Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التمريض في العناية التلطيفية... الملائكة أيضا يعانون

الممرضات يغصن في تفاصيل حياة المرضى وعائلاتهم فتترك كل خسارة أثراً أكبر فيهن لكن تبقى فكرة الحد من معاناة المريض الحافز الأساسي

خدمة الرعاية التلطيفية بمستشفى القديس يوسف في مارسيليا (أ ف ب)

ملخص

عند تقبل فكرة الموت واعتباره جزءاً من الحياة وأنه حق على الجميع، تبدو الأمور أكثر سهولة. عندها يمكن رؤية المرضى يرحلون بسلام وكرامة ومن دون ألم.

حس إنساني فائق يميز العاملات في مهنة التمريض ويساعدهن على مواجهة ضغوط نفسية وجسدية، تتضاعف في حال عملهن في قسم الرعاية التلطيفية، إذ تمضي الممرضة أياماً وأشهراً أو أكثر، في العمل على التخفيف من معاناة المريض وعائلته، وخلالها تغوص في حياتهم بأدق تفاصيلها مما يزيد من صعوبة الخسارة في نهاية المطاف.

التعاطف والضمير

تجمع بين قصص الممرضات اللاتي يعملن في مجال الرعاية التلطيفية نقاط عدة مشتركة، على رأسها درجات التعاطف العالية التي توثق علاقاتهن بمرضاهن، إذ يسعين إلى التخفيف من معاناتهم بحس إنساني، واللافت أنهن لم يبدأن مباشرة في هذا الاختصاص عند ممارسة المهنة، بل توجهن إليه بعدما استفزتهن معاناة المريض في رحلات العلاج الطويلة التي تكون نهايتها معروفة في كثير من الأحيان.

في الرعاية التلطيفية تختلف الأمور عن التمريض عامة، إذ لا تتعاطى الممرضة هنا مع المريض فحسب، إنما مع العائلة ككل، مما يجعلها أكثر تأثراً بالقصص وأكثر اندماجاً بالحالات، فجنان حنا من الممرضات اللاتي عملن أولاً في قسم الأورام السرطانية بعد تخرجها عام 2005، وكان قسم الأورام السرطانية اختياراً لها من بداية الطريق كاختصاص يمكن أن تجد فيه كل ما تبحث مهنياً عنه.

اكتشفت جنان أن عبارة "العناية التلطيفية" تستخدم عشوائياً، فلم يلقَ هذا المجال الاهتمام اللازم إلى حين الاعتراف به كاختصاص عام 2013، لكن في ذاك الوقت، لم تكُن هناك بعد أقسام خاصة به إلا أن جنان اختارته من دون تردد، حتى إنها سافرت للتمرس في المجال، وشاءت الظروف أن تتعرف إلى مؤسسة جمعية "بلسم" للعناية التلطيفية الدكتورة هبة عثمان، فكانت الانطلاقة معها.

تقول جنان، "انضممت إلى الجمعية ومنها إلى قسم العناية التلطيفية في مستشفى الجامعة الأميركية لأغوص في مجال اكتشفت فيه أنه ما من حالة تشبه أخرى، إذ يترك كل واحد من المرضى أثراً خاصاً فينا من خلال تفاصيل معينة نعيشها معاً، وتنشأ بيننا وعائلاتهم علاقة خاصة تنمو تدريجاً، مما يضاعف الأثر الذي يتركونه فينا، خصوصاً في حال رحيلهم. فنحن نزور منازلهم ولا نكتفي برعايتهم في المستشفى. ووجودنا في منزل المريض يولد أصلاً مشاعر أقوى تصعب السيطرة عليها بما أننا نغوص في حياتهم".


أصعب ما في عمل جنان في قسم العناية التلطيفية عندما تجري الأمور بعكس سنة الحياة، فصحيح أنها تعمل مع المسنين، لكن هناك من المرضى من هم دون سن الـ18، ومن ثم تشهد على حالات يودع فيها الأهل أطفالهم، فيكون من الصعب تهدئتهم وإقناعهم بتقبل الواقع. في مثل هذه الظروف، لا شيء يمكن أن يقال. فعند خسارة المسن، يمكن تذكر ما حققه من إنجازات مع أبنائه وأحفاده، أما عندما يكون الفقيد طفلاً فتكون الحياة أمامه والخسارة أكثر صعوبة بعده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالنسبة إلى جنان، زادت الأمور صعوبة عندما أصبحت أماً، لكن وجود فريق عمل متكامل قد يخفف من الضغوط غالباً. فالكل يدرك حجم الضغوط النفسية في هذه الرسالة، حتى إن الفريق يخضع لمتابعة نفسية للحد من الأعباء والتعبير عن المشاعر، وأيضاً للتواصل مع المريض بصورة أفضل، خصوصاً خلال الأيام الأخيرة من حياته لتسهيل الأمور عليه. فثمة طرق معينة يتعلم الفريق التواصل فيها ونقل الرسالة إلى المريض من دون إعطائه آمالاً خاطئة ومن دون كذب أيضاً. وبعد خسارة مريض، تخضع حالته للمتابعة في الاجتماع الدوري للاطمئنان على كل فرد من الفريق الذي تعامل معه لأنه قد يمر بوضع نفسي صعب.

