Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حكايات الحمراء" لإيرفنغ يتجول في تاريخ الحكم العربي للأندلس

الكتاب الذي نشر في أميركا شغفاً غير محدود بالأندلس الإسبانية وقصر الحمراء الغرناطي

قصر الحمراء في الفن منطلقاً من كتاب إيرفنغ (الموسوعة البريطانية)

ملخص

التيمة الأساس من مجموع الحكايات التي دونها الكاتب الأميركي واشنطون إيرفنغ عن الأندلس تظل تلك التي يهيمن عليها شبح أبي عبدالله آخر ملوك غرناطة الذي سيقول لنا إيرفنغ كيف أنه لم يمت في الحقيقة بل أسر هو وجيشه كله في موقع ناء

لعله واحد من أهم وأشهر الكتب الأميركية التي خرجت من العالم الجديد لتلقي نظرات غير متوقعة على ما كان قد أضحى أسطورياً مما تبقى في ذاكرة العالم القديم. وتحديداً هنا على إسبانيا الأندلسية التي زارها الكاتب واشنطون إيرفنغ في ربيع عام 1829 بوصفه دبلوماسياً لا بوصفه كاتباً أو رحالة. ومهما يكن من أمر فإن الكتاب نفسه وعنوانه "حكايات الحمراء" حتى وإن كان كثر من الأميركيين قد تعاملوا معه باعتاره كتاباً قصصياً، فإنه لم يكن تماماً كذلك بل كان متأرجحاً بين القص على طريقة ألف ليلة وليلة، والسرد التاريخي المتعلق بحكاية قصر الحمراء نفسه ومن خلاله بتاريخ عبدول (أبي عبدالله) آخر ملوك العرب في الأندلس وتحديداً من موقع يعيد الاعتبار لذلك الملك، لينطلق منه إلى محمد بن الأحمر الذي يعرف عنه أنه باني ذلك القصر المنيف الذي يتوسط القلعة التي تطل على مدينة غرناطة نفسها وما يجاورها من مناطق وسهول أندلسية لا تزال حتى اليوم على روعتها القديمة كما حال القصر نفسه الذي يتعامل معه إيرفنغ بوصفه واحداً من آيات العمران الأندلسي على مدى التاريخ.

ضيف في الحمراء

ولعل ما أسهم في كتابة إيرفنغ تلك النصوص عن القصر والتاريخ العربي فيه، هو أنه حين أقام في تلك المنطقة من العالم أستضيف تحديداً في جناح من القصر نفسه، كان يستعاد بناؤه خلال تلك السنوات تحديداً بعد أن دمرته حروب متعاقبة، راحت تصله فيه تلك الحكايات المدهشة التي يرويها لقرائه في الكتاب ودائماً انطلاقاً من حكاية سمعها أو ابتكرها أو جعلها مزيجاً بين ما سمعه حقاً وما استنبطه من ثنايا تاريخ صنعه بنفسه. فالكاتب الدبلوماسي الأميركي عشق المكان إلى درجة أنه جعل له روحاً وملحقات حكائية جوهرها العشق وصعوبات تحقيقه بين سكان البلاد الأصليين والعرب الفاتحين حتى ولو كان الطرفان من الملوك والأمراء. ففي النهاية يبدو في الكتاب وكأن لكل جناح حكاية ولكل حكاية صعوبات ولكل صعوبة أبراج وسجون ومحاولات هرب ومآس وما إلى ذلك وصولاً غالباً إلى نهايات سعيدة أو على الأقل تصالحية. ولسوف يتواصل ذلك التفاعل لدى الكاتب بين القصر والحب والتاريخ حتى حين انتقل إيرفنغ إلى جناح آخر كان معروفاً بكونه بلاط فيليب الخامس الأقل إيحاء بذلك الماضي... فعبر ذلك التجوال تواصلت الحكايات وبهجة قراءة الكتاب.

نفس العربي الأخير

غير أن التيمة الأساس من مجموع الحكايات تظل تلك التي يهيمن عليها شبح أبي عبدالله آخر ملوك غرناطة الذي سيقول لنا إيرفنغ في سرده لحكايته كيف أنه لم يمت في الحقيقة بل أسر هو وجيشه كله في موقع ناء من بلاد الأندلس فعاش حزيناً مهموماً لكنه مؤمن بأن أسره سيفك يوماً ليعود ويستعيد مجد الإندلس. ومن هنا ذلك الوداع الأخير الذي يصوره الكاتب الأميركي في الفصل الأخير من الكتاب وقد عنونه "المؤلف يودع غرناطة" مصوراً أبا عبدالله من خلال وصوله هو نفسه يوم غادر غرناطة وقد وصل مع جيوشه المهزومة. ففي تلك النقطة التي تختتم طريقاً متعرجة وهي نفس تلك التي وقف فيه الملك الغرناطي للمرة الأخيرة وانهمرت دموعه إلى درجة أن دموع الملك باتت اسماً لتلك الزاوية من العالم "نفس العربي الأخير"، وهو طبعاً الاسم الذي استعاره سلمان رشدي لاحقاً لواحدة من أجمل رواياته، فيكتب إيرفنغ، "الآن في هذه اللحظة بالذات بات يمكنني أن أستشعر من المكان الذي أتأمل فيه غرناطة ذلك الألم الذي غمر المسكين بوعبدول حين قال وداعاً لتلك الجنة التي تركها إلى الأبد ليتأمل قدامه تلك الدرب العقيم المغطاة بالحصى والرمال ينهكها الجفاف". لقد كانت تلك هي نهاية الزيارة التي قادت الكاتب إلى غرناطة، كما عجلت بنهاية المجد الأندلسي. ولم يكن غريباً لكاتب أميركي عشق الحمراء والأندلس إلى ذلك الحد أن يتبنى مشاعر ذلك الملك الذي دبج معظم صفحات كتابه مدافعاً عنه مبرراً حتى أخطاءه.

تبريرية تاريخية مولهة

لكن واشنطون إيرفنغ (1783 – 1859) حتى وهو مشغول بتلك التبريرية التاريخية التي لم يسبقه إليها كاتب غربي، لم ينسَ أنه روائي من طراز رفيع وأن له قراء ينتظرون قراءة ما سيكتبه وقد وعدوا به. ومن هنا زين الكتاب، كما أشرنا أعلاه بتلك الحكايات التي ستبدو في نهاية الأمر وكأنها جزء مكمل من "الليالي العربية"، الحكايات التي على اختصارها بثت ذلك التوق إلى الشرق البعيد، جغرافياً وتاريخياً، في أفئدة أميركية كثيرة جاعلة معظم السائحين الأميركيين في أوروبا لا تكتمل زيارتهم إلا بالمرور على إسبانيا وتحديداً على غرناطة وقصر الحمراء وفي حوزتهم كتاب إيرفنغ دليل سفر لهم. ويقيناً أن معظم الحكايات جعلتهم غارقين في أحلام الحب ومنها مثلاً حكاية إبراهيم بن أبوعجيب الذي عاش في زمن ملك يدعى ابن الحافظ وهو حقق للملك نصراً كبيراً بفضل سحره على جيوش الأعداء لكن الملك رفض منحه يد فتاة حسناء امرأة له. فنقم إبراهيم على الملك الجاحد، وما كان منه إلا أن اعتلى قمة تل يقع غير بعيد من الحمراء مع فتاته ليرميا نفسيهما معاً ويداهما متشابكتان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كنوز وعود سحري

أما حكاية "برج الأميرات" فتروي قصة بنات الحاكم محمد الهيجري اللاتي سجنهن الملك في قلعة في القصر رافضاً تزويجهن كي يستأثر بهن لنفسه لفرط حبه لهن. لا سيما بعد أن اكتشف أن الابنتين الأكبر وقعتا في هوى أسيرين نصرانيين كانا سجينين في القلعة نفسها وتمكنتا من الهرب برفقة الحبيبين فيما رفضت الثالثة أن تغامر بالهرب مع أسير ثالث كانت بدورها تحبه، وجبنت في اللحظات الأخيرة، لكنها كانت محظوظة إذ نالت في النهاية عفو الوالد وتزوجت بحبيبها. وفي المقابل تروي لنا حكاية الأمير محمد الكامل الذي أغرم من ناحيته بأميرة نصرانية فيما كان كما حالها، سجيناً في برج من أبراج القصر بسبب غيرة أبيه منه وعليه، لكن الأمر انتهى به إلى أن يفلت من سجنه بفضل تكليف أبيه عالماً فلكياً بتدريسه ذلك العلم، مما مكنه من أن يحقق مراده ويتزوج من حبيبته ويحررها.

وعلى هذا المنوال تسير بقية الحكايات من حكاية الكنز الذي يعثر عليه أمير في عمق برج يعلو ما لا يقل عن سبع طبقات (حكاية "ميراث العربي")، أو حكاية العود المسحور الذي ترثه أميرة عربية شابة فتتمكن بالعزف عليه من أن تجعل من عزفها في بلاط الملك فيليب الخامس ترياقاً يشفي ذلك الملك من كآباته المتواصلة التي لم يتمكن أبرع نطاسيي الملك النصراني من شفائه منها. وهكذا تتوالى القصص متأرجحة بين الغرام والأسر والهرب والهجران، ولكن تسري بينها بشكل متواصل لا تقطعه إلا تلك الحكايات البديعة المكتوبة بقلم رشيق وأسلوب حكائي لا يمكن فصله عن شرقيته وغرائبيته، حكايتان كبيرتان تتعلقان بتاريخ بوعبدول الملك العربي الأخير الذي افتتن به واشنطون إيرفنغ إلى درجة اخترع له معها أسطورة خلوده وقد بقي على قيد الحياة فيما اعتبره الجميع ميتاً. وعلى الأقل إذ آلى على نفسه ألا يموت إلا بعد أن يستعيد الأندلس للعرب ويعيد مجد تلك الحضارة التي لا شك أن واشنطون إيرفنغ قد أبدع في تصويرها في ثنايا ذلك الكتاب الذي لا مفر من الإشارة، أخيراً، إلى أن لمعظم الحكايات التي يرويها الكاتب فيه جذوراً تعود إلى ما عثر عليه هو بنفسه في مكتبة الآباء اليسوعيين مجموعة في جناح خاص مكنته مهمته الدبلوماسية من أن يجعل الآباء الحريصين كل الحرص على تلك الثروة الحكائية يفتحون له الخزائن المغلقة ليستكمل بها كتاباً شاءه تحية لتاريخ الأندس وفعل تمجيد لقصر الحمراء كله، القصر الذي سوف يقول عنه لاحقاً، إنه يبدو وكأنه قد خلق لمجد الحب وانتصار الجمال... وعزيمة العشاق حين يريدون أن ينتصروا على الصعوبات ولو بوسائل تنتمي إلى عالم العجائب والخرافات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة