ملخص
قد تواجه الموسوعات تحديات أكبر في المستقبل مع التطورات التكنولوجية المستمرة التي قد تغير طبيعة كيفية الوصول إلى المعلومات وتبادلها
أثناء دردشة عابرة للأجيال مع أبنائي قبل بضعة أيام حول مائدة العشاء سألني أحدهم عن "اليوتيوبر" المفضل لديَّ عندما كنت في سنه. كانت الصدمة الأولى عندما أجبته بأن "يوتيوب" لم يكن أيام طفولتي. سألني ما إذا كنت أتابع الرسوم المتحركة على مواقع أخرى، فقلت له ولدت قبل وجود محرك البحث "غوغل" نفسه. جعلتني الدهشة التي رسمت على محياه أشعر لوهلة وكأنني كنت أنا والديناصور "تي ريس" نسكن في كهفين متجاورين.
على أي حال، بعد تجاوز الصدمة الثانية بدأ سيل من الأسئلة ينهال عليَّ من كل حدب وصوب، لكن فضول صغاري كان منصباً لمعرفة من أين كان أبناء جيلي والأجيال السابقة يستقون معلوماتهم ومن كان يجيب عن أسئلتهم المتنوعة قبل "غوغل" و"ويكيبيديا"؟
كثر في أيامنا هذه يغفلون عن حقيقة أن أساس مصادر المعلومات هذه هي الموسوعات، وأن ما نلجأ إليه اليوم ما هو إلا نسخ رقمية مما كان ولمئات السنين المرافق لكل أكاديمي وباحث ودارس.
ما الموسوعة؟
هي مجموعة متنوعة من المعلومات المنظمة موضوعياً وشامل في مجال معين أو في مجالات عدة، وعادة ما تكون متاحة في صورة كتب مطبوعة أو إلكترونية. تهدف الموسوعة إلى توفير مصادر موثوقة وشاملة للمعرفة حول مواضيع مختلفة، وتكون غالباً مصحوبة بتوجيهات ومراجع للقراء لمواصلة الاستكشاف والبحث في المواضيع التي تهمهم.
يعود مفهوم تجميع المعرفة في صور يمكن الوصول إليها إلى أكثر من 2000 عام. ومع ذلك، لم تستخدم مصطلح "الموسوعة" إلا في عنوان كتاب لبول سكاليتش صادر عام 1559 هو "إبستيمون الموسوعة، أو عالم التخصصات، المقدسة والمدنسة".
قد يختلط على البعض مفهوما المرجع والموسوعة، لكنهما على رغم تشابههما مختلفان في نواح عدة أولها الغرض الرئيس، إذ إن الموسوعة تهدف إلى توفير معلومات شاملة ومنظمة حول مواضيع متعددة، وعادة ما تكون موجهة للقراء العموم أو للطلاب والباحثين الجدد. أما المرجع فيستخدم لتقديم معلومات دقيقة ومحددة حول موضوع معين، وغالباً ما يكون موجهاً للباحثين والمتخصصين.
كما أن هناك اختلافاً من ناحية التنظيم، إذ تنظم الموسوعة المعلومات بصورة شاملة وعامة، وعادة ما تقسم إلى مواضيع وفقاً لتصنيفات موضوعية معينة، أما المرجع فيقدم معلومات محددة ومرتبة بصورة منهجية أو تصنيفية حول موضوع محدد، وغالباً ما يحوي إشارات لمصادر أخرى يمكن الرجوع إليها.
من ناحية أخرى، توفر الموسوعة المعلومات بطريقة شاملة من دون الدخول في تفاصيل كثيرة ودقيقة، بينما يقدم المرجع معلومات دقيقة ومفصلة حول موضوع معين مع توفير مصادر ومراجع لمزيد من القراءة والبحث.
يمكن اعتبار الموسوعة مصدراً عاماً يقدم معلومات موجزة وشاملة، في حين يعد المرجع مصدراً أكثر تخصصاً وتفصيلاً لمعلومات محددة وعلى نطاق أضيق.
وكي يتم تصنيف كتاب ما كموسوعة لا بد من توفر شروط عدة فيه، بينها تنوع المواضيع، إذ يجب أن يغطي الكتاب مجموعة واسعة من المواضيع والمعلومات المتنوعة، بحيث يكون لدى القارئ الوصول إلى معرفة شاملة حول مواضيع مختلفة.
كما ينبغي للموسوعة أن تكون منظمة بصورة جيدة مع تقسيم وتصنيف المعلومات بطريقة منطقية ومرتبة. ويجب أن تشمل الموسوعة معلومات شمولية حول كل موضوع تتناوله، مع التركيز على تقديم معلومات مفيدة. ولا بد أن تعتمد الموسوعة على مصادر موثوقة لضمان دقة وموثوقية المعلومات المقدمة. كذلك ينبغي إعادة تحديث وصياغة الموسوعة بانتظام لضمان استمرارية الدقة والشمولية والتواصل مع التطورات والتغيرات في المعرفة. ويفضل أن توفر الموسوعة إرشادات ومراجع للقراء لمزيد من القراءة والبحث، مما يساعدهم على استكشاف مزيد من المعلومات، لكن هذا العنصر ليس شرطاً ضرورياً.
تطور الموسوعات
حتى وقت قريب، كانت الموسوعات تطبع على صورة أعمال إما منفردة أو متعددة المجلدات، مع أو من دون رسوم توضيحية. يتم ترتيب الإدخالات إما أبجدياً أو حسب الموضوع، وغالباً ما تتضمن الموسوعة أدوات لمساعدة القارئ مثل المراجع والفهارس.
في العالم القديم، كانت أعمال أرسطو المحاولة الأولى المعروفة لجمع كل معارف العصر اليوناني القديم في مكان واحد. في روما القديمة، قام ماركوس تيرينتيوس فارو بتجميع موسوعة من تسعة مجلدات للفنون الليبرالية، تحت عنوان "التخصصات" في سنة 30 قبل الميلاد، لكن لم تنج أي نسخة من هذا العمل.
بحسب موقع "هيستوري بابليكيشن"، فإن أقدم موسوعة كاملة نجت من العالم القديم هي موسوعة "التاريخ الطبيعي" التي نشرت نحو 77-79م للكاتب اليوناني وعالم الطبيعة وفيلسوف الطبيعة بليني الأكبر. تخصصت هذه الموسوعة في العلوم الطبيعية، وتضمنت 37 مجلداً و2493 فصلاً.
أعظم موسوعة في العصور الوسطى كانت "المرآة الكبرى" التي جمعها الراهب الدومينيكي فنسنت بوفيه باللغة الفرنسية في القرن الـ13، وتعد جهداً مكثفاً لتجميع وتنظيم المعرفة المتاحة في ذلك الوقت، وتغطي مجموعة واسعة من المواضيع من اللاهوت إلى العلوم الطبيعية. وتمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية في عام 1481 ونشرها تحت عنوان "مرآة العالم".
في أقصى الشرق، تم الانتهاء من أعظم موسوعة صينية وهي موسوعة "يونغلي" في عام 1408، وقد غطت هذه الموسوعة مجموعة كبيرة من المواضيع، وشارك في كتابتها أكثر من 2000 عالم، وتضمنت 11095 مجلداً. وكانت أضخم موسوعة في العالم على مدار الـ600 عام التالية.
في عام 1605 بدأ الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون العمل على كتابه "إعادة البناء العظيم للمعرفة الإنسانية على أسس جديدة وعلمية"، وكان من المخطط أن يكون هذا العمل بمثابة موسوعة عظيمة لجميع المعارف، تنشئ باستخدام أسلوب عمل واضح ووضعها وفقاً لمخطط فلسفي. نشر بعض أجزاء هذا العمل خلال حياة بيكون، لكنه لم يكتمل قبل وفاته في عام 1626.
شهد القرن الـ20 ظهور ما يسمى الموسوعات المتخصصة التي تغطي موضوعات محددة. وتعد موسوعة "الفن العالمي" الصادرة عام 1959 أول موسوعة متخصصة، تلاها بعد ذلك ظهور موسوعة "ماكغرو هيل" للعلوم والتكنولوجيا عام 1960.
الموسوعات الحديثة
في عصر ما قبل الإنترنت كان هناك عديد من الموسوعات الحديثة التي اشتهرت في مختلف أنحاء العالم وكانت متاحة بلغات مختلفة. من بين أشهر هذه الموسوعات الموسوعة البريطانية (بريتانيكا) التي تأسست في القرن الـ18 واشتهرت بالدقة والتحديث المستمر للمعلومات. كانت متاحة في البدايات باللغة الإنجليزية وبعد ذلك ترجمت إلى لغات أخرى. في الفترة عينها كان يتم العمل في ألمانيا على موسوعة بروكهاوس.
باللغة الفرنسية، تعد موسوعة لاروس التي تأسست في القرن الـ19 الأكثر شهرة بشموليتها ودقتها، وصارت متوفرة لاحقاً بعدة لغات أخرى. شهد القرن الـ19 أيضاً ظهور الموسوعة الإيطالية للعلوم والآداب والفنون.
أما في إسبانيا، فقد ظهرت موسوعة "غران إنسيكلوبيديا كتالونيا" عام 1968 لتقدم المعلومات باللغة الكتالونية وتغطي مجموعة واسعة من المواضيع.
في العالم العربي تعد موسوعة "دائرة المعارف العربية" الصادرة في بيروت سنة 1956 أقدم الموسوعات العربية، وامتازت بأهميتها التاريخية وتأثيرها الكبير في توثيق المعرفة والثقافة العربية.
وانطلقت موسوعة "العربي" في القاهرة سنة 1958 وتميزت بشموليتها واحتوائها مختلف الموضوعات والمعلومات باللغة العربية. وفي مصر أيضاً ظهرت موسوعة "المستكشف" عام 1963، بينما بدأت موسوعة "الشرق الأوسط للمعرفة" في الإمارات سنة 1980.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موسوعات العصر الرقمي
شهد ظهور الإنترنت انتشار عديد من الموسوعات العامة والمتخصصة عبر الشبكة. وفي مقدمة الموسوعات العامة على الإنترنت للعالم الناطق باللغة الإنجليزية تأتي موسوعتا "ويكيبيديا" و"بريتانيكا".
يتم إنشاء مقالات "ويكيبيديا" باستخدام مساهمات عديد من الكتاب، وغالباً ما يكونون مجهولي الهوية، أما مقالات "بريتانيكا" فهي مكتوبة من قبل خبراء محددين وتتم مراجعتها من قبل اختصاصين قبل النشر.
أسس جيمي ويلز ولاري سانغر موسوعة "ويكيبيديا" الإلكترونية في عام 2001. وتعتمد على مجتمع كبير من المحررين المتطوعين الذين يسهمون في كتابة وتحرير المقالات بصورة مستمرة.
يتغير حجم "ويكيبيديا" باستمرار نظراً إلى الإضافات والتحريرات الجديدة، ولكن في الوقت الحالي تحوي الموسوعة الرقمية ملايين المقالات في مجموعة واسعة من المواضيع بمختلف اللغات، مما يجعلها من أكبر المصادر المتاحة على الإنترنت للمعرفة. وتتمتع بأهميتها نظراً إلى توفرها وحرية الوصول إليها، فهي متاحة للجميع عبر الإنترنت، مما يسمح للأفراد بالوصول إلى المعلومات بسهولة وبصورة مجانية وفي أي وقت كان.
كذلك تعد الشمولية من أبرز ميزات "ويكيبيديا"، فهي تغطي مجموعة واسعة من المواضيع، مما يتيح للأفراد العثور على معلومات حول أي موضوع يهمهم. ونظراً إلى قدرة المستخدمين على تحرير وتحديث المقالات في الموسوعة الرقمية، فإن المعلومات يمكن أن تظل محدثة مع مرور الوقت. كما أنه من أهم ميزاتها التعددية اللغوية، إذ يسمح توفرها بلغات عدة الوصول إلى المعلومات بلغة القارئ.
لكن، وعلى رغم أهمية "ويكيبيديا" فإن بعض العيوب تشوبها، وأولها التحرير غير المراقب بصورة كافية، إذ قد يؤدي إلى وجود معلومات غير دقيقة أو غير موثوقة في بعض الأحيان. وقد يكون لدى بعض المحررين المتطوعين معرفة محدودة بالموضوعات التي يحررونها، مما يؤثر في جودة المقالات. كما أن مسألة الموضوعية تعد من أكبر التحديات التي تواجه "ويكيبيديا"، إذ قد يتم تحريف المعلومات أو إدراج معلومات غير موثوقة بغرض التأثير في القراء.
كذلك هناك كثرة في الموسوعات المتخصصة على الإنترنت وتفاوت كبير في جودتها. بعض هذه الموسوعات هو عبارة عن نسخ إلكترونية أو تعديلات لأعمال مطبوعة في الأصل. ومن الأمثلة الممتازة على الموسوعات الإلكترونية المتخصصة موقع "أكسفورد ميوزك أونلاين" الذي يستقي محتواه من مصادر موثوقة عدة بينها قاموس "نيو غروف" للموسيقى والموسيقيين، وموسوعة الموسيقى الشعبية، وقاموس أكسفورد للموسيقى.
وتعد "ستانفورد للفلسفة" أيضاً موسوعة إلكترونية أخرى ذات جودة ممتازة، تتم كتابة ومراجعة كل مقالة من مقالاتها من قبل فلاسفة محترفين.
مكانة مهمة وتحديات مستقبلية
تتمتع الموسوعات بأهمية كبيرة في المجتمعات الحديثة، إذ تعد مصدراً أساساً لنقل المعرفة وتوثيق الثقافة والتاريخ. وتسهم في توفير مصادر موثوقة للمعلومات وتمكين الأفراد من فهم وتحليل العالم من حولهم. وبفضل توفرها عبر الإنترنت أصبحت إمكانية الوصول إلى محتواها واستخدامها أكبر بالنسبة لمختلف فئات المجتمع.
ومع ذلك، تواجه الموسوعات تحديات متزايدة في عصرنا الحالي. بينها تنامي حجم والمعرفة وتعقيدها، مما يتطلب مواكبة التطورات الجديدة وتحديث المحتوى بانتظام، إضافة إلى ذلك عامل الثقة، حيث يشكك البعض في صدقية المعلومات المقدمة ويتساءل عن مصادرها ومدى موثوقيتها.
وقد تواجه الموسوعات تحديات أكبر في المستقبل مع التطورات التكنولوجية المستمرة التي قد تغير طبيعة كيفية الوصول إلى المعلومات وتبادلها. على أي حال، من الممكن أن تستفيد الموسوعات من هذه التطورات لتعزيز جودة المحتوى وتوفير تجارب مستخدم محسنة، مثل استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في تحسين عمليات التحرير والتحقق من دقة المعلومات، إذ لا مجال بعد الآن للعودة إلى عصر الظلمات ما قبل "غوغل" و"ويكيبيديا" الذي يتخيله الأطفال في يومنا هذا.