سلة من القصص المتخمة بالإشارات إلى الحرب الأهلية، مثل "الصفير"، والعودة إلى مناقشة مكانة الصور الفوتوغرافية في حياة الإنسان، مثل "قدر ابن الرجل الذي يمتطي الحصان" ومسألة الإيمان والموت، وقصة الراقص أناتول عشية انهيار الاتحاد السوفياتي في "تعليمات الراقص"، وغيرها مما يجدر متابعته بعناية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة