Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة روائية الى كورونا وعزلته القاسية في"عزيزي المستبد"

زينب عفيفي تواجه صراع الرجل والمرأة في لحظات الحب والخوف

غرافيتي كورونا على جدار في القاهرة (ا ف ب)

ملخص

في رواية "عزيزي المستبد" الصادرة حديثاً، انتهجت الكاتبة المصرية زينب عفيفي الخط الرومانسي لتبلغ عبره الطبقات الأعمق من النفس الإنسانية، وتكشف عن هشاشتها، وتناقضاتها، ومخاوفها في واقع مأزوم، يمثله مرض كورونا المستشري، بما يحمل من أخطار كثيرة. تلجأ البطلة إلى الانعزال في قرية، لتعيش لحظات من المواجهة والتأمل في المرض والعالم.

في مسارها السردي تبرز الرومانسية كملمح رئيس، يهيمن على نصوصها القصصية، والروائية، فهي بحد قولها "أصل المذاهب كلها، وهي خلاص الروح وطوق نجاتها". وفي روايتها "عزيزي المستبد" الصادرة حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية؛ تواصل تجربتها السردية النابعة من العمق النفسي الذي يختزنه الإنسان.

يخبر عنوان النص وعتبته الأولى عن قهر ذكوري، ربما تعانيه البطلة طبقاً لما تحيل إليه لفظة الاستبداد، غير أن ما يتكشف عبر تدفق الأحداث يؤكد مراوغة العنوان. فالاستبداد لم يكن إلا درباً من سطوة الشعور بالحب، وما يسفر عنه من عبودية الروح. وقد اتسق مع هذا الخط الرومانسي، اعتماد الكاتبة تقنية الرسائل، التي شكَّلت البنية الكلية للنص، لكنها لم تمنح صوت السرد إلا لبطلتها "ضحى"، في حين غيَّبت صوت المرسل إليه، وجهَّلت اسمه، لتتيح للقارئ حرية التعاطي معه بكونه شخصية حقيقية، أو من صنيع أوهام البطلة، لا سيما وأنها قررت ألا تعبر رسائلها إليه، مما عزَّز حالة الغموض حوله، وكذا حالة الارتباك التي وسمت علاقتها به، والتي تراوحت بين حب يحجبه إنكار، وصداقة يتوارى في طياتها الحب.

ثيمة الوحدة

اختارت الكاتبة الحقبة التي تفشى خلالها فيروس كورونا؛ فضاءً زمنياً للأحداث، التي انطلقت بلجوء الشخصية المحورية "ضحى"، لواحدة من القرى السياحية المنعزلة، في محاولة منها لتحقيق قدر من التباعد الاجتماعي، يضمن تجنب الإصابة بالفيروس، ورغبة في استثمار الوقت الذي أتاحه الإغلاق المفروض، من أجل إنجاز لوحاتها ومشاريعها الفنية. وكما أتاحت الرسائل رقعة أوسع للبوح، ومكَّنت الكاتبة من استجلاء آلام البطلة وهشاشتها، أتاحت لها أيضاً سهولة التنقل بين ضمير المتكلم وضمير الخطاب، وإمكانية تنويع الزمن، والتجول بين الحاضر والماضي، مستعينة بتقنيات التذكر والاسترجاع، التي استعادت عبرها حادثة مفصلية في تاريخ بطلتها، وهي تعرضها للخيانة من قبل زوجها، الذي تفانت في الإخلاص له. كما وظَّفت العزلة الاجتماعية التي فرضها تفشي الوباء، في الكشف عن وحدة نفسية أكثر قسوة؛ تشاركها كل الشخوص. وعلى رغم بروز الخط الرومانسي للسرد، وتعاطي الكاتبة مع العلاقة الأزلية المعقَّدة بين الرجل والمرأة، كقضية رئيسة للنص، واعتنائها برصد ما يعتمل في العوالم الداخلية لشخصيتها المحورية، فقد طرقت العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية، التي بدت في هيئة ظلال، وإن اتسمت بحضور قوي داخل النسيج. فرصدت ميراثاً اجتماعياً من التطفل يلاحق المرأة، ويدفعها تحت وطأة الخوف، لأن تزج بنفسها في سجن الرقابة الذاتية... "لا رقباء بعد اليوم. لقد أطلقتُ عليهم النار في اللحظة التي نويتُ فيها أن أكتب إليك رسائلي. أكتب إليك بلا رقيب داخلي، ليستْ شجاعة أو بطولة؛ وإنما احتفاء بلحظة خروج الخوف من حياتي بعدما تساوتْ الحياة مع الموت" (ص14).

كذلك رصدت النزوع المادي للمجتمع، والسعي لتحقيق المكاسب، من دون الالتفات إلى القيم. وتطرَّقت إلى حالة عامة من عدم الاستقرار، يعيشها الكثير من الدول العربية، مثل السودان وسوريا واليمن والعراق. كما عمدت إلى رصد مشكلات يئن تحت وطأتها الواقع المصري، الذي تُسرق فيه الأحلام، ويموت فيه شباب يحاولون التسلل إلى شاطئ آخر بحثاً عن الفرص، وتتحول فيه أحلام الثورة إلى واقع كابوسي، وتلتهم السجون أبرياء بلا جريرة ولا ذنب، وتلتهم الشوارع أطفالاً ومصائر، بينما لا تسعف العدالة مظلوماً. وإنما تحول العُصابة فوق عينيها، دون رؤية الحقيقة، ويظن الجميع احتكار الحقيقة، فيقعون في فخ التعصب والحماقة. وعلى رغم انحدار البطلة من طبقة متوسطة أو ربما تعلوها، وكذا أغلب الشخوص، فقد تسللت "عفيفي" إلى مجتمع الهامش عبر شخصية الخادمة "أم صبره". ونفذت من خلالها إلى الشريحة الأعرض من المجتمع، ورصدت معاناتهم من الفقر والعنف والقهر.

الحلم والأسطورة

اتسق حضور الحلم داخل السرد مع غاية الكاتبة في الولوج إلى الطبقات الأعمق من نفس بطلتها، واستجلاء أسرارها، والكشف عن إحباطاتها ومخاوفها. ولعبت الأحلام أدواراً متنوعة في تفسير رغبات البطلة الكامنة في اللاوعي، وما يعتمل في دواخلها من ألم وصراع. كما لعبت في مواضع أخرى من السرد دوراً تمهيدياً للاحِق من الأحداث، فكان حلمها بالأسوار العالية التي تفصل بينها وبين صديقها، وسعيها الحثيث للوصول إليه، ثم تلاشيه؛ تفسيراً لجهد تبذله وحدها للحفاظ على علاقتهما، وتمهيداً لاكتشافها مبالغتها في تقدير مكانتها لديه، وللغروب الذي ستؤول إليه هذه العلاقة. كذلك كان حلمها بالنهر الثائر؛ تفسيراً لرغباتها الكامنة في التمرد على القيود، لا سيما وأن الثورة ليست من سمات الأنهار، وليست من سماتها هي أيضاً. أما الأسطورة فكان حضورها وسيلة أخرى لإضاءة معاناة الإنسان الأزلية، في واقع معقّد ومربك. إذ مرَّرت عبر استدعاء أسطورة "سيزيف"؛ شقاء النفس البشرية في رحلتها لبلوغ الكمال، وعودتها مراراً وتكراراً إلى نقطة البداية، من دون بلوغ أحلامها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا ما جسَّدته نهاية زواجها بالطلاق، بعد خيانة زوج أخلصت له، وكذلك فتور صداقة؛ حسبتها أكثر تميزاً واختلافاً، ووأد مشاعر وليدة تجاه جارها الموسيقي، من قبل أن تنمو وتتشكل. كذلك استدعت عفيفي الأسطورة، ووظَّفتها في خدمة النص، وفي تمرير ما أرادت تمريره من فلسفات ورؤى. استدعت كذلك العديد من الأعمال الأدبية، والتشكيلية، والموسيقية، مثلت عصارة تجربتها مع الفن، فمنحت حضوراً لحرافيش محفوظ، ولـ"فيرونكا" بطلة باولو كويلو، وللأمير مشكين بطل رواية "الأبله" لدوستويفسكي. وأتاحت بعض المساحة لتصورات هيرمان هسه، ومأساة فريدا كالو، وموسيقى تشايكوفسكي. ونسجت خيوطاً بين شخوصها واستدعاءاتها، كَستْها بغلالة نقدية. ولم تكن تلك الاستدعاءات وحدها روافد الفن بأنواعه إلى النص، بل كان اختيارها لشخوصها المحورية الثلاثة، وثيق الصلة بالفن. إذ كانت الشخصية المحورية فنانة تشكيلية، وصديقها روائي، وجارها موسيقي، لتعلن الكاتبة عبر اختياراتها ولاء للفن، وللنفس الإنسانية التي تعتنقه، والتي تكون بالضرورة أكثر خصوبة وخصوصية.   

الرمز والصراع

على رغم نعومة نغمة الصراع في النص، فإنه أسهم على نحو بارز في تحريك الأحداث، إذ دفع الصراع مع الوباء، ومواجهته عبر التباعد الاجتماعي؛ بالبطلة إلى العزلة، التي كشفت لها بدورها عن عمق وحدتها، وهشاشة علاقاتها، وكذا انقساماتها الداخلية، التي تراوحت بين رغبة في الوحدة وسأم منها، قبول لما هي عليه، وتطلع إلى ما تريد، أحلام تسعى لتحقيقها وعمر قصير ربما لا يسعفها: "أعرف أنني أناقض نفسي بين الرغبة في الابتعاد ووجودي بين الناس، إنها مشاعر الوحدة المتضاربة، واحتياجي لمن أحكي له أحلامي المؤجَّلة، ومناماتي المخيفة ويقول لي اللهم اجعله خيراً" ص 86.

ولجأت الكاتبة إلى الرمز أحياناً، لتعزيز حدة تناقضات بطلتها الداخلية، فالمطبخ الضيق، والسرير الذي لا يتسع إلا لشخص واحد كحال غرفتها، يحيل إلى رغبة طوْعية في الوحدة، بينما تحيل رسائلها إلى رغبات مغايرة. كذلك لجأت إلى الرمز لدعم ما مرَّرته من رؤى، إذ عزَّز مشهد بيوت الرمل التي تستمر الأمواج في هدمها؛ فلسفتها في انتفاء الكمال، والنقصان الذي يصيب الأشياء عند تمامها، والبدايات السعيدة التي تقود عادة إلى نهايات تتشح بالألم. في حين أحالت العناوين التي اختارتها للنصوص المتخيَّلة، والتي أنتجتها شخصية الكاتب "الصديق المُرسَل إليه"؛ إلى دلالات رمزية، لا سيما رواية "الأعور"، التي وشت بمناخ عام تشوبه ضبابية الرؤية، وغياب الحقيقة الكاملة، وتواري بعض وجوهها. وبينما اعتمدت الكاتبة تقنيات التقابل، لإضاءة تناقضات النفس والعالم، عمدت إلى التماثل أحياناً، لإضاءة مشاعر الوحدة، والوحشة، والخواء، فأبرزته بين بطلتها، وبين شجرة "بونسيانا" الخاوية من أوراقها وقت الخريف، وبين مزهرية كسرتْها يد الإهمال، وحياة كسرتْها يدُ الخيانة، فما عاد بوسع أيهما العودة إلى سابق عهدها. وكذلك بين "الشوطة" في رواية "الحرافيش"، و"كوفيد 19" في واقع العالم. وعمدت إلى تكرار العبارات التي ترسم الوحدة وتجسدها، على نحو أبرز قسوة هذا الشعور، الذي بات يفرض سطوته على العالم، على رغم كل ما فيه من ضجيج.       

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة