Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشعر يقول ألم الذات في قلب العالم وما وراءه

"كوريغرافيا رجل الضواحي" و"إسبرانسا" ديوانان للشاعر أنطوان أبوزيد

لوحة للرسام سمعان خوام (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

صدر للشاعر والنافد الأكاديمي أنطوان أبوزيد ديوانان، الأول بعنوان "كوريغرافيا رجل الضواحي"، والثاني "إسبرانسا"، وفيهما يواصل مساره الفريد في كتابة قصيدة نثر تخاطب الذات الإنسانية والعالم الذي تقيم فيه، بوصفه مكاناً وجودياً مادياً ورمزياً.

هل ما زالت اللحظة الشعرية تمثل سبيلاً لتحقيق الوعي بالذات؟

 هذا هو السؤال الذي تحاول قصائد أنطوان أبوزيد في ديوانيه الجديدين "كوريغرافيا رجل الضواحي" (دار "راية" الشارقة، بيروت، 2023) و"إسبرانسا" (منشورات "لازورد" بغداد، 2024) الإجابة عنه انطلاقاً من النظر إلى الأشياء اليومية الصغيرة التي يظهرها الشعر، بدهشة ومتعة، التي تقود الشاعر "الكائن في العالم" بحسب ما يقول هايدغر، نحو عتبات لم يلجها قبلاً في بحثه عن ذاته الموغلة في الفقدان والمشتتة في الزمان والمكان، وهما، الآن وهنا، العيش في ضاحية من ضواحي بيروت الشرقية التي تحمل ندوب الأزمة اللبنانية وتبعاتها.

 يبدأ عنوانا المجموعتين بكلمتين تشكل أصولهما اليونانية واللاتينية مفاتيح قراءة القصائد. تحيلنا الكلمة الأولى "كوريغرافيا" المستعارة من المسرح اليوناني الراقص إلى فن تأليف وتصميم الخطوات وحركات الأجساد وتنقلها على خشبة المسرح ووضعها في فضاء العرض والتجانس بين الكلام والحركة، كما لو أن الشاعر يستعير هذا المصطلح ليعبر من خلاله عن إيقاع تنقل ذاته، وهو رجل الضواحي، في مطارح ليست عادة مرادفة لانطلاق شرارة الشعر ووميض اللغة. لكنها، مع ذلك، فجرت في نفسه انطباعات دونها في صور شعرية وتركيبات لغوية عبَّرت عن تميز حسه الشعري بإيحائية فائقة. أما العنوان الثاني، فيحيلنا في جذره اللاتيني إلى معنى الانتظار والترقب المرافقين للرجاء في قفزة من الإنسان إلى ما يتجاوزه وامتداد إلى آفاق لا حد لها.

تضم إذاً هاتان المجموعتان لحظات شعرية التقطها أنطوان أبوزيد المتنوع في ميادين كفاءاته وهو الشاعر والروائي والقاص والناقد والباحث والمترجم والأستاذ الجامعي المشرب بالسيميائية والألسنية والرموزية وعلم الدلالة واللغة العربية وآدابها وعلومها التعلمية، وبكثير من أشياء أخرى مختمرات بالجمال.

 تقسم المجموعة الشعرية الأولى إلى جزأين، الأول بعنوان "نظرات"، والثاني بعنوان "كوريغرافيا رجل الضواحي". أما المجموعة الثانية "إسبرانسا"، فتنساب في تدفقها المتسق على امتداد صفحات الديوان 140.

الذات الحرة

في هاتين المجموعتين يتابع أنطوان أبوزيد نحت أبياته وقصائده والتعبير عن مشاعره المرصوفة في نسيج من كلمات وصور ومفردات ومعان تترجم بعضاً من فكره ووجدانياته وسيرته الذاتية. غير أن هذه الكلمات والصور والمعاني تتجاوز، في كثير من الأحيان، ذات الشاعر المأسورة في مسرح مكاني ضيق، لتخاطب في غربتها وتجربتها الوجودية القصوى، الإنسان بعامة، مضيفة إلى قصيدة النثر العربية كتابة تسعى وراء الجديد في كل اتجاه. فنموذج أبوزيد الشعري فريد في أسلوبه، غريب في صوره ولغته. سبيله إلى ذلك ليس فقط تأمل الهواء وتشابك الأيدي والزهرة والسنابل والقرميد والنهر والنظرة والصوت والرغبة والحب والوحدة واليوميات المثقلة بأحمالها وغيرها من موضوعات أشعاره التي تختزل ثقافة الناقد الأدبي الواسعة وشعوره المرهف وفكره النير، بل التعبير عن الحياة برمتها، في وساعتها وضيقها، في صمتها وضوضائها، في معناها وعبثيتها وأسئلتها التي لا تحصى. ولعل المكان الفيزيقي والأنطولوجي، الذي تنطلق منه هذه الأسئلة، إذ الأفق أولاً مسدود "بلا نار ولا عيون ولا كوة"، يصبح أيضاً في "متاهة الضواحي وأرضها الواطئة المقلعة ألف مرة بمحاريث الغيلان وخراطيم آلهة الوعر"، مكان الارتفاع وحيز اللمعة الشعرية التي تحمل الشاعر إلى عوالم أخرى تجعله يشعر بقوة تكسر صخرة سيزيف فتغير رؤيته ورؤيتنا للحياة من خلال قصيدة تملأ المساحة وفراغاتها بأبياتها المتلألئة، كما في قصيدة "ارتفاع".

 وبما أن الشعر عند أبوزيد هو ترجمان الذات في حياتها وسط العالم، تحثنا أشعاره المنثورة على تتالي صفحات مجموعتيه على سبر أغوار النفس بحثاً عما تخفيه من أسرار تكشف المدى الواسع في داخلية كل كائن من خلال العودة إلى تفاصيل الحياة اليومية وأشيائها من زاوية غير مباشرة. ذلك أن وراء شعره المقتضب في بعض الأحيان والمطول في أحيان أخرى، تلتمع صور شعرية وتراكيب لغوية تحاول ردم الفجوة القائمة بين الذات التي تواصل رسم أحرف عزلتها والواقع، الذي يسعى الشاعر إلى تخطيه بكلمات تحول بصنعة الالخيميائي العاديات إلى ذهب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 أنطوان أبوزيد واقف في هيكل الشعر بين حدي الصنعة والشعور. يؤثر في قصائده رسم تجربته الشعرية من دون الإعراض عن البعد الفكري والجماليات بكل مستوياتها. مفرداته مفتوحة على كل القواميس من محكية وفصيحة مطعمة بكلمات أجنبية معربة، وعلى كل التيارات الشعرية من سوريالية وانطباعية ووجدانية ورومانسية، عبارات وتيارات مجبولة، إن صح التعبير، بنهج فكري يلازم ذاته الساكنة في العالم والناظرة إلى العلاقة والتواصل مع الآخر، أياً يكن هذا الآخر، إنساناً أو حيواناً أو نباتاً أو جماداً أو عناصر أو أشياء، من خلال مساءلته عن هواجس الوجود المأزوم في شروطه، وإن حاول الشاعر في تأمله العميق في أحواله تخطي كل التيارات والأفكار والأيديولوجيات الأدبية. ويبدو أن السياق الفكري والشعوري هو الذي يرسم بحسبه حدود قصائده ويفرض إيقاع كلماتها وديناميتها وصورها الشعرية الماثلة في وجهة نظره الفريدة إلى الأشياء.

هذا في "كوريغرافيا رجل الضواحي". أما في "إسبرانسا"، فيواصل أنطوان أبوزيد الاهتمام بالموضوعات نفسها، عنيت التفكر في تفاصيل الحياة ومطلقاتها من دون التوقف عن الالتفات إلى الذات أو "الأنا" في محاولة منه لالتماس الأفق الذي بدأ شعاعه يلوح بعيداً. ولعل حوار ذاته مع ذاته نجح في أن يكون في الوقت عينه مكان طرح إشكاليات الزمن المعاصر الموسوم بالحاسوب والأقمار الاصطناعية وصحراء المعنى والخواء المغطى بمعان واهية تعبر عن أزمة الذات الواقعة بين "التناهي واللاتناهي، بين الهنا والهنالك، وبين الآن والأبد، وبين قاع المحسوس وذروة المجرد، والبهي المحال استرداده". لكن الشاعر المثقل بأحمال يومياته والمتأرجح بين المعنى واللامعنى، والمتطلع إلى مكان وزمان آخرين نجح في أخذنا إلى عوالم جديدة تقع في الشعر خارج العاديات، عوالم تحضر فيها الذات وسؤال الكينونة وهرمينوطيقيتها المغمورة بسيل غير محدود من التأويلات. فهل يكون الشعر عند أنطوان أبوزيد هو الرجاء والتأويل الذي لا بد من الاهتداء ببريقه وسط الظلمات؟ هل يكون الشعر هو المحرر من أسر المكان من خلال كلماته وهي المكان "الحقيقي" الذي يسمح بمنح معنىً للعالم؟

لربما كان الجواب على سؤالي الذهاب مباشرة إلى قراءة قصائد أنطوان أبوزيد والتفاعل معها ومع إيقاعها ومعانيها وابتكاراتها المعادلة لبعض أحوال الحياة بالكلام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة