Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاستقطاب السياسي بالشرق الأوسط

شرع في الظهور بين واشنطن وموسكو بعد انسحاب الاستعمار القديم من المنطقة ومر بمحطات الحرب الباردة والقوميات

ما زالت منطقة الشرق الأوسط محط الأطماع التركية والإيرانية    (رويترز)

ملخص

ظهر الشرق الأوسط وكأنه بؤرة الصراع المحتدم في العالم حتى تفتحت شهية بعض دول أوروبا للدخول من بوابات الدول العربية فبرزت الفتن والاضطرابات

 عرفت منطقة الشرق الأوسط منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها مخاضاً سياسياً من نوع مختلف، فتحركت الجيوش العربية في سلسلة انقلابات عسكرية وامتدت حركة التحرر الوطني لتشمل دولاً وإمارات في المنطقة العربية، حيث بدأ الاستعمار القديم بصورته التقليدية المتمثلة في قوات عسكرية بريطانية أو فرنسية أو حتى إيطالية يحمل عصاه على كاهله ويبدأ بالرحيل بفعل تطورات ذلك العصر والمفهوم الوافد لنظرية الفراغ في الشرق الأوسط وفق مبدأ أيزنهاور نسبة للرئيس الأميركي الراحل. عندئذٍ جرى استقطاب لا مبرر له، في ظني، بين الدول القريبة من الاتحاد السوفياتي حينذاك والدول التي تربطها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة الأميركية في جانب آخر.

 عندئذ بدأ الاستقطاب الدولي يفرض نفسه على المنطقة العربية في إطار الشرق الأوسط الكبير وفي ظل أجواء الحرب الباردة وتدفقت مع مر السنين أمواج كثيرة تحت الجسور ومجاري الأنهار والصراع العربي- الإسرائيلي يتعاظم في هذه الأثناء ويدخل مرحلة جديدة كانت أبرز محطاتها حرب 1956 وحرب 1967 وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وظهر الشرق الأوسط وكأنه بؤرة الصراع المحتدم في هذه المنطقة من العالم حتى تفتحت شهية بعض دول العالم للدخول من بعض بوابات الدول العربية، فبرزت الفتن والاضطرابات في كل دولة تقريباً، وعلى رغم أن بريطانيا وفرنسا كانتا تلملمان أوراق الاستعمار القديم للرحيل عن المنطقة، إلا أن إسرائيل استطاعت أن تبقى في الأحضان الأميركية بحيث تحولت واشنطن لكي تكون الراعي الأصلي لدولة إسرائيل بعد بريطانيا وفرنسا.

 وأسهمت نكسة 1967 في تعزيز موقف إسرائيل وتقوية مكانتها عالمياً وإقليمياً وشهدت الأعوام التالية لتلك النكسة فترة صعبة على العالم العربي، خصوصاً على الدول التي احتُلت أراضيها وهي مصر وسوريا والأردن وربما لبنان أيضاً، وظهرت مرحلة حرب الاستنزاف التي أبلى فيها الجانب المصري بلاءً حسناً للخروج من عباءة النكسة، إذ أدى التضامن العربي غير المسبوق بقيادة الرئيس المصري الراحل أنور السادات وبدعم من العاهل السعودي الراحل الملك فيصل إلى تحقيق نصر أكتوبر، فعبرت القوات المصرية قناة السويس واجتازت خط بارليف الإسرائيلي.

 أصبحنا أمام مشهد جديد دعا إلى بروز دور داهية الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر الذي قال للسادات ذات مرة إن "المهزوم لا يملي شروطه. وعليك أن تقوم بحرب تحريك في الأقل لكي يبدو لكلماتك وقعها الطبيعي على الأطراف الأخرى".

وكان نصر أكتوبر النتيجة الطبيعية لهذا الشعور الذي تقمص العقل العربي ودفعه دفعاً نحو التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق بصورة مختلفة، فطرد السادات الخبراء السوفيات من مصر، معلناً أن 99 في المئة من كروت حل الصراع العربي- الإسرائيلي أصبحت في يد الولايات المتحدة الأميركية، وبذلك تراجع الاستقطاب الدولي بين أنصار الاتحاد السوفياتي  وأصحاب العلاقات القوية تقليدياً بالولايات المتحدة.

 ووجدنا أنفسنا أمام مشهد مختلف رجحت فيه كفة الغرب على الشرق وتراجع المشروع القومي بصورة ملحوظة وتقدم المشروع الإسلامي الذي رعاه السادات في البداية من دون أن يعي نتائجه الخطرة، إذ تجذرت قوة جماعة الإخوان المسلمين وسيطرت إلى حد كبير على الشارع في عدد من الدول العربية، خصوصاً الدولة التي ولدت فيها الجماعة وهي مصر.

 كان يمكن تقبل الأمور على هذا النحو إلى أن حدث أمر جلل بقيام الثورة الإسلامية في إيران وطرد الشاه وعودة الخميني لطهران، حيث جرى استقباله استقبال الفاتحين في تاريخ الدعوة الإسلامية، وقيل إنه ذكر لبعض مرافقيه في الطائرة التي أقلته من فرنسا إلى مطار ماهراباد أن العرب حكموا الأمة الإسلامية لقرون عدة، كما حكمها الأتراك العثمانيون لقرون أخرى، وجاء الأوان لكي يقود الفرس الأمة الإسلامية حالياً كما ردد أحد معاونيه من وزراء إيران منذ أعوام قليلة عندما سقطت صنعاء في أيدي الحوثيين، فغرّد ذلك المسؤول الإيراني أن العاصمة العربية الرابعة آلت إليهم بعد دمشق وبيروت وبغداد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا أصبحنا أمام مشهد جديد للاستقطاب الدولي في المنطقة، إذ إن ظهور إيران وطموحاتها السياسية، بل أطماعها الجغرافية، جعلتها تسعى إلى التهام ما تقدر عليه من دول الجوار العربي والإسلامي، بل استعانت بعدد من الوكلاء الذين يقودون ميليشيات مسلحة للتأثير في سياسات المنطقة وأمن الدول فيها وفي مقدمتها "حزب الله" في لبنان الذي اختزل الإرادة اللبنانية في دوره بالجنوب وهو الذي خاض حرب 2006 ضد إسرائيل، وتمكن من إيجاد الجزء المعطل في سياسات الدولة اللبنانية حتى وصل الأمر بذلك البلد العربي الجميل إلى أن يظل بلا رئيس جمهورية لأعوام عدة، خضوعاً لسطوة الحزب الذي يعتبر مؤسسة إيرانية على أرض عربية.

 ومهما قيل من تبريرات في هذا الشأن، فإن حال الاستقطاب التي نشير إليها تبدو الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فالشرق الأوسط اليوم منقسم بين أعوان إيران في جانب والمعترضين على سياساتها في الجانب الآخر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأتراك الذين يحوزون مواقع جديدة كل يوم، إضافة إلى أن تركيا دولة عضو في حلف الأطلنطي وهي دولة أوروبية- آسيوية ذات وضع خاص.

   واليوم يقف العرب على الجانب الآخر يتابعون العدوان الدامي على الشعب الفلسطيني ويبذلون الجهد الإعلامي والسياسي للخروج من ذلك المأزق، ولكن حالات الاستقطاب التي فرضت نفسها على المنطقة العربية تحول دون ذلك، ولنا هنا ملاحظتان:

 أولاً: إن حال السيولة في العلاقات الإقليمية والدولية توحي أن كل شيء معقد وأن الأمور لم تستقر بعد ولم تنجح سفينة الشرق الأوسط في الوصول إلى شاطئ الأمان حتى الآن، ولكن الأمر يختلف إذا أدركنا أن سياسات هذه المنطقة التي تقع في قلب العالم تبدو وكأنها تطفو فوق سطح الرمال الساخنة، كما أن الرواية لم تتم فصولاً، فما زلنا في حال ترقب تصعب معها قراءة المستقبل أو حل ألغاز ما هو آتٍ فيه، فالتنبؤ السياسي أمر محفوف بالأخطار في ظل المتغيرات السريعة التي أفرزها الصراع العربي- الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

فالمنطقة العربية مقبلة على تغيرات هائلة، لا في هياكل النظم ولكن في جوهر السياسات، كما أن العلاقات بين إسرائيل والدول العربية تدخل مرحلة جديدة تساعد على الدفع فيها احتمالات وجود سياسة إسرائيلية مرنة لا تصبح رهينة لليمين الإسرائيلي المتطرف دون سواه.  

 ثانياً: إن الشعور الشرق أوسطي يتأرجح بين موجات من التفاؤل وأخرى من التشاؤم سببها عدم وضوح الرؤية، على رغم أن الشارع في معظم دول العالم يموج بانفعالات قوية داعمة للشعب الفلسطيني ومتعاطفة مع معاناة أهل غزة، فضلاً عن تحولات رسمية في مواقف عدد آخر من الدول التي بدأت تدرك أن الصراع العربي- الإسرائيلي سيظل قنبلة موقوتة ما لم نتمكن من نزع الفتيل بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم في دولة مستقلة وهو الحد الأدنى الذي يطالبون به، حتى يصبح للفلسطيني شأن وكيان يسمحان له بالحوار مع إسرائيل والتعايش معها لأن القضية معقدة وشديدة الحساسية، وفيها أبعاد تاريخية ودينية ورواسب إنسانية تحتاج كلها إلى قدر كبير من الفهم والوعي المشترك الذي يجعله قادراً على إدراك أننا في قارب واحد، وفي النهاية إما أن نطفو سوياً أو نغرق جميعاً.

إن حال الاستقطاب التي نشهدها اليوم بين معسكرين إيراني وآخر إسرائيلي يستلزم من العرب يقظة أشد وفهماً أعمق لطبيعة العلاقات الدولية في إطارها الإقليمي وانعكاساتها على المنطقة كلها.       

اقرأ المزيد

المزيد من آراء