Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المعاجم: حافظة اللغات عبر الزمن

وسائل أساسية في بناء الجسور وتعزيز التواصل والتبادل الثقافي والحضاري

قاموس "أوكسفورد" (أ ف ب/ غيتي)

ملخص

صحيح أن القاموس والمعجم يشيران إلى المراجع اللغوية التي تحتوي تعريف الكلمات وشروحات لها، لكن هناك بعض الاختلافات الدقيقة بينهما. فالقاموس يغطي عادة اللغة بشكل عام ويوفر تعريفاً للكلمات وترجماتها، وقد يتضمن أمثلة على استخداماتها في الجمل وقد يشمل معلومات إضافية مثل طريقة النطق والمرادفات.

أثناء قيامي، أخيراً، بترتيب صناديق قديمة استعداداً للانتقال من مسكني، عثرت على كتابين أثارا بداخلي دفقة من الحنين والتساؤلات. الأول هو "معجم مختار الصحاح" الذي أهدتني إياه معلمتي عندما أنهيت دراستي في المرحلة الابتدائية، والآخر "قاموس أوكسفورد" الذي كان أول كتاب أقتنيه بنفسي عندما دخلت قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة.

للمرة الأولى انتبهت إلى اختلاف تسمية الكتابين على رغم أنهما يؤديان الغرض نفسه، أحدهما سمي معجماً والآخر قاموساً. حفزتني هذه الملاحظة للبحث عن السبب ومعرفة مزيد عن تاريخ المعاجم والقواميس.

 

ما المعجم/ القاموس؟

للحصول على التعريف اللغوي الدقيق لهاتين الكلمتين، كان لا بد من اللجوء إلى القاموس!

بحسب قاموس المعاني، فإن المعجم بالإنجليزية Lexicon، هو كتاب يضم مفردات لغوية مرتبة ترتيباً معيناً وشرحاً لهذه المفردات باللغة نفسها أو ذكر ما يقابلها بلغة أخرى. والكلمة مشتقة من الفعل أعجم، أي أزال الغموض والالتباس.

أما القاموس Dictionary فهو مرجع يشتمل على مفردات لغة ما مرتبة ترتيباً خاصاً هجائياً أو بحسب جذور الكلمات مع تعريف كل منها وذكر معلومات عنها من صيغ واشتقاقات ومعان واستعمالات مختلفة. وكلمة قاموس تعني البحر العظيم.

صحيح أن القاموس والمعجم يشيران إلى المراجع اللغوية التي تحتوي تعريف الكلمات وشروحات لها، لكن هناك بعض الاختلافات الدقيقة بينهما. فالقاموس يغطي عادة اللغة بشكل عام ويوفر تعريفاً للكلمات وترجماتها، وقد يتضمن أمثلة على استخداماتها في الجمل وقد يشمل معلومات إضافية مثل طريقة النطق والمرادفات.

أما المعجم، فعادة ما يكون أكبر من القاموس وأكثر شمولاً ويمكن أن يتضمن مفردات خاصة بمجال معين مثل الطب أو العلوم أو القانون ويحتوي تعريفاً وتفسيرات أكثر تفصيلاً للكلمات.

باختصار، يركز القاموس على تعريف الكلمات وترجمتها واستخداماتها في اللغة بشكل عام، في حين أن المعجم يمكن أن يشمل مفردات متخصصة أو يوفر تفاصيل أكثر عن الكلمات واستخداماتها في سياقات معينة، لكنني سأعتمد في هذا المقال استخدام تسمية المعجم بهدف الاختصار لا أكثر.

 

المعاجم في العصور القديمة

كانت الحاجة إلى توثيق اللغة وتعريف الكلمات ضرورية بالنسبة للحضارات والثقافات المختلفة منذ إنشاء اللغة. ويعود تاريخ المعاجم إلى العصور القديمة، عندما كانت هناك محاولات لجمع المفردات وتقديم تعاريف لها.

في بدايات التاريخ المكتوب، كانت الحضارتان السومرية والآشورية في مقدم الحضارات التي بدأت في توثيق اللغة. وقد عثر على ألواح طينية فيها نصوص تحتوي على معاجم سومرية تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

ويعتبر "معجم أوروك" أقدم معجم معروف في التاريخ، ويحتوي على قوائم من الكلمات السومرية مع ترجماتها إلى اللغة السومرية القديمة وتفسيراتها. وكذلك، هناك "قائمة الفهرس اللغوي السومري" الذي كان عبارة عن قوائم تستخدم لتعليم الكتابة واللغة في المدارس السومرية، وتحتوي مفردات مترجمة بين السومرية والأكادية.

كذلك كان لمصر القديمة دور في توثيق اللغة، ووجدت معاجم مصرية ترجع إلى العصر الفرعوني. ويعد "معجم تورينو للنقوش" المكتشف في القرن الأول الميلادي علامة فارقة في تاريخ المعاجم واللغة على حد سواء. ويعود هذا المعجم إلى العصر الروماني ويحتوي قوائم بالكلمات والمصطلحات الفرعونية وترجماتها إلى اليونانية واللاتينية.

وعلى رغم أن "حجر الرشيد" الذي عثر عليه سنة 1977، ويحمل نصاً واحداً مكتوباً بثلاث لغات مختلفة لا يعتبر قاموساً بالمعنى الدقيق، فإنه يمثل مرجعاً مهماً لفهم اللغات القديمة والتاريخ القديم، وهو يعتبر أحد الأمثلة البارزة للنصوص متعددة اللغات التي تسهل فهم النصوص القديمة.

وبفضل احتوائه نصاً مكتوباً بالهيروغليفية المصرية، والديموطيقية (شكل مبسط من الهيروغليفية)، واليونانية القديمة، تمكن علماء اللغة والآثار من فك شفرة الهيروغليفية المصرية، التي كانت معروفة، لكن لم تكن قراءتها تتم بالشكل الصحيح. وبذلك، أسهم "حجر الرشيد" في فتح أبواب جديدة لفهم الحضارة المصرية القديمة ولغتها.

في العصور الكلاسيكية أثرت الحضارتان اليونانية والرومانية في تطور المعاجم، مع ظهور محاولات لترتيب اللغة وتعريف الكلمات، مثل "معجم اللغة اليونانية" الذي ألفه الإسكندر الأكبر. ويعتبر "معجم أميليانوس" الروماني، الذي قام الموسوعي أميليانوس بتجميعه في القرن الرابع الميلادي، مصدراً مهماً لفهم اللغة اللاتينية وثقافة العصور الرومانية. ويتمتع هذا المعجم بأهمية كبيرة لأنه لم يكن مجرد معجم لغوي، بل تضمن أيضاً معلومات تاريخية وجغرافية وثقافية.

وفي العصور الإسلامية، نشأت مدارس لغوية وأدبية أثرت في تطور المعاجم والقواميس، مع تأثير اللغة العربية ومحاولات توثيقها وتوسيع المفردات.

وأحد أقدم المعاجم العربية المعروفة هو "معجم الصحاح" للإمام الجوهري، ويعتقد أنه تمت كتابته في القرن الـ10 الميلادي. ويعد الصحاح من أهم المراجع اللغوية في التراث العربي، إذ يتضمن معاني الكلمات واستخداماتها وأمثلتها في النصوص القرآنية والشعرية والنثرية.

نهضة المعاجم وتخصصها

في العصور الوسطى، شهدت المعاجم تطوراً كبيراً في مختلف الحضارات يعكس تطوراً عاماً في العلوم والثقافة. في العالم الإسلامي، يعد "معجم لسان العرب" لابن منظور من بين المعاجم الأكثر شهرة في هذه المرحلة، وقام ابن منظور بتجميع هذا المعجم الشهير في القرن الـ13. ويعتبر "لسان العرب" أكبر المعاجم العربية وأهمها وأشملها، ويحتوي على تعاريف للكلمات العربية وتفسيراتها وشروحاتها.

وفي فترة النهضة الأوروبية، شهدت المعاجم الإنجليزية تطوراً كبيراً، وأحد أبرز المعاجم في هذه المرحلة "معجم أكسفورد الإنجليزي" الذي بدأ تجميعه في القرن الـ17، وصدرت أول نسخه عام 1884، واستمر تحديثه وتطويره حتى يومنا هذا.

وكان هدف "معجم الفرنسية الوسيطة" توثيق وتحليل اللغة الفرنسية منذ الفترة التي تلت انحدار اللاتينية المبكرة في فرنسا، ويغطي فترة زمنية تمتد من نحو القرن الثامن إلى القرن الـ15. ويحتوي المعجم على تعاريف للكلمات وتوثيقات من النصوص التاريخية والأدبية والقانونية والدينية التي توضح استخدامات الكلمات في سياقها الأصلي.

وظهرت المعاجم الاختصاصية في فترة متأخرة من تطور المعاجم، وبدأت الحاجة إلى توثيق المصطلحات والمفاهيم في مجالات محددة تتزايد مع تطور العلوم والمعرفة. ويعتبر "معجم الطب الأول" للطبيب الروماني سيليوس الصادر في القرن الأول الميلادي أحد أقدم المعاجم الاختصاصية في مجال الطب. أما المعجم الأقدم في الرياضيات فهو "المختصر في حساب الجبر والمقابلة" للعالم العربي محمد بن موسى الخوارزمي. وتمت كتابته في القرن التاسع الميلادي ويعتبر مساهمة مهمة في تاريخ الرياضيات، إذ قدم فيه الخوارزمي عديداً من المفاهيم والتقنيات الأساسية في الجبر والجبر التفاضلي.

ويعتبر "معجم راستل للقانون" أحد أقدم المعاجم القانونية، وقد صدر لأول مرة في عام 1523، وألفه ويليام راستل الذي كان محامياً ومؤلفاً إنجليزياً. ويتناول المعجم عديداً من المواضيع المتعلقة بالقانون المدني والقانون الجنائي والقانون التجاري وغيرها، ويوفر توجيهات وتفسيرات للقوانين والتشريعات في ذلك الوقت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حافظة اللغات

وتعد المعاجم أدوات أساسية في حفظ اللغة وتطويرها، ولها دور مهم في التبادل الثقافي والحضاري بين الشعوب والثقافات. وتعتبر هذه الأدوات مراجع لا غنى عنها في فهم الكلمات وتعاريفها واستخداماتها اللغوية والثقافية، وتسهم بشكل كبير في تطوير مهارات اللغة لدى الأفراد وفهمهم العالم من حولهم.

ومن أبرز الوظائف التي تؤديها المعاجم هي توثيق اللغة وتطورها عبر الزمن. فهي تجمع الكلمات والمصطلحات والتعابير وتوثق معانيها واستخداماتها في مختلف السياقات اللغوية والثقافية. ومن خلال تتبع تطور المعاني والاستخدامات عبر العصور، يمكن للباحثين والمهتمين باللغة فهم تاريخها وتطورها وتأثيرات العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية عليها.

إضافة إلى ذلك، تلعب المعاجم دوراً محورياً في تعزيز التواصل والتبادل الثقافي والحضاري بين الشعوب والثقافات المختلفة، وتسهم في تسهيل فهم اللغات الأخرى وترجمتها، بالتالي تقريب المسافات بين الثقافات.

علاوة على ذلك، تعتبر المعاجم والقواميس أدوات مهمة في عمليات التعلم والتعليم، إذ تساعد في بناء المفردات وتحسين مهارات الاستيعاب والتواصل لدى الأفراد.

المعاجم في العصر الرقمي

ومن أهم الجوانب التي شهدت تحولاً جذرياً في عالم اللغة والثقافة هو تطور التكنولوجيا وتأثيرها على المعاجم. وبفضل التطور التكنولوجي، وبخاصة ثورة الإنترنت والحوسبة، شهدت المعاجم والقواميس تحولاً هائلاً في وسائل إنتاجها واستخدامها.

ومن أبرز تأثيرات التكنولوجيا كان الانتقال من الكتب المطبوعة إلى النسخ الإلكترونية والتطبيقات. فبفضل الإنترنت، أصبحت المعاجم متاحة بسهولة للجميع في أي وقت ومكان، ما زاد من إمكانية الوصول إليها واستخدامها بشكل فعال، إضافة إلى ذلك، فإن المعاجم الإلكترونية توفر ميزات تفاعلية مثل البحث السريع والترجمة الفورية والنطق، ما يسهل على المستخدمين فهم واستخدام اللغة بشكل أفضل.

لكن مع هذه التطورات التكنولوجية، ظهرت تحديات جديدة أمام معاجم اللغات، من أهمها جمع وتحديث المعلومات بشكل مستمر، بخاصة مع تغيرات اللغة وظهور المصطلحات الجديدة بشكل متسارع. فالتكنولوجيا تفتح أبواباً لتوسيع نطاق اللغة واستخدامها في مجالات جديدة، مما يتطلب من المعاجم اللغوية الحفاظ على تحديثات مستمرة لتلبية احتياجات المستخدمين، وأن هناك أيضاً مشكلة تتعلق بالدقة، ففي العمليات التقليدية للطباعة، يتم التأكد من دقة المعلومات والترجمات والتعاريف قبل نشرها، لكن في النسخ الإلكترونية، قد تظهر بعض الأخطاء أو عدم الدقة نتيجة للعمليات الآلية للتحويل والنشر أو بسبب البيانات التي يتم جمعها من مصادر مختلفة من دون التحقق الكامل من صحتها.

كذلك يظهر استخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي في تطوير المعاجم نقلة نوعية في مستقبلها، إذ تساعد تلك التقنيات في تحليل البيانات بشكل أسرع وأكثر دقة، وتوفير توقعات وتوجيهات تساعد في تحسين الأداء وتوفير تجارب مستخدم محسنة، بالتالي لا يبدو أن هناك خوفاً على مستقبل المعاجم مع استمرار تقنيات التعلم الآلي في دعم تطورها وتحسينها لمواكبة التغيرات اللغوية والتقنية في عصرنا الحالي.

وسواء كانت إلكترونية أو ورقية، ليست المعاجم أدوات لفهم اللغة وتطورها فقط، بل هي وسائل أساسية في بناء الجسور وتعزيز التواصل والتبادل الثقافي والحضاري بين الشعوب والثقافات المختلفة.

في فيلم "الأستاذ والمجنون" The Professor and the Madman الذي يتناول القصة الحقيقية لتجربة تجميع "معجم أوكسفورد الإنجليزي"، يقول ميل غيبسون الذي يجسد شخصية البروفسور اللغوي جيمس موراي، "يتعلق الأمر بتسجيل تطور المعنى، لأن كل كلمة، عندما تستخدم في سياقها الصحيح، يظهر جمالها الخاص".

المزيد من تحقيقات ومطولات