Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيتهوفن في سيمفونيته الأولى يغوص في روح موزارت

نصيحة مبكرة في حياة سيد الموسيقى العالمية لم تفارق ذهنه حتى سنواته الأخيرة

لودفيغ فون بيتهوفن (1770 – 1827) (غيتي)

ملخص

من موزارت كانت ثمة واحدة من سيمفونياته القصيرة، كما كانت هناك مقاطع من "الخليقة" لهايدن. إذاً، كان بيتهوفن أمام أول اختبار كبير له في حياته، محصوراً بين الأستاذين الكبيرين.

يحكى عن الموسيقي الكبير لودفيغ فون بيتهوفن أنه حتى سنوات حياته الأخيرة حين كان يسأله سائل عمن كان في نهاية الأمر أستاذه الحقيقي الذي أدرك عظمة موهبته بصورة مبكرة، كان يجيب مبتسماً بأن ذلك "الأستاذ" لم يكن في الحقيقة موسيقياً ولا مدرساً بل كان راعيه الثري الكونت فالدشتان الذي قدم له درساً ثميناً لم يزد على عبارة واحدة، إذ نصحه وهو في سبيله للقيام برحلة عمره المبكرة وللمرة الأولى من بون الألمانية إلى فيينا النمسوية، قائلاً له "ما أطلبه منك هو أن تتلقى روح موزارت على يدي هايدن مباشرة".

والحقيقة أن هذا كان ما فعله بيتهوفن تماماً، ومنذ وصوله إلى فيينا. في ذلك الحين كان بالكاد اقترب من الـ30 من عمره، وكان سبق له أن وضع بعض الرباعيات والقطع الأخرى متأثراً بأجواء ألمانية خالصة تطل على رومانسية ما، لكنه لم يكن قد كتب أياً من سيمفونياته التسع التي هي، إضافة إلى أعمال أخرى، ما سيضمن له مكانته في الصف الأول بتاريخ الموسيقى في كل العصور.

نسيان يقول أموراً كثيرة

ومهما يكن من أمر فلا بد من القول بداية هنا إن من يهيم حباً بسيمفونيات بيتهوفن يفوته في معظم الأحيان ربطها، متدرجة، بحياة مؤلفها. الهاوي ينظر إليها كأنها تقف خارج الزمن، كل زمن، بل يدهشه أحياناً أن لها أرقاماً متتالية، ما ينساه هذا الهاوي هو أن لكل شيء بداية، تماماً كما أن لكل شيء نهاية. وإذا كانت السيمفونيات تبدأ، تراتبياً، بالأولى لتنتهي بالتاسعة، فإن هذا الترقيم ليس عشوائياً طبعا. فالأولى هي الأولى زمنياً التي كتبها بيتهوفن والتاسعة هي الأخيرة. ومحب الموسيقى المدقق يمكنه، ومن أول استماع، أن يدرك الفارق الكبير، وهو فارق قد يمكن تلخيصه على لسان الباحث المصري الدكتور حسين فوزي الذي وضع مرة فرضية تقول إنه "لو كان حدث ومات بيتهوفن بعد تأليفه السيمفونية الأولى مباشرة، لما كان في وسعنا اليوم أن نستمع إلى هذا العمل إلا بصفته عملاً جيداً، لا أكثر، لتلميذ موهوب من تلاميذ هايدن، مع شيء من روح موزارت". طبعاً، في هذا القول إشارة إلى تحقيق ما كان طلبه الكونت فالدشتاين من بيتهوفن، غير أن استماعنا إلى "الأولى" في ضوء معرفتنا ببقية أعمال بيتهوفن، سيقلب القاعدة تماماً: سيرى كم أن السيمفونية الأولى حملت كل نتاج بيتهوفن التالي، خطوة خطوة، في صورة يجعلها تبدو افتتاحية جامعة على نمط افتتاحيات روسيني أو فاغنر الأوبرالية.

تجديد منذ اللحظة الأولى

إذاً، في ضوء عمل بيتهوفن الإجمالي، ننسى تماماً حكاية روح موزارت وتقنية هايدن. ولو فعلنا لكنا، على أي حال، نجاري أولئك الذين كانوا حاضرين يوم الثاني من أبريل (نيسان) 1800 في قاعة المسرح الإمبريالي في فيينا، يوم قدمت هذه السيمفونية لبيتهوفن للمرة الأولى، إذ منذ البداية أدرك الحضور أنهم أمام عمل تجديدي، بل أمام عمل يخرق الأعراف، خصوصاً أن بيتهوفن آثر أن يبدأ السيمفونية فوراً على مقام دو كبير، داخلاً في الحركة الأولى إلى نوع من "أداجيو ملتو"، و"اليغرو كون بريو".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت الجرأة من بيتهوفن يومها مزدوجة في ضوء البرنامج الحافل الذي احتوته تلك الحفلة. فمن بيتهوفن قدمت الأوركسترا أيضاً "كونشرتو" للبيانو، وارتجالاً على موضوعة "نشيد إلى الإمبراطور". ومن موزارت كانت ثمة واحدة من سيمفونياته القصيرة، كما كانت هناك مقاطع من "الخليقة" لهايدن. إذاً، كان بيتهوفن أمام أول اختبار كبير له في حياته، محصوراً بين الأستاذين الكبيرين. ومن هنا كان من الطبيعي أن يلجأ إلى الصدم وإلى الجرأة، ففعل وأدهش الحضور، وإن كان الأمر انتهى بهم إلى أن يأخذوا على المؤلف الشاب، إفراطه في استخدام آلات النفخ!

دين لموزارت

كما أشرنا، من الواضح بالنسبة إلينا اليوم أن السيمفونية الأولى ستعود لتحوز مكانتها الكبيرة، لكن فقط في ضوء تتالي أعمال بيتهوفن الكبيرة متلاحقة. ومهما يكن، فإن هذا الفنان عبر هنا، وربما للمرة الأخيرة في مساره العملي، بعد أن بدأ ذلك في كثير من السوناتات، عن تأثره خصوصاً بموزارت، لا سيما أن السيمفونية الأولى تدين أصلاً بكثير إلى سوناتات موزارت أكثر مما تدين إلى سيمفونياته، كما تدين في الوقت نفسه، إلى هايدن من الناحية التقنية. فما الذي يخص صاحبنا الموسيقي الشاب وسط ذلك الخضم؟ روح الشباب، والرغبة في التحرر من قيود الأستاذين الكبيرين. وما يشعر به المرء على الفور من أن "طبيعة هذا المؤلف تجعله يبدو أول موسيقي يقف في وجه العالم" وفق تعبير مؤرخ الحركة الرومانسية ألفريد أينشتاين. ولسوف يقول لنا فاغنر لاحقاً، في الكتاب الذي وضعه عن بيتهوفن، إنه "عمل على تحرير الموسيقى من كل مظاهر التبعية للأذواق التافهة السقيمة". وفي ضوء هذا الحكم، سيبدو واضحاً أن بيتهوفن إنما عرج في "الأولى" على موزارت وهايدن، لكي يوضح لجمهوره، سمو مكانة الموسيقى التي يريد مذاك وصاعداً أن يتجاوزها.

احتفاء موزارتي بالحياة

قد لا تكون سيمفونية بيتهوفن الأولى عملاً كبيراً مقارنة بـ"الخامسة" أو "التاسعة"، لكنها بكل تأكيد، العمل الذي فتح لبيتهوفن آفاق عظمته التالية. والغريب في الأمر أنه، في وقت كان بيتهوفن يكتب "الأولى" كانت أحواله الصحية في منتهى الرداءة. كان بدا له بوضوح أن الصمم سيغلبه من دون تراجع. ومع هذا، هيا بنا نصغي إلى السيمفونية الأولى لنكتشف مقدار الفرح الذي أسبغه بيتهوفن عليها، الفرح وحب الحياة منذ مدخلها... فهل يذكرنا هذا بشيء؟ أجل: السيمفونية التاسعة تنتهي بموسقة "نشيد إلى الفرح" لشيلر. إذا الفرح منذ بداية السيمفونيات والفرح عند نهايتها... أما التراجيديا أو عظمة الألم وأما الثورة العارمة، فإنها أمور تأتي بين البداية والنهاية.

 

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا ما قلنا إن "الأولى" بحركاتها الثلاث هي الأكثر احتفاء بالحياة بين أعمال بيتهوفن كلها. ففي الحركة الأولى يدخل بيتهوفن موضوعه عبر ثلاث مجموعات من الأكورات التي تبدو متنافرة في صورة صعق الجمهور يومها، لكن سرعان ما تبين أنها ليست هنا إلا لكي توقظ اهتمام هذا الجمهور، ليأتي بعده منحنى لحني هادئ يؤكد حضور "الأوت" كبيرة ليوصل إلى "الأليغرو" الذي يكشف لنا أول "تيمات" هذا العمل، ويمثل أفضل مدخل لإيصالنا إلى سيمفونية العمل وطابعه الإيقاعي. أما "التيمة" الثانية فيوصلنا إليها الانتقال من استخدام آلة الأوبوا إلى استخدام الناي... ولسوف يقول برليوز لاحقاً إن هذه "التيمة" لم تكن جديدة، بل كانت تستخدم بكثرة في افتتاحيات الأوبرات الفرنسية. مهما يكن، فإن ما تبقى من هذه الحركة يصبح نوعاً من اللعب بين التيمات، ومعظمها غنائي جزل شديد التنوع في التوزيع الأوركسترالي. ومن هنا كان من الطبيعي أن تكون الحركة الثانية، استمراراً لذلك التنوع إلى أن تنطلق في "اندانت" معتدل في بطء حركته.

بين الظلمة" والنور

أما الحركة الثالثة، والأهم فهي "المينويتو" ذات الإيقاع الراقص المتسارع، التي كان برليوز يرى فيها "التجديد الوحيد في هذا العمل ككل"، بل كان غيره يرى فيها مجرد تمهيد للحركة الرابعة والأخيرة التي "تبدو سريعة متدفقة ضاحكة ضحكات شباب يستقبل الحياة في بشر وانطلاق..." بحسب وصف الدكتور حسين فوزي. أما من الناحية التقنية، فإن بيتهوفن كشف في الحركة الأخيرة عن مذاقه الذي سيتأكد لاحقاً، والمتمثل في حبه لعزل عنصرين معاً وتعميقهما، ثم المقابلة بينهما، عبر التركيز على التنافر بين الظلمة والنور... وعلى هذا النحو يفاجأ المستمع بالسيمفونية، وسط هذه الحركة وقد اتخذت على الفور شكل صراع ومجابهة، قد يكونان دراميين بعض الشيء، لكن من دون عاطفة كبيرة.

والحال أن هذا، الذي يبدو هنا تمهيدياً، سيعود بيتهوفن ليطوره في سيمفونياته التالية، لا سيما منه فكرة الصراع والاندفاعات الدرامية التي تلي لديه شيئاً من الهدوء، إذ تلي استخدام آلات النفخ متمازجة مع الوتريات، ووقفة مباغتة عند الآلات الإيقاعية توقظ وعي المستمع. وكان هذا عنصراً أساسياً من عناصر موسيقى لودفيغ فون بيتهوفن (1770 - 1827) الذي ما كان أبداً ليحب لمستمعه ألا يعيره في كل لحظة انتباهه.

المزيد من ثقافة