Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سودانيون أكلوا التراب... القصة الكاملة لمأساة فاقت الخيال

صارت أجزاء من البلاد على شفا مجاعة من صنع الإنسان بعد سرقة قوات "الدعم السريع" المحاصيل واضطرار المزارعين إلى الفرار

بعض السودانيين يمضون يومين أو 3 أيام من دون طعام (أ ف ب)

ملخص

يروي فيصل محمد الذي يعمل في منظمة صحاري للتنمية، وهي منظمة محلية للإغاثة، أنه لم يصدق أن الناس يأكلون التراب حتى شاهد بنفسه ذلك في مخيمات عدة. وقال "لما تكون البطن خاوية الناس تحاول تملأها بأي شيء".

أصبح التراب طعام المضطرين من سكان بعض مناطق السودان بعد أن عز الغذاء كما هي الحال في مخيم اللعيت للنازحين.

فالمخيم الفقير الكائن في شمال دارفور يشهد تدفقاً جديداً للنازحين مع اتساع رقعة القتال في الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو عام في السودان لتشمل مساحات واسعة من البلاد، ووسط حملة تطهير عرقي في دارفور.

وقرنق أشين أكوك هو واحد من آلاف الوافدين الجدد إلى المنطقة، وقال إنه وزوجته وأطفالهما الخمسة تركوا منزلهم في منطقة كردفان بالجنوب بعد أن اقتحمت ميليشيات عربية على ظهور الجمال قريتهم وأحرقت كوخهم.

ووصل أكوك (41 سنة) إلى اللعيت في ديسمبر (كانون الأول) 2023، لكنه بلا عمل ولا يستطيع إعالة أسرته، وفي بعض الأحيان يمضون يومين أو ثلاثة أيام من دون طعام، وعندما يحدث ذلك فإنه ينظر بلا حول ولا قوة إلى زوجته وأطفاله وهم يحفرون حفراً في الأرض ويدخلون أيديهم فيها ويلتقطون بعض التراب ويصنعون منه كرات ويضعونها في أفواههم ويبتلعونها بالماء.

وقال "أظل أطلب منهم ألا يفعلوا ذلك، لكنه الجوع... ليس بوسعي أن أفعل أي شيء".

يتفشى الجوع وتكشر المجاعة عن أنيابها في السودان وسط غياب أي مؤشرات على تراجع حدة الحرب التي اندلعت في أبريل (نيسان) 2023 بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" شبه العسكرية.

والتوقعات مؤلمة وصادمة بحسب ما تشير مقابلات أجريت مع أكثر من 160 مدنياً عصف بهم القتال وما يزيد على 60 من موظفي الإغاثة وخبراء الأمن الغذائي، فضلاً عن مراجعة المسوحات الغذائية التي تجريها وكالات الإغاثة. وأمضى مراسلون لـ"رويترز" قرابة أسبوع في أم درمان الشهر الماضي، وهي واحدة من المدن الثلاث التي تشكل العاصمة الخرطوم، وأجروا مقابلات مع أشخاص يئنون تحت وطأة النقص الحاد في الغذاء.

وصارت أجزاء من السودان على شفا مجاعة من صنع الإنسان تعتمل منذ فترة، فانهار قطاع الزراعة في ظل سرقة قوات "الدعم السريع" المحاصيل من المزارعين واضطرارهم إلى الفرار من أراضيهم بسبب أعمال العنف، وبات الجوع سبباً آخر للنزوح وليس القتال وحده، إذ يهجر كثر منازلهم بحثاً عن الطعام، وتنتشر الملاريا وأمراض أخرى بين النازحين.

وتتعرض مراكز المساعدات الرئيسة للنهب من قوات "الدعم السريع" وميليشيات متحالفة معها، ويمنع الجيش المساعدات الدولية التي تصل إلى السودان عن مناطق بدأت فيها المجاعة بالفعل.

وقالت آنيت هوفمان التي أعدت تقريراً لمؤسسة "كليجندال" البحثية التي مقرها هولندا عن أزمة الغذاء في السودان "تسببت الحرب في أكبر أزمة جوع في العالم... من المرجح أن تحدث مجاعة لم نشهدها منذ عقود".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يرد الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" على أسئلة عن تفاصيل في هذا التقرير، وذكرت وزارة الخارجية السودانية، وهي جزء من الحكومة التي يقودها الجيش، أنها ملتزمة تسهيل إيصال المساعدات، متهمة قوات "الدعم السريع" بنهب المساعدات وعرقلة وصولها. وأكد مساعد القائد العام للقوات المسلحة الفريق إبراهيم جابر أن السودان لن يسقط في براثن الجوع ولديه "أكثر مما يحتاج إليه". وأفاد بعض سكان الخرطوم بأن الجيش قدم في بعض الأحيان كميات محدودة من المساعدات الغذائية وسط القتال.

ونفت قوات "الدعم السريع" ارتكاب أعمال نهب، مشددة على أنها ستحاسب أي عناصر مارقة في صفوفها، ومتهمة الجيش بتعطيل إيصال المساعدات.

ومن أجل البقاء على قيد الحياة يلجأ الناس في أنحاء السودان إلى تدابير يائسة، ففي غرب دارفور لم يجد المزارعون ما يسد رمقهم سوى البذور التي كانوا اشتروها لغرسها، بعدما نهبت قوات "الدعم السريع" أراضيهم، وفي منطقة كردفان باع بعضهم أثاثهم وملابسهم للحصول على نقود لشراء الطعام، وفي الخرطوم لم يجد سكان محاصرون في منازلهم خياراً سوى قطع أوراق الأشجار وغليها وأكلها.

ويشير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو أداة عالمية لرصد الجوع، إلى أن ما يقارب 18 مليون شخص في السودان، أي أكثر من ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 49 مليوناً، يواجهون "مستويات عالية من الانعدام الحاد للأمن الغذائي"، وتلفت تقديراته أيضاً إلى أن من بين هذا العدد هناك نحو 5 ملايين شخص على بعد خطوة واحدة من المجاعة.

وقال في مارس (آذار) الماضي إن هناك حاجة إلى إجراء فوري "للحيلولة دون تزايد أعداد الوفيات والانهيار التام لسبل العيش وتجنب أزمة جوع كارثية في السودان"، مضيفاً أنه لم يتمكن من تحديث التوقعات التي قدمها في ديسمبر 2023 بسبب صعوبة الحصول على البيانات من مناطق الصراع وانقطاع خدمات الإنترنت والهواتف عن معظم أنحاء البلاد.

ووضع تقرير "كليجندال" ثلاثة تصورات للسودان، أكثرها تفاؤلاً أن تعصف المجاعة بستة في المئة من السكان، وفي أسوأ الحالات سيعاني 40 في المئة المجاعة خلال الجفاف بين مواسم الحصاد والذي يبدأ في مايو (أيار) الجاري ويستمر حتى سبتمبر (أيلول) المقبل.

وفي بعض الأماكن يموت الناس بالفعل، إذ خلصت تقديرات منظمة "أطباء بلا حدود" إلى وفاة طفل واحد في المتوسط كل ساعتين داخل مخيم زمزم الضخم للنازحين في شمال دارفور نتيجة المرض وسوء التغذية.

وعلى رغم الأزمة الغذائية التي تطبق على البلاد، لم يحظَ الوضع في السودان بقدر معتبر من التدقيق الدولي مقارنة بالأزمات الإنسانية الأخرى في أماكن مثل أوكرانيا وغزة، فيطلق بعض المراقبين على الصراع في السودان وصف "الحرب المنسية".

وقالت كبيرة مستشاري برامج الصحة العالمية في منظمة الإغاثة "بروجكت هوب" تشاسا لطيفي "أكبر تحدٍّ يواجهنا هو التمويل وقلة الاهتمام بالسودان... هناك اهتمام كبير بكل من أوكرانيا وغزة لدرجة أنه لا توجد فرصة لدى أي أحد للتفكير في السودان أو حتى الاستماع لما يحدث هناك".

 

ولم تفلح الضغوط الدولية على طرفي الصراع حتى الآن في حل أزمة إيصال المساعدات، وحملت نائبة مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إيزوبيل كولمان كلاً من قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات "الدعم السريع" الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) المسؤولية عن عدم وصول المساعدات إلى السكان.

وقالت لرويترز "يتحملان مسؤولية شبح المجاعة التي تلوح في الأفق... الناس حرفياً يموتون كل يوم بسبب عدم إمكان الحصول على الغذاء وغيره من الضروريات".

وأبدى بعض مسؤولي الإغاثة وخبراء التغذية قلقاً إزاء تأخر صدور أحدث تقييمات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي حول أزمة الغذاء في السودان.

وقالت هوفمان من مؤسسة "كليجندال" إنه عندما يتسنى صدور تحليل جديد، سيكون الأوان فات لتقديم المساعدات وإنقاذ الأرواح، وطالبت التصنيف المرحلي المتكامل بالإعلان عن أن هناك خطر مجاعة.

وفي حين أن التحذير من حدوث مجاعة لا يستتبع أي تعهدات ملزمة على الأمم المتحدة أو الحكومات، فإن من شأنه توجيه اهتمام العالم نحو وضع الأزمة وحشد الموارد اللازمة لتقديم مساعدات طارئة، وبصورة عامة يصدر إعلان المجاعة في مكان ما عن الحكومات والأمم المتحدة.

وأكدت مديرة التصنيف المرحلي المتكامل في السودان فاطمة الطاهر، وهي أيضاً مسؤولة حكومية، أنه ليس هناك تأخير في إصدار التحليل وسيصدر في مايو الجاري.

جوع في الخرطوم

لا يقتصر الحرمان على الفقراء، فحتى قبل الحرب كان السودان يواجه فقراً متفشياً وجوعاً واسع النطاق، وتفيد الأمم المتحدة بأنه صار يعاني أكبر أزمة نزوح، إذ إن واحداً من كل ثمانية نازحين في العالم سوداني. وتسبب القتال في انهيار الاقتصاد، مما أثر في الجميع من دون تمييز.

وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن ما يقارب نصف السكان يعانون البطالة، وانهار النظام المصرفي الرسمي، مما حال دون إمكان وصول المواطنين إلى ودائعهم، وأدى انقطاع خدمات الاتصالات إلى حرمان الناس من شريان الحياة الرئيس المتمثل في تحويل الأموال عبر الإنترنت، فيما لفت وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم إلى انكماش الاقتصاد 40 في المئة بسبب الحرب.

وداخل أحياء الطبقة المتوسطة بالخرطوم، صارت الحياة معركة يومية يسودها الجوع والخوف، إذ يجد الناس أنفسهم محاصرين بين الجيش وقوات "الدعم السريع".

وبالنسبة إلى لينا محمد حسن (32 سنة) وأسرتها يتسلل وحش المجاعة ببطء، وبعد اندلاع الحرب العام الماضي سقطت قذائف مورتر حول منزلها في حي بانت بأم درمان، وقالت إنه كانت هناك أيام يبدأ فيها القصف في الخامسة صباحاً ويستمر طوال اليوم، ويجعل ذلك الخروج للبحث عن الطعام محفوفاً بالأخطار.

وضربت قوات "الدعم السريع" حصاراً على مناطق في أنحاء العاصمة مثل حي بانت القريب من قواعد الجيش السوداني في محاولة للتضييق على الوحدات التي تحاول وقف تقدمها، وبدأ الطعام يختفي ودمر القتال الأسواق. وذكر سكان أن أموال الناس نفدت بعد أن نهبت قوات "الدعم السريع" بنوك الخرطوم وأخذوا منها أكواماً من الأوراق النقدية والذهب، لكن قوات "الدعم السريع" نفت تورطها في أعمال نهب.

 

واضطر ذلك لينا وعائلتها المكونة من 11 فرداً إلى التحول لوجبات تتكون في الأساس من العدس والرز، وقالت "حتى هذا كان من الصعب الحصول عليه لأن الأسعار صارت خمسة أضعاف الطبيعي".

ويروي سكان أنه بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت قوات "الدعم السريع" قطعت الكهرباء وخط أنابيب المياه الرئيس عن بانت، وبدأ جنود من قاعدة عسكرية قريبة ومدنيون باصطياد القطط لأكلها. وقالت لينا إن النساء اللاتي يحملن الطعام يتعرضن للتفتيش عند نقاط أمنية تابعة لقوات "الدعم السريع" ويتهمن بدعم الجيش ويتعرضن للضرب والاعتداء الجنسي.

ولم تحدث طرود الأغذية التي أسقطها الجيش جواً على الحي فرقاً يذكر، وأوضحت لينا أن الطرود تحطمت عندما اصطدمت بالأرض واختلط الطعام بالتراب، وبمرور الوقت أصبح من المستحيل الحصول على أي شيء، لا مال ولا طعام.

وأضافت أن الجنود كانوا يتقاسمون طعامهم في بعض الأحيان مع أطفال عائلتها، وبدأت هي والبالغون الآخرون بعدم تناول بعض الوجبات، أحياناً ليومين متواصلين، حتى يتمكن الصغار من تناول الطعام. وصارت أوراق الأشجار المغلية في الماء مع بعض البهارات جزءاً من نظامهم الغذائي.

وأردفت أنه "حاولنا نبعد من ورق الشجر السام. فقط أوراق شجر المانجو والليمون والجوافة. الأطفال كانوا بياكلوها... كانوا جعانين ما يقولوا لا".

وفي أواخر فبراير (شباط) الماضي، بعد أن أحرز الجيش تقدماً في بانت، تمكنت لينا وعائلتها من الفرار إلى جزء آخر من أم درمان تحت سيطرة الجيش السوداني، وتحدثت إلى "رويترز" الشهر الماضي من شقة هناك.

ولا يزال الناس محاصرين في أكثر من 12 منطقة بالخرطوم، وأفادت هيئة عالمية معنية بانعدام الأمن الغذائي، وهي شبكة أنظمة الإنذار المبكر من المجاعة، في مارس بأن هناك مناطق في العاصمة عرضة "لخطر المجاعة"، إذ إن طرفي الصراع "يستخدمان تكتيكات شبيهة بالحصار ليقطع كل منهما الإمدادات عن خصمه".

لا ملاذ من الجوع

أكدت أسر كثيرة حوصرت في العاصمة لـ"رويترز" أنها تريد الفرار، لكن القصص التي سمعتها عن تعرض نساء للاغتصاب وعن اعتقال وقتل شبان على أيدي قوات "الدعم السريع" تجعلها تحجم عن ذلك.

وخلصت واحدة من سكان بانت تبلغ من العمر 24 سنة إلى أنها ليس أمامها خيار سوى محاولة الهرب عندما أخبرها طبيب في نوفمبر بأن ابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات قد لا ينجو إذا بقوا في الحي.

وقالت إنها كانت تطعم ابنها بضع ملاعق من الحمص يومياً لأشهر عدة، وعلى رغم أنها كانت حبلى، اضطرت إلى تفويت بعض الوجبات. وبعد أن أنجبت طفلة، لم تكن قادرة على الرضاعة الطبيعية ولم تتمكن من العثور إلا على حليب اصطناعي منتهي الصلاحية لإطعام مولودتها الجديدة. وأوضحت أن ابنها أصيب بفقر الدم وكان يتقيأ بصورة متكررة.

وعلى طريق الخروج من بانت، كان يتعين عليها المرور عبر نقاط تفتيش تسيطر عليها قوات "الدعم السريع"، وروت أن رجال الميليشيات الذين كانوا يبحثون عن النقود والمصوغات الذهبية ضربوها بالسياط وتحسسوا جسدها أثناء تفتيشها، وأجبرت بعض النساء على التجرد من ملابسهن، مضيفة أن الجنود اغتصبوا امرأة أمامها، وأكدت جارة لها هربت معها هذه الرواية.

وقالت المرأة التي تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها "شفت نسوان بيسحبوهم على بيوت فاضية. تحرشوا فيّي".

وأردفت أنه عندما وصلت الأسرة أخيراً إلى منطقة يسيطر عليها الجيش في أم درمان كانت على وشك الانهيار بسبب معاناتهم من الجوع والجفاف والمرض.

وحتى أولئك الذين فروا من القتال إلى منطقة أم درمان التي يسيطر عليها الجيش يقولون إنه ليس لديهم سوى قليل من الطعام لأنهم بلا مورد للرزق ولأن المواد الغذائية المتوافرة في الأسواق باهظة الثمن. وكان هناك معلمون ومحامون وصيادلة من بين أولئك الذين اصطفوا مراراً في مارس أمام المطابخ الجماعية للحصول على وجبات مجانية من الفول والعدس قد تكون اللقيمات الوحيدة التي ستدخل جوفهم خلال اليوم.

وأكدت الصيدلانية فاطمة صالح أنها تقف لساعات في طابور للحصول على ثلاث مغارف من العدس أو الفول لعائلتها المكونة من أربعة أفراد ومن بينهم والدتها المريضة، وقالت وهي تصف المرة الأولى التي وقفت فيها في طابور الوجبات المجانية إنها بكت بشدة.

وذكرت سحر موسى التي فرت مع زوجها وأطفالها الثلاثة أنها كانت تعيش حياة رغدة في الخرطوم قبل الحرب، وكان زوجها يكسب جيداً من عمله مهندساً ميكانيكياً.

وعندما يقول لها أطفالها إنهم جوعى، تخبرهم بأن والدهم سيأتي بالطعام، على رغم أنها تعلم أنه لن يفعل ذلك، وأضافت أن "أحياناً أتمنى أن تقتلني قذيفة حتى لا أرى أطفالي يبكون من الجوع".

وصارت بورتسودان مركزاً لجميع المساعدات منذ أن انتقلت الحكومة ووكالات الإغاثة إلى هناك بعد سيطرة قوات "الدعم السريع" على جزء كبير من الخرطوم. ومع ذلك يواجه النازحون سوء التغذية والأمراض في المدينة الساحلية. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى فرار ما يقارب ربع مليون شخص منذ بداية الحرب إلى ولاية البحر الأحمر التي عاصمتها بورتسودان، وتحولت عشرات المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين.

وطفحت مياه الصرف الصحي في مخيم الشاحنات للنازحين ببورتسودان عندما زارته مراسلة "رويترز" الشهر الماضي، وتسنت رؤية أطفال يتجولون حفاة وبطونهم منتفخة بسبب سوء التغذية.

"سرقوا قوت الناس"

تدمر الفوضى التي تعصف بمناطق كانت يوماً بمثابة سلة غذاء للسودان الإمدادات الغذائية، إذ خلص تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) في مارس إلى أن البلاد شهدت انخفاضاً بنسبة 46 في المئة بإنتاج الحبوب خلال 2023 مقارنة بالعام السابق.

ويتعرض المحصول للنهب في منطقة الجزيرة الواقعة جنوب العاصمة والتي تسهم في أكثر من نصف إنتاج البلاد من القمح، مما يؤدي إلى إفقار المزارعين ويعرقل قدرتهم على تمويل زراعة محاصيل جديدة.

وزرع خالد مصطفى، وهو أحد المزارعين في ولاية الجزيرة، نحو 10 أفدنة بالذرة والعدس العام الماضي، وكان يخطط لبيع المحصول بعد الحصاد في السوق المحلية لتسوية ديونه وتغطية نفقات الموسم الزراعي المقبل.

 

لكن في فبراير، اقتحم أفراد من قوات "الدعم السريع" منزله ودفعوه أرضاً ووضعوا سكيناً على رقبته، وأجبروه على تسليم محصوله بالكامل الذي كان 110 أجولة من الذرة والعدس، وأضاف أنهم استولوا أيضاً على شاحنات ومعدات أخرى.

وتشير شهادات كثير من السكان إلى أن قصة مصطفى تكررت في عشرات القرى في الجزيرة منذ أن شنت قوات "الدعم السريع" هجومها على الولاية في ديسمبر، ووصف المزارعون كيف كان رجال يرتدون زي القوات يستقلون شاحنات صغيرة ودراجات نارية ويتنقلون من منزل إلى آخر ويعتدون على السكان ويستولون على ممتلكاتهم ويجبرونهم تحت تهديد السلاح على نقل محاصيلهم إلى مركباتهم.

وأثناء نهب القرى، دمر رجال الميليشيات ألواحاً شمسية تستخدم لتشغيل المولدات التي تساعد في سحب المياه من الآبار العميقة. وتحدث مزارعون أيضاً عن سرقة الوقود اللازم لتشغيل مطاحن الدقيق، مما ترك سكان القرى من دون أي وسيلة لطحن الحبوب والحصول على الدقيق (الطحين) المستخدم في صنع العصيدة، وهي من الأطباق الرئيسة في المطبخ السوداني.

وقال مزارعون إن من هاجموهم، على رغم أنهم كانوا يرتدون في كثير من الأحيان زي قوات "الدعم السريع"، لا يبدو أنهم جزء من منظومة واضحة، فهم مجموعات صغيرة تضم الواحدة نحو 20 فرداً لكل منها قائدها الخاص، وفرضت قوات "الدعم السريع" ضريبة انتقال في أماكن مثل دارفور والجزيرة تجبر المزارعين على دفع ضريبة أثناء تنقلهم.

وأكد أحمد عمر الذي يمثل جماعة من المزارعين في الولاية إن الأضرار "غير المسبوقة" التي لحقت بالزراعة جراء هجمات قوات "الدعم السريع" في الجزيرة ستؤثر في الموسم المقبل، قائلاً "لم يتبق شيء في الجزيرة لبدء الموسم التالي. ليس هناك مزارعون وليست هناك مكنات".

وتعاني مناطق حيوية أخرى منتجة للحبوب تخضع إلى حد كبير لسيطرة قوات "الدعم السريع" منها دارفور وكردفان، انخفاضاً مماثلاً في الإنتاج. وقال مدير مكتب الطوارئ والصمود لدى "فاو" رين بولسن إنه يتعين اتخاذ إجراءات فورية "لمنع زيادة الوفيات المرتبطة بالجوع وانهيار سبل العيش".

وأدى القتال إلى تدمير المطاحن ومصانع المواد الغذائية والمزارع.

وحتى المصنع الوحيد في السودان الذي ينتج أغذية علاجية للأطفال الذين يعانون سوء التغذية أتى عليه القتال أيضاً، وذكرت نائبة مدير شركة "ساميل" وابنة صاحب المصنع ندى يعقوب أن المصنع احترق بعد سقوط قذيفة عليه في مايو الماضي.

وتوقف منذ ذلك الحين إنتاج عجينة الفول السوداني لمعالجة الهزال عند الأطفال، وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن "ساميل" كان ينتج 60 في المئة من هذا الغذاء العلاجي للأطفال في السودان.

ورأت ندى يعقوب أنها "خسارة فادحة" في وقت يحوم شبح المجاعة.

مساعدات لا تصل

بينما يمسك الجوع بتلابيب عدد متزايد من السودانيين، تسعى وكالات الإغاثة الدولية جاهدة إلى توصيل الأغذية والعقاقير للمناطق التي يعاني فيها الناس المرض والجوع.

وقال مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان جاستن برادي إن وصول شاحنة مساعدات إلى دارفور آتية من بورتسودان في الشرق، حيث يتم تخزين معظم المساعدات، قد يستغرق نحو 40 يوماً، مضيفاً أن ذلك يشمل التأخير في "الحصول على تصاريح المرور اللازمة". ويتعين على شاحنات الإغاثة اجتياز مناطق متنوعة تسيطر عليها مجموعات مختلفة تتضمن قوات "الدعم السريع" وعصابات إجرامية ورجال قبائل.

ويفيد عمال إغاثة بأنه منذ ديسمبر، لم تفلح المساعدات الوافدة من الشرق في الوصول إلى جزء كبير من دارفور أو منطقة كردفان أو الخرطوم، ولم تدخل إلا بضع عشرات من الشاحنات عبر تشاد في الغرب.

وجاء في دراسة استقصائية أجرتها أواخر العام الماضي منظمة "هيومانيتريان أوتكمز" التي تقدم النصح لوكالات الإغاثة والحكومات المانحة أن المساعدات الإنسانية لم تصل عموماً إلا إلى 16 في المئة ممن يحتاجون إليها.

ويتحدث مسؤولو إغاثة عن أن الجيش السوداني زاد من صعوبة توصيل الإمدادات الغذائية والطبية إلى المناطق التي تحتاج إليها بشدة. ففي رد على مناشدات قوات "الدعم السريع" للوكالات لتوصيل المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها، قال قائد الجيش السوداني في فبراير "لن يحدث ذلك حتى ننهي هذه الحرب ونهزم هؤلاء المتمردين المجرمين ونطردهم من منازل المواطنين".

وذكر مدير مكتب منظمة "بلان إنترناشونال" للمساعدات الإنسانية في السودان محمد قزلباش أنه "غير مسموح بانتقال المساعدات من القوات المسلحة السودانية إلى قوات الدعم السريع... الغذاء يستخدم سلاحاً في الحرب".

وجاء ضمن تقرير لـ"رويترز" في أواخر فبراير أن الجيش أصدر أمراً يحظر عبور المساعدات من تشاد إلى دارفور، وقالت الحكومة التي يسيطر عليها الجيش في وقت لاحق إن الممر الإنساني إلى شمال دارفور مفتوح، لكن قزلباش صرح إلى "رويترز" في أواخر مارس بأن حجم المساعدات التي تنتقل عبر طريق شمال دارفور "هزيل".

وأفاد عشرات من مسؤولي الإغاثة في حديثهم إلى "رويترز" بأنه منذ بداية الحرب فرضت الحكومة التي يقودها الجيش متاهة من القواعد البيروقراطية التي تعرقل بشدة توزيع الغذاء. وشكلت الحكومة لجاناً جديدة للتعامل مع المساعدات تتداخل صلاحياتها مع اللجنة الوطنية العليا المشتركة للطوارئ الإنسانية والصحية، وهي ذراع المساعدات الرئيسة للحكومة. وقال مسؤولو إغاثة إن هذه الخطوة تسببت في حدوث ارتباك وتأخير لأنه أصبح يتعين الحصول على موافقات الآن من عدد من الإدارات.

وكان على منظمة "وورلد فيجن"، وهي وكالة إغاثة، الانتظار أربعة أشهر للحصول على التوقيعات والأختام المطلوبة من السلطات للسماح لها بفتح مركز لعلاج الكوليرا في ولاية الجزيرة بعد تقارير عن تفشي المرض هناك، وقال مدير الصحة والتغذية في المنظمة جيفري بابوجيرانا "أخشى أن نكون فقدنا أطفالاً وأمهات بسبب الكوليرا أثناء انتظار إنهاء الإجراءات الورقية".

وأخيراً افتتح مركز الكوليرا في ديسمبر، لكنه لم يعمل إلا ستة أيام، ففي اليوم السابع اقتحمت قوات "الدعم السريع" والميليشيات المتحالفة معها ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، واضطرت جميع وكالات الإغاثة إلى الرحيل.

وذكر بابوجيرانا أن "الأمر كان مفجعاً حين غادرنا".

وأشار مسؤولون من منظمات إنسانية إلى أنه تم الضغط على وكالات الإغاثة أيضاً لتشغيل موظفين حكوميين محليين للإشراف على العمل الذي تقوم به الوكالات، مثل مسوح تقدير الحاجات الغذائية. وقال مسؤول إن الوكالة التي يعمل لديها اضطرت إلى تعيين فريق من اللجنة الوطنية العليا المشتركة للطوارئ الإنسانية والصحية ودفع رواتبهم خلال اضطلاعهم بإجراء مسح لتقييم الحاجات في ولاية نهر النيل التي يسيطر عليها الجيش السوداني، وأضاف المسؤول أنه "ندفع أموالاً ما كان يجب أن ندفعها".

وأوضح مسؤولو إغاثة أن الإمدادات الغذائية في مراكز الإغاثة الرئيسة مثل الجزيرة تعرضت للنهب أيضاً من قوات "الدعم السريع" غالباً.

وحين اجتاحت قوات "الدعم السريع" الجزيرة في ديسمبر الماضي، قدم مسؤولو الأمم المتحدة للقادة إحداثيات المستودعات التي كانت تضم آلاف الأطنان من المساعدات أو ما يكفي لإطعام نحو 1.5 مليون شخص لمدة شهر في الولاية. وقال برادي، مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان، إنهم قدموا أسماء المواقع على أمل حماية المساعدات وحصلوا على تأكيدات من قوات "الدعم السريع" بذلك.

لكن كل المساعدات الموجودة في المستودعات سرقت تقريباً. وذكر المدير القطري لبرنامج الأغذية العالمي في السودان أيدي رو أن ما تبقى لا يستطيع البرنامج الوصول إليه بسبب القتال.

ونفى عز الدين الصافي، وهو مستشار لقوات "الدعم السريع" أن تكون القوات نهبت مخازن المساعدات، ووصف ذلك بأنه "مبالغات إعلامية".

وذكر رو أن موسم الأمطار في السودان يقترب أيضاً، مما سيجعل اجتياز الطرق عسيراً والوصول إلى مناطق بأكملها متعذراً في أماكن مثل دارفور وكردفان، مضيفاً أننا "نسابق الزمن".

الموت في دارفور

مخيم اللعيت، حيث يقتات الناس على التراب، مجرد واحد من 13 مخيماً للنازحين في منطقة نائية في شمال دارفور يلجأ فيها السكان إلى أكل التراب وأوراق الأشجار، وفقاً لسكان وفرق طبية وعمال إغاثة تحدثوا إلى "رويترز" عبر الهاتف.

وسكان المخيمات الأصليون لاجئون من جنوب السودان فروا من الصراع والجوع، ثم انضم إليهم الآن آلاف من النازحين السودانيين الفارين من القتال.

يوضح فيصل محمد الذي يعمل في منظمة صحاري للتنمية، وهي منظمة محلية للإغاثة، أنه لم يصدق أن الناس يأكلون التراب حتى شاهد بنفسه ذلك في مخيمات عدة، وقال "لما تكون البطن خاوية الناس تحاول تملأها بأي شيء".

 

وروى كثيرون من السكان لـ"رويترز" أن الأطفال الذين أكلوا التربة أصابهم القيء والإسهال.

وقبل الحرب، كان سكان المخيم يعملون في الحقول ويتقاضون أجورهم في صورة نسبة من المحصول بلغت نحو 20 في المئة. وكانوا يعتمدون بشدة أيضاً على المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي، لكن مع انتشار القتال تعرقل وصول المساعدات الإنسانية. أما المزارعون الذين يعانون ارتفاع كلفة الأسمدة والمبيدات الحشرية ونقص التمويل، فقلصوا المساحات التي يزرعونها مما حرم عمال المزارع من وظائفهم.

وحالياً، تعمل بعض النساء في بلدة مجاورة في غسل الملابس ويكسبن ما يصل إلى دولار واحد في اليوم، مما يكفي لشراء الدقيق (الطحين) والسكر لصنع حلوى تسمى "مديدة".

والمواد الغذائية موجودة في الأسواق القريبة، لكن الأسعار ارتفعت بشدة مع احتدام المعارك، مما جعلها بعيدة من متناول سكان المخيم، وأصبح ثمن طبق الفول ستة أمثال ما كان عليه قبل الحرب.

وفي منتصف أبريل، وبعد مرور عام من دون مساعدات غذائية، وصلت ثماني شاحنات مساعدات تابعة لبرنامج الأغذية العالمي إلى المنطقة محملة بالحبوب والزيت والدقيق.

لكن هذا لا يكفي، وأكد سكان أن سوء التغذية والأمراض تفتك بهم.

وقالت أشيك كول نجور، وهي من جنوب السودان (30 سنة) من مخيم أبو جعرة إن توأميها ماتا بعد 12 يوماً فقط من ولادتهما في مايو من العام الماضي، وحين سئلت عن سبب موتهما، أجابت "من المرض والجوع".

وأضافت أنها كانت تعاني سوء التغذية وغير قادرة على إرضاعهما، وتعذر عليها الحصول على حليب اصطناعي لإطعامهما. وأكد مساعد طبي كان حاضراً حين توفي التوأمان في مستشفى ببلدة مجاورة رواية نجور.

وروى لوال دينق ماجوك، وهو أحد سكان أبو جعرة، أن عائلته بدأت تأكل أوراق الأشجار بعد نفاد المال في أواخر العام الماضي. وحين بدأ ابنه ديفيد (17 سنة) بالتقيؤ وأصيب بالحمى، حمله ماجوك في عربة لمدة أربع ساعات لينقله إلى مستشفى حيث أكد الأطباء هناك أن الفتى يعاني الملاريا. والأشخاص الذين يعانون سوء التغذية عرضة لتدهور أوضاعهم الصحية. وقال ماجوك إنه بعد يومين توفي ابنه، ووضع جثة الفتى في العربة وأعاده إلى المخيم لدفنه.

ولم تتمكن "رويترز" من التأكد من مصادر مستقلة من سبب وفاة أبناء نجور وماجوك.

وفي مخيم زمزم بولاية شمال دارفور حيث رصدت منظمة "أطباء بلا حدود" ارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال، تواصل الأوضاع تدهورها، ويؤوي المخيم الآن نصف مليون شخص في الأقل.

وتوصل بحث أجرته منظمة "أطباء بلا حدود" هذا الشهر إلى أن نحو ثلث الأطفال دون سن الخامسة في المخيم يعانون سوء التغذية الحاد، وفقاً لمستشار المنظمة لشؤون اللاجئين جيروم توبيانا. وقال لـ"رويترز" إن ثمانية في المئة من هؤلاء الأطفال "معرضون لخطر الموت خلال ثلاثة إلى ستة أسابيع إذا لم يتلقوا علاجاً على الفور".

وأفاد الطبيب في المركز الطبي بمخيم زمزم زكريا علي بأنه "لا يمر يوم من دون أن تصل إلى المركز ثلاث أو أربع حالات سوء تغذية حادة ومنها حالة تنتهي بالوفاة".

وحين كان علي يتحدث إلى مراسلة "رويترز" عبر الهاتف، وصلت طفلة تدعى مواهب عمرها تسعة أشهر إلى المركز، وأجرى لها علي اختباراً سريعاً لسوء التغذية بقياس محيط ذراعها.

كانت ذراع مواهب نحيلة جداً، مما يعني وفقاً لشريط قياس سوء التغذية أنها تعاني سوء التغذية الحاد ويتهددها الموت.

المزيد من تقارير