Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جامعات أميركا حواضن علمية أم أدوات تفوق إمبراطورية؟

كيف باتت بيئات جاذبة للعقول المبدعة في العالم؟ وماذا عن روابطها بمؤسسات القوة لا سيما الدفاع والفضاء؟

تبقى جامعات أميركا في كل الأحوال أكبر كثيراً جداً من مجرد كونها مؤسسات تعليمية (رويترز)

ملخص

تبنى جون هنري نيومان الإنجليزي المولد فكراً جديداً حول مفهوم الجامعة الذي يهتم بنقل المعرفة وحفظها بدلاً من إنتاجها، والتخلي عن إنشاء معرفة جديدة وتطبيقها علمياً، ومع ذلك لم تؤثر أفكاره في التطور العلمي للجامعات في الولايات المتحدة، إذ استفاد المعلمون هناك من النماذج الأوروبية البحثية بنوع خاص.

من بين أهم الأدوات التي جعلت من الولايات المتحدة الأميركية دولة عظمى، تطفو على سطح الجامعات الأميركية بحضورها الساطع والبراق، في الداخل الأميركي أول الأمر، وتالياً في بقية أرجاء العالم .على أن التساؤل كيف أضحت هذه المؤسسات التعليمية الأميركية، التي تلي في التراتبية التاريخية الجامعات الأوروبية، لا سيما من حيث النشأة، الرقم الصعب، بل الأول في المسارات والمساقات العلمية حول العالم، إلى درجة أن الذين يشنون على أميركا حملات أيديولوجية قاسية يسارعون إلى  إرسال أبنائهم إلى هناك لتلقي تعليم مميز، وفي مقدم هؤلاء الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي تدرس ابنته في جامعات الولايات المتحدة الأميركية.

 

لعل أفضل من أماط اللثام عن سر تفوق هذه الجامعات عبر التاريخ، البروفيسور وعالم الاجتماع الأميركي جوناثان كول، في مؤلفه العمدة The Great American University الصادر في نيويورك عام 2009.

في هذا الكتاب الذي قدمه إلى اللغة العربية الدكتور ناصر بن صالح الحجلان، وصدر قبل بضعة أعوام عن الدار المصرية - اللبنانية في القاهرة، نجد ما يقودنا لفهم ميكانيزمات هذه الجامعات، وكيف أنها تحولت إلى محركات تغيير مركبة وقوية، ثم يوضح أهمية الاكتشافات التي قامت  عليها تلك الجامعات، وكان لها الفضل الكبير في الثورات العلمية والصناعية في الداخل الأميركي، مما مهد الطريق لقطبية عالمية لا تصد ولا ترد حتى الساعة.

والشاهد أنه حين يمكن للمرء أن يتناول شأن هذه الجامعات التي يتهافت الناس من رياح الأرض الأربع على إلحاق أبنائهم بها، إن قدر لهم إلى ذلك سبيل، فلا بد له، أول الأمر، من لمحة تاريخية عن تاريخ العملية التعليمية في هذا البلد الواسع والشاسع الذي يحمل لمسات ونفحات من الإمبراطورية الرومانية في أوج مجدها.

 

في نشأة الجامعات الأميركية بداية

في العمق هناك إثارة فكرية تتعلق بقصة تأسيس الجامعات في الولايات المتحدة، فقد أسست الطوائف الدينية أوائل الكليات لتدريب رجال الدين بين عامي 1636 و1776، وقتها تم تأسيس تسع كليات في أميركا التي كانت عبارة عن مستعمرات إنجليزية ليس أكثر. وتعرف هذه المؤسسات باسم كليات عهد الاستعمار، ووفقاً للمؤرخ الأميركي ثيلين، فإن معظم المعلمين في هذه المؤسسات كانوا مدرسين ذوي أجر قليل. وافتتح البروتستانت والكاثوليك مئات الكليات المذهبية في القرن الـ19.

وبالوصول إلى عام 1899 كان 46 في المئة من طلاب المرحلة الجامعية الأولى في الولايات المتحدة مسجلين فيها.

وعلى رغم أن عشرات منها أغلقت أو أدمجت في غيرها من الجامعات، إلا أنه في أوائل القرن الـ20، وتحديداً في عام 1905، كان نحو 500 مؤسسة منها حاضرة تعمل وتنشر نور العلم.

ولعله من المثير كذلك أن التعليم الجامعي لم يتوقف عند الذكور فقط، فقد فتتح الكاثوليك كليات عدة للنساء في أوائل القرن الماضي. ولم تكن الدراسة، في ذلك الوقت، تطورت على النحو الذي تعرفه الجامعات الأميركية اليوم، إذ كانت المحاضرات لا تتجاوز العلوم الأدبية القديمة من اليونانية واللاتينية، التاريخ القديم والمنطق والفلسفة، العلوم اللاهوتية إذ إن الكتب المقدسة في القلب منها، وقليل جداً من الهندسة، فيما معظم المنتمين إلى تلك الجامعات كانوا من أولاد رجال الدين الذين ينوون المضي في طريق ذويهم نفسها.

لكن وعلى رغم من ذلك، ساعدت تلك الجامعات على بساطتها اليافعين للانتقال من المجتمع الريفي البدائي إلى المجتمع الحضري المعقد نسبياً.

وفي كل الأحوال يمكننا القطع بأن تلك المؤسسات التعليمية كانت دافعاً للارتقاء في مدارك حراك اجتماعي أعلى، ورويداً رويداً، ستبرز من بينها جامعات النخبة الشرقية لا سيما "هارفارد" و"برينستون" و"كولومبيا". ومع بداية القرن الـ20، وجدت نحو 1000 كلية، احتوت قرابة 160 ألف طالب في عموم البلاد، ليتصاعد عدد الكليات بشكل كبير على دفعات خلال بدايات القرن ومنتصفه. ونمت لاحقاً الجامعات التابعة للدولة من مؤسسات صغيرة بأقل من 1000 طالب إلى جامعات تتسع لأعداد تبلغ 40 ألف طالب أو أكثر، بشبكات من الجامعات المناطقية حول كل ولاية بدورها، ثم كان أن استقلت الأحرام الجامعية المناطقية لتصبح جامعات منفصلة.

مؤسسات تعليمية للمعرفة والإبداع

من القديم إلى الحديث يمكن لنا التساؤل: "ما الذي تمتلكه المؤسسات التعليمية الجامعية الأميركية، ويجعل منها قاطرات للتقدم حول العالم وعلى الأصعدة كافة علمياً وطبياً واقتصادياً وفلكياً وبحثاً علمياً ونظريات مجتمعية إلى آخر التوصيفات والتصنيفات"؟

قبل الجواب دعونا نتوقف مع بعض الحقائق الخاصة بهذا السياق التعليمي الأميركي، ذلك أن أميركا تملك اليوم تنوعاً كبيراً في الكليات والجامعات ذات النوعية المختلفة إلى حد كبير. ففي عام 2007 قدمت نحو 4300 مؤسسة في التعليم العالي درجات مختلفة، معظمها يمنح درجات البكالوريوس فقط، وقرابة 600 منها تمنح درجة الماجستير، ونحو 260 يمكن تصنيفها على أنها جامعات بحثية. من هنا، يمكن القطع بأن ما يميز الجامعات الأميركية بنوع خاص، هو أنها تقدم أمرين يعدان رافدين للتقدم في أي موقع أو موضع علمي: البحث والمعرفة من غير أن ينفصل أحدهما عن الآخر.

هنا تظهر مفارقة تمايز بين التعليم الأساسي وبين التعليم العالي في الولايات المتحدة، فأميركا لا تعد بين دول العالم المتقدمة، مميزة بشكل كبير ووافر في مجال التعليم الأساسي، مع أنها تملك نظاماً تعليمياً ممتازاً ومدارس تتوفر فيها العناصر الضرورية كافة لبناء الإنسان وتنشئته علمياً وثقافياً ومهنياً، وعلى رغم ذلك فإن طلابها يحصلون على مستويات متوسطة ضمن مستويات القياس العالمية. على أن ما يجعل من مؤسسات أميركا الجامعية قصة أخرى، هو نظام التعليم العالي، إذ أوجدت لها أنظمة وممارسات وتجارب مثار إعجاب وتقليد من دول العالم كافة.

وتبنى جون هنري نيومان الإنجليزي المولد فكراً جديداً حول مفهوم الجامعة الذي يهتم بنقل المعرفة وحفظها بدلاً من إنتاجها، والتخلي عن إنشاء معرفة جديدة وتطبيقها علمياً، ومع ذلك لم تؤثر أفكاره في التطور العلمي للجامعات في الولايات المتحدة، إذ استفاد المعلمون هناك من النماذج الأوروبية البحثية بنوع خاص.

وأجبر النموذج الأميركي الجديد بقيادة جامعة "هوبكنز" كليات النخبة القديمة وقادتها مثل تشارلز ويليام إليوت في "هارفارد" على إعادة التفكير في مفهوم الجامعة وبنيتها، فأصبحت الجامعة في "هوبكنز" مثلاً تهتم بإبداع المعرفة الجديدة من خلال البحث، وبرز هذا النموذج بحلول عام 1990 في معظم الجامعات الأميركية الرائدة.

فهل كان هذا المفهوم وراء مولد نوع جديد من أنواع الجامعات الأميركية التي ستقود أميركا، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، عبر مدارات قيادة العالم، وربما الهيمنة أو السيطرة على العالم؟ وماذا عن هذا المفهوم؟

الجامعات البحثية طريق السطوة الأميركية

يقدم لنا البروفيسور ريتشارد سي. أتكينسون الذي شغل منصب الرئيس الـ17 لنظام جامعة "كاليفورنيا"، في الفترة من 1995 إلى 2003، رؤية عن هذا النسق الجديد لما يعرف بالجامعات البحثية الأميركية التي اعترف بها، على نطاق واسع، باعتبارها جوهر نظام العلوم والتكنولوجيا في الأمة الأميركية.

حتى الحرب العالمية الثانية كانت الجامعات البحثية على هامش هذا النظام، لكن المساهمات العلمية التي تم تقديمها أثناء الحرب جعل هذا النظام يتصاعد بسرعة صاروخية لاحقاً.

اليوم تعد جامعات الأبحاث الأميركية مراكز حيوية لأداء الأبحاث التي تعمل على تطوير المعرفة في جميع التخصصات العلمية والهندسية، وتسهم في الاقتصاد الوطني وفي الاقتصادات المحلية والإقليمية. وهذه الجامعات البحثية هي التي تجعل من النظام الجامعي في الولايات المتحدة الأفضل في العالم، من خلال مؤشرات عدة في مقدمها عدد جوائز "نوبل" الممنوحة لأعضاء هيئة التدريس. ولقد بات واقعياً أن كليات الدراسات العليا في الولايات المتحدة هي الوجهات المفضلة للعلماء والمهندسين الطموحين من الخارج. وهنا يطفو تساؤل "لماذا أخفقت دول كثيرة حول العالم في محاكاة النموذج الأميركي على صعيد الجامعات البحثية"؟

الشاهد أن كثيراً من تلك الدول سعت بالفعل في طريق تقليد هذه الجامعات لكنها لم تنج إلا بنتائج محدودة جداً في أفضل الأحوال، ومرد ذلك هو أن أغلب أنظمة الجامعات الأجنبية، على النقيض من الظروف السائدة في الولايات المتحدة، مركزية للغاية وتخضع لرقابة وزارة التعليم.

ولعله من بين أهم النقاط التي يتوجب الإشارة إليها في سياق تميز الجامعات البحثية الأميركية، هو أنها عادة ما تلقى تمويلاً مزدوجاً، ليس فقط من جانب الحكومة الفيدرالية الأميركية، ولكن من جانب قطاعات مجتمعية أميركية أخرى، تؤمن بأهميتها، ولهذا تفتح لها أبواب التبرعات واسعة.

على سبيل المثال لا الحصر، في عام 2004، قدمت الصناعات الأميركية ما يقرب من 62 في المئة من إجمالي الإنفاق الوطني على البحث والتطوير، في حين قدمت الحكومة الفيدرالية نحو 28 في المئة، ما يعني أن اهتمام دوائر الصناعات الأميركية بعالم الجامعات البحثية يكاد يزيد ولا يقل عن اهتمام الحكومة الاتحادية.

هل هذا اهتمام عاطفي من رجالات الصناعات لجهة الجامعات البحثية؟

من الصعب جداً أن يكون للعاطفة مكان، إن استثنينا الروح الوطنية في وقت الأزمات، في دولة قائمة على النهج البراغماتي، وعليه تبقى المصلحة الخاصة دائماً وأبداً في سلم أولويات المتبرعين، من زمن أندرو كارنيغي رجل صناعة الصلب الأشهر، وصولاً إلى بيل غيتس رجل الغموض العلمي والتكنولوجي ومشاريعه المثيرة، من عند "غبار الطباشير"، لمواجهة التغيرات الأيكولوجية، وصولاً إلى مزارع الناموس، لمقاومة الأمراض أو لنشرها، وهذه قصة أخرى. هل من مثال يوضح لنا أهمية الجامعات البحثية في ريادة وسيادة أميركا الأخرى؟

عن "ستانفورد" وعلاقتها بـ"وادي السيليكون"

تبدو جامعة "ستانفورد" خير مثال على العلاقة المزدوجة بين المؤسسات العلمية البحثية الجامعية الأميركية، والمكانة الأميركية الصناعية المتقدمة، تلك التي تقود العالم تكنولوجياً. وتحتل الجامعة موقعاً مميزاً، وتأتي في جداول وتصنيفات مختلفة، الثانية من حيث الأهمية في الداخل الأميركي بعد جامعة "هارفارد". وتعمل الجامعة، منذ إنشائها، تحت شعار "رياح الحرية تهب"، وهو الشعار الذي يقول مسؤولوها إنه المظلة التي يعملون تحتها وينطلقون منها في بحوثهم وفي كل مجال يمكن أن يثري العلوم الإنسانية والطبيعية، ويمثل الشعار دعوة خالصة إلى البحث المتواصل في ميادين المعرفة والعلم، ويفخر أساتذة الجامعة بأن الحرية هي أكبر وأعظم المكاسب التي تمتلكها الكلية على امتداد تاريخها الأكاديمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا تبدو الشعارات الأيديولوجية مهمة وبراقة، لكن الحقيقة أن "ستانفورد" تكتسب وقتها وفاعليتها في الداخل الأميركي، ونفوذها ما وراء البحار من أمور أخرى متعلقة بداية بطاقهما البحثي الحالي الذي يضم أكثر من 16 حائزاً على جائزة "نوبل" وأربعة فائزين بجائزة "بوليتزر" الشهيرة للصحافة.

وتعرف "ستانفورد"، بشكل خاص، بين جميع المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة بانفتاحها الشديد على العمليات البحثية في شتى المجالات، ليس فقط داخل كلياتها وأقسامها المختلفة، وإنما داخل معاملها ومراكز البحوث فيها. وخرجت من الجامعة، على امتداد السنوات، مجموعة من لأفكار والبحوث التي يمكن القول إنها غيرت من العالم بشكل جذري.

ومن أشهر تلك الأفكار كانت تلك التي جاءت على يد العالم الشهير آرثر كورنبرغ الحاصل على جائزة "نوبل" الذي كان أول من صنع مادة شبيهة بالحمض النووي داخل أنبوبة اختبار، وحصل العالم الكبير على جائزة "نوبل" في 1959 تقديراً لعمله الذي مهد الطريق أمام تفهم العلاقة بين الحمض النووي والإصابة بالأمراض المختلفة.

وكانت جامعة "ستانفورد"، كذلك صاحبة مشروع أول مركز أبحاث لتقنية المعلومات في الولايات المتحدة، وهو المركز الذي أنشئ، في 1951، تلبية لتعزيز صناعة الإلكترونيات وربط دراستها بكلية الهندسة في الجامعة.

ما العلاقة التي تربط هذه الجامعة العريقة بمنطقة تعد أهم موقع وموعد للصناعات الإلكترونية الأميركية، أي منطقة "وادي السيليكون؟".

المعروف أن "وادي السيليكون" يعد العاصمة التقنية في العالم، إذ يضم المقار الرئيسة لآلاف الشركات العملاقة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، لكن ما لا يعرفه كثيرون أن فكرة هذا "الوادي ولدت" في جامعة "ستانفورد" الأميركية.

في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الـ20، شجع أستاذ الهندسة فريدريك تيرمان خريجي الهندسة في جامعة "ستانفورد" على اختراع المنتجات وبدء شركاتهم الخاصة. ولاحقاً أصبح تيرمان عميد جامعة "ستانفورد"، وأسس منطقة "ستانفورد" الصناعية، وهي مجمع تجاري عالي التقنية على أرض الجامعة. وعلى مدار العقود الماضية استطاعت "ستانفورد" بناء سمعة قوية في كل المجالات لا سيما التكنولوجيا والأبحاث، وبناء على ذلك، أطلقت عليها مجلة "سلايت" الأميركية الشهيرة لقب "هارفارد القرن الـ21".

وتبدو "ستانفورد" اليوم رقماً مركباً وصعباً في التقدم العلمي الأميركي على صعيد الاكتشافات والمبتكرات، وأسس خريجوها عديداً من الشركات التي تنتج مجتمعة أكثر من 7.2 تريليون دولار من الإيرادات السنوية، ووفرت 5.4 مليون فرصة عمل، أي ما يعادل تقريباً سابع أكبر اقتصاد في العالم.

 

"هارفارد - سميثونيان" ريادة الفضاء أميركياً

هل يمكننا أن نتناول شأن الجامعات الأميركية من دون المرور ولو سريعاً على الثورة العلمية الأميركية في مجال ارتياد الفضاء، وما قدمته الجامعات البحثية الأميركية وشراكاتها مع مراكز الفضاء لتحقيق هذه الثورة، وإدراك تلك الفورة المستقرة والمستمرة، حيث العودة قريباً أميركياً إلى الفضاء مرة جديدة، وفي وقت لاحق الوصول إلى المريخ، هذا في نطاق المعروف، وتبقى أسرار هذه البرامج من أسرار الدولة الأميركية العليا؟

ويحتاج الحديث عن تلك المراكز العلمية البحثية إلى قراءات مفصلة قائمة بذاتها، لكن على سبيل المثال يمكننا الإشارة إلى بعض منها، التي تبدو خافية عن الأعين على رغم دورها الحيوي والمهم.

خذ إليك على سبيل المثال مركز "هارفارد - سميثونيان" وهو أحد أكبر مراكز أبحاث الفيزياء الفلكية في العالم، إذ يقوم علماء فيزيائيون بالبحث العلمي الموسع، ذلك الذي يتضمن علم الفلك وفيزياء النجوم وأبحاث الأرض وعلم الفضاء وتعليم العلوم، وتنطوي أهمية المركز في البحث في تقديم المعرفة وفهم الكون من خلال البحث العلمي. وتم تأسيس هذا المركز في عام 1973، كمشروع مشترك بين مؤسسة "سميثونيان" وجامعة "هارفارد"، وهو يشمل مرصد كلية "هارفارد" ومرصد "سميثونيان" لفيزياء النجوم.

لماذا هذا الاهتمام الأميركي العالي الجودة بأبحاث الفضاء؟

الجواب البسيط غير المركب لأنه ساحة الصراع الحقيقية في القرن الـ21، وفيه باتت تتصادم الأيديولوجيات المعاصرة المتنافسة، والقدرات العلمية المتسارعة للأقطاب القائمة والقادمة على حد سواء.

في النصف الأول من القرن الـ20، كان تركيز الأبحاث في الجامعات الأميركية على المخترعات السائرة والدائرة في فلك البر والبحر والجو، وليس سراً القول إن عديداً من الدراسات التي جرت وراء المدرجات والأبحاث التي عرفتها المختبرات البحثية الأميركية، هي التي مكنت الولايات المتحدة من تحقيق نصر كبير مع الحلفاء في مواجهة النازية، غير أنه، ومنذ منتصف القرن الـ20، تحول الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى الفضاء الخارجي.

وهدأت حدة الصراع قليلاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ووصول الحرب الباردة إلى نهايتها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، غير أنه ومنذ بداية الألفية الثالثة انتقل الصراع من جديد إلى ما وراء الحرب الباردة، وباتت المخاوف تصل إلى حد الصراع في الفضاء.

يوماً تلو الآخر، تطفو على السطح تسريبات عن برامج أميركية فضائية  لعسكرة الفضاء، ومكاكيك تنطلق حاملة مختبرات لا يدرك أحد حمولتها،  وعليه يبقى من الواضح للغاية أن مختبرات "ناسا"، ومراكز مثل مركز "كينيدي" للفضاء، وغيرها مما لا نعرف، ليست إلا المحطة النهائية  لخريجي الجامعات الأميركية في أقسام هندسة الطيران والفيزياء والفلك والطيران، ومن دون هذا الزخم العلمي غير المحدود، لم يكن لواشنطن أن تتسيد الفضاء، ومن هنا يتفهم المرء لماذا التسابق على الالتحاق بكبريات الجامعات الأميركية، وبخاصة الأقسام الحرجة فيها إن جاز التعبير، التي باتت تخضع لرقابة أمنية غير عادية، لا سيما في ضوء الاختراقات العلمية  المتواصلة من أجيال آسيوية عامة وصينية بنوع خاص .

حصاة ملساء... النظام القومي للابتكار

لا يتوقف دور الجامعات الأميركية عند حدود المؤسسات الكبرى كوزارة الدفاع "البنتاغون"، حيث التعاون يجري على قدم وساق من غير أدنى شك بين الجامعات الأميركية من جهة، ومؤسسات المجمع الصناعي العسكري الأميركي من ناحية ثانية، بل يتجاوز المشهد إلى إثراء حياة الأميركيين العاديين بكثير من الاختراعات والاكتشافات التي تسهل من حياتهم اليومية، تنميها وترقيها.

هنا بات جلياً أن إجراء البحوث في الجامعات الأميركية بات جزءاً من نظام وطني أساسه الابتكار، وهذا النظام اجتماعي جوهري لإنتاج المعرفة   الجديدة وتطبيقها، فهو شبكة معقدة من التعاون والعلاقات الرسمية التي تضم الجامعات والوكالات الحكومية والمختبرات والقطاع الخاص، بما في ذلك قطاع البحوث غير الربحية، إذ يؤدي كل من هذه الأطراف دوراً حاسماً في تحسين مخزون المعرفة.

هل من تفصيلات أوضح وأشمل لشكل العلاقة السابقة؟

الثابت أنه توجد علاقة متبادلة بين الصناعة وجامعات الأبحاث من أوجه عدة، ليس فقط من خلال اتفاقات الترخيص، ولكن أيضاً من خلال إنتاج الأفراد المدربين والموهوبين الذين يعملون في المختبرات الصناعية، ومن خلال تأسيس هيئة التدريس بالجامعة، ولا يمكن أن تعمل المعامل الصناعية الكبرى من دون إمداد الجامعات لها بأفراد موهوبين من ذوي الكفاءات والمهارات.

ومع أن الجامعات تمد بالأشخاص الموهوبين والمدربين للإسهام في الصناعة، إلا أنه لا يمكن أن ينسب الفضل في إيجاد المنتجات المتعددة المعتمدة على العلوم والهندسة وتطويرها إلى الجامعات وحدها، فالصناعة تبدأ من حيث توقفت الجامعة، وهي تؤدي بذلك دوراً مساوياً في عملية الابتكار، بوجود شراكة مثمرة بين الجامعة والصناعة، ومن ثم تكون للمعرفة التي قدمتها الجامعات وطورتها الصناعة فوائد مجتمعية مع وجود تأثير هائل في المجتمعات المحلية والقومية والدولية.

لقد أدت الشراكة البحثية بين الجامعات والشركات إلى ازدياد فرص العمل التي تنشأ نتيجة الاكتشافات، والحقيقة أن الجامعات عززت بقوة نمو الشركات الموجهة تقنياً، وأن قطاعات التكنولوجيا المتطورة في الاقتصاد الأميركي هي التي حددت نجاح منطقة العاصمة أو فشلها.

ويوضح نشاط التكنولوجيا المتطورة أن 65 في المئة من الاختلاف في النمو الاقتصادي بين مناطق العاصمة في الولايات المتحدة في التسعينيات من القرن الـ20 ومراكز الأبحاث والمعاهد، كان العامل الأكثر أهمية بشكل قاطع في تبني صناعات التكنولوجيا المتطورة.

وفي الخلاصة يضحي من الخطأ التوقف عند الأفكار المتقدمة فحسب،  كنتاج لدور الجامعات الأميركية على صعيد الحياة العامة، والدور الريادي والقيادي للإمبراطورية الأميركية المنفلتة، فهناك ملفات أخرى تحتاج إلى  قراءة متأنية، منها على سبيل المثال وليس الحصر دور الجامعات الأميركية في تحفيز التغيير الاجتماعي ومواكبة النقاشات المجتمعية لا سيما حول القضايا الجوهرية والمحورية كالديمقراطية، والأبحاث التي تتسارع وتتصارع فيها الأبحاث العلمية كالجينوم والذكاء الاصطناعي، مع الحدود والمعايير الأخلاقية وربما الدينية، في دولة علمانية الهوية دينية الهوى.

ومن النقاط التي تستحق نظرة عليا، إن جاز التعبير، الدور الذي تلعبه تلك الجامعات على صعيد نشوء وارتقاء الأفكار القومية والوطنية، وما يجري حالياً من حراك سياسي في الغالبية إن لم يكن كل جامعات أميركا، من تظاهرات دعماً للقضية الفلسطينية في مواجهة أعمال العنف الإسرائيلية،  دليل قاطع على أنها باتت حواضن لتغيرات موجهة لسياسات أميركا الخارجية، وهو أمر ينظر له في الداخل الأميركي وخارجه بعين فاحصة حيناً، وخائفة أحياناً أخرى، ذلك أن من يتظاهرون اليوم، سيكونون في مصاف القيادات خلال عقد أو عقدين من الزمان، بالضبط كما حدث مع جيل طلاب أميركا الرافضين لحرب فيتنام في نهاية ستينيات القرن الماضي.

وتبقى جامعات أميركا في كل الأحوال، أكبر كثيراً جداً، من مجرد كونها مؤسسات تعليمية.

المزيد من تحقيقات ومطولات