توضح جنان أنه يصعب نسيان بعض المرضى ولو مر وقت طويل على خسارتهم، ومنهم أطفال قد تكون ابتسامتهم هي السبب أو ربما حيويتهم أو ذكاؤهم الزائد، فمنهم من يتحول إلى جزء من عائلة الممرضة، لكن في كل الحالات لا بد من التمسك بالمعايير الأخلاقية والإنسانية، إضافة إلى أهمية التمسك بالتعاطف الذي يعتبر مهارة أساسية يجب أن يتقنها الممرض والطبيب، إلى جانب الحس الإنساني. وحتى في لحظات الإرهاق الجسدي والنفسي، يبقى الأهم بالنسبة إلى جنان تأدية الواجب حتى تشعر بالسلام الداخلي. وهي لا تنكر أن دخولها هذا المجال أحدث تغييراً في نظرتها إلى الحياة، فباتت تراها بمزيد من العمق بعيداً من القشور والأمور السطحية. والأولوية بالنسبة إليها أن تكون عائلتها وأهلها بصحة جيدة، أما الأمور الأخرى فهي مجرد تفاصيل وأمور تستخف بها.

كرامة المريض أولوية

تصف الممرضة رولا مشموشي العناية التلطيفية بأنها خدمة تساعد المريض على التعايش مع مرض مزمن يعانيه ومع أعراضه التي قد ترافقه في حياته، وهي لا تقدم إلى من يعانون أمراضاً مستعصية حصراً. اختارت رولا التدرب في هذا المجال بعد تخصصها في الأورام السرطانية، فكانت لاحظت أن المريض الذي يعي حالته وأعراضه، يكون أكثر قدرة على الاختيارات المناسبة له في مرضه.

الدخول في تفاصيل حياة المرضى وعائلاتهم في العناية التلطيفية ليس أمراً سهلاً، مما يجعل الممرضة أكثر تأثراً بكل حالة تتعامل معها، وتقول رولا "تنمو بيننا والمرضى علاقة وطيدة لأننا نعيش معهم. والأصعب بالنسبة لي عندما أجد مريضاً في رحلة المرض والعلاج يخسر صورته كرأس العائلة أو يخسر شيئاً من كرامته، فقد يمر أحياناً بمراحل صعبة جداً"، لذلك لا تتذكر رولا أنها عادت في مرة لمنزلها كما غادرته، فتضطر أحياناً إلى حماية نفسها من الأثر النفسي، خصوصاً أن بعض المرضى قد يؤثرون فيها أكثر من آخرين. "نحن بشر لنا مشاعر وأحاسيس، وما نمر به ليس سهلاً. لذلك، لا بد لنا من الخضوع للمتابعة النفسية لحماية أنفسنا. كما قد نتعاون ونسلم زميلة لنا لكسر هذا الشق العاطفي، حتى لا نغوص أكثر في الحالة. ندعم بعضنا لنستمر بإعطاء أفضل ما لدينا".

تأتي العناية التلطيفية بصورة أساسية للتخفيف من معاناة المريض ومساعدته في التعايش مع مرضه وتحسين جودة حياته، وعلى رغم أن قصص النجاح كثيرة، لكن هناك أيضاً مكاناً للخسارة. وتعود رولا وتؤكد أن "الأصعب هي الحالات التي تخالف قوانين الطبيعة، فتخسر فيها الأم ابنها أو ابنتها. في مثل هذه الحالات، تمر العائلات بلحظات في غاية الصعوبة، وهنا تكون المساعدة للعائلة لتحمّل فكرة فقدانه.

وتقول رولا "التمريض جزء من حياتي ولو عدت للوراء لما اخترت غيره. وعلى رغم الإجهاد النفسي أحياناً، تحفزني دوماً فكرة أني أقدم المساعدة للآخر وأخفف عنه، وإن كان تطور حالة المريض إلى مراحل متقدمة مسألة في غاية الصعوبة، خصوصاً عندما يخسر شيئاً من عزة نفسه".

معاناة المريض

دخلت الممرضة سيلين بكري مجال العناية التلطيفية منذ نحو ثمانية أعوام، وعملت قبلها في قسم الأمراض المزمنة والكلى حيث شهدت معاناة مؤلمة للمرضى، مما استفزها لاعتباره ظلماً بحقهم. فبالنسبة إلى الطبيب تبقى الأرقام ونتائج العلاجات هي الأهم، ونادراً ما تعطى أهمية لمعاناة المريض. لذلك، عندما عرض عليها العمل في هذا المجال، سارعت إلى الموافقة لتساعد المرضى على قدر المستطاع.

تقول سيلين "في التمريض ثمة حاجة إلى الشعور بالمريض والتعاطف معه كأساس للتواصل، إضافة إلى الضمير الحي، وهي عناصر أكثر أهمية في العناية التلطيفية، وكذلك من الضروري أن تحسن الممرضة الاستماع إلى المريض وعائلته وحاجاتهم".

 

في الفترة الأولى بدا لسيلين أنها قادرة على الاستمرار، لكن زادت التحديات عندما أصبحت أماً وباتت تواجه صعوبات في تحمل هذه الضغوط. عندها، زاد مقدار تعاطفها مع المرضى وإحساسها بمعاناتهم، حتى إنها صارت تقيم رابطاً في كل مرة تصادف فيها مريضاً تتشابه فيها قصته مع ظروفها، فتتأثر أكثر".

يلومها كثيرون على وجودها في هذا القسم حيث تزيد الضغوط، لكنها لم تندم للحظة على اختيارها، حتى إنها تفكر في دخول مجال العناية التلطيفية للأطفال، وإن كانت الأمور ستكون أكثر صعوبة عليها. تتعاون سيلين مع الطبيبة المسؤولة عن القسم لتتمكنا من الاستمرار على رغم التحديات والتعب النفسي، لأنه ثمة حالات تأخذ من طاقتهما. تؤكد أن جميع الحالات تؤثر فيها، لكنها تصف رحيل المسن الذي لا يعاني أمراضاً مستعصية بالهادئ لأن العمر يكون سبب رحيلهم. في المقابل، عندما يصاب شباب بالسرطان، ويعانون الأعراض والأوجاع، تكون معاناتهم في غاية الصعوبة فتترك أثراً كبيراً.

أما الممرضة ماري كلير مهاوج، فقد عملت طوال 20 عاماً في قسم العناية الفائقة، حتى بات همها الأساسي أن تعطي المريض حقه عبر الحد من معاناته، مما لم تشهده دوماً لاعتبار أن طرق العلاج قد لا تتوافق مع هذا المبدأ. وعام 2006، علمت بوجود العناية التلطيفية كمجال يمكن التخصص فيه في فرنسا. وكان همها الأساسي التذكير بكرامة المريض كإنسان قبل العلاج، وإن كانت الرعاية الطبية في غاية الأهمية. ففي كثير من الأحيان، يهمل هذا الجانب أثناء العلاجات التي تقدم إلى المريض، خصوصاً في الأمراض المزمنة والمستعصية.

تقول "نتعامل مع أمراض مزمنة ومستعصية، لكن ما دام أن التعاطف موجود ويمكن التخفيف عن المريض، تصبح الأمور أكثر سهولة ونشعر بالراحة النفسية. يزودني ذلك بالطاقة لأتابع في مهمتي هذه، وإن لم تكُن الأمور سهلة".

تحرص ماري كلير على عدم نقل هذه الهموم إلى المنزل، وتساعدها المتابعة النفسية في كثير من الأحيان، خصوصاً عند تعاملها مع حالات تؤثر فيها أكثر وتجد صعوبة في نسيانها، لكن تبقى فكرة مساعدة المريض ليرحل بكرامة ووجودها إلى جانبه لدعمه، مصدر ارتياح لها.

في عملها بهذا المجال، وانطلاقاً من خبرتها فيه تشير الطبيبة الاختصاصية في أمراض الشيخوخة والعناية التلطيفية الدكتورة لين عبده إلى أنه عمل متعب نفسياً حكماً وليس سهلاً، لكن في العلاقة مع المريض وعائلته تجربة خاصة لا يمكن حصرها في هذا الإطار الضيق، وترى أنه "عند تقبل فكرة الموت واعتباره جزءاً من الحياة وأنه حق على الجميع، تبدو الأمور أكثر سهولة. عندها يمكن رؤية المرضى يرحلون بسلام وكرامة ومن دون ألم".

وتضيف أن "تقدير عائلات المرضى لما نبذله من جهود يخفف من تعبنا ويساعدنا على تخطي الضغوط، لكن يبقى الأصعب أن نتعرف إلى مريض في مراحل متقدمة من المرض أو خلال أيامه الأخيرة. لذلك، نحن ندعو العائلات إلى التوجه إلينا من بداية تشخيص الحالة المستعصية لمساعدة المريض من مرحلة مبكرة. كما ندعو إلى التمييز بين العناية التلطيفية والموت الرحيم الذي لا نلجأ أبداً إليه، بل نساعد المريض على تحسين جودة حياته في فترة المرض والحد من معاناته من دون أن نتدخل لإنهاء الحياة".

الحالات الأصعب بحسب عبده هي تلك التي تتعلق بشاب أو شابة، خصوصاً إذا كان لديه أطفال، والحالات كثيرة حالياً، خصوصاً من إصابات سرطان الدماغ التي زادت معدلاتها بين الشباب، تحديداً في الشرق الأوسط، لكن في كل الحالات، أهم ما يحرص عليه الفريق الطبي في العناية التلطيفية أن يرحل المريض بسلام. وما دام أنه ثمة قبول لفكرة الموت وهناك مرافقة طبية ونفسية وروحانية، يمكن أن يحصل ذلك، فيكون المريض مرتاحاً وفريق العمل والعائلة أيضاً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات