Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عزلة الإنسان الجماعية في لوحات السوري غيلان الصفدي

طاولات شبه خفية تلتقي حولها الذكريات والأطياف والحياة اليومية

لوحة من معرض الرسام السوري غيلان الصفدي (خدمة المعرض)

ملخص

في معرضه الجديد يسعى الرسام السوري غيلان الصفدي إلى رسم عزلة الإنسان وسط الجماعة، وغربته المحاطة بالصخب والضوضاء. وقد اختار ثمة الطاولة ليجعل الناس من حولها أشبه بأطياف.

ينتقل الرسام السوري غيلان الصفدي في معرضه "كلّ طاولة لها قصة" الذي تحتضنه غاليري آرت أون 56 في شارع الجميزة البيروتي، إلى مرحلة أخرى من الاشتغال في اللوحة وتفاصيلها. فاللوحات المنجزة على مدى السنتين الأخيرتين، بدأت رحلتها بلوحات صغيرة وانتقلت إلى مرحلة أوسع من مرحلة التفكيك البصري.

ثيمة المعرض التي تظهر في غالب الأعمال، ذات أبعاد كثيرة تدور حول الطاولة وفي فلكها، وما لها من علاقة بالأماكن ومحتوياتها. الطاولة بدفاترها واسكتشاتها وأقلامها. أي بتعبير آخر الطاولة بوصفها مسرحاً أو ذلك الشيء البسيط الذي يتركه الناس بسهولة.

طاولات الوداع والقرارات السياسية، طاولات أوراق التارو والحظ، طاولات الحب، الموت، الفرح، الموسيقى. هكذا تغدو الطاولة شيئاً غير جامد، بل تغدو مكاناً واحداً للذكرى والألفة. ونغدو معها غير آبهين بالأشياء، بل جلّ التفاتنا إلى الإنسان. طاولتنا هي الورطة التي تبيّن أننا نلجأ إليها كي نبتعد من البشاعة، ونتعلق بأشياء جامدة بحثاً عن الألفة.  

مرحلة إنجاز المعرض مرّت بمراحل، بدءاً من المعرض الماضي، الذي تلته محاولات لتحويل الأشخاص  إلى تجريد. هذا انطلاقاً من اللوحات الصغيرة التي تعوّل على بناء قصة حول هؤلاء الأشخاص، ساكني اللوحة. في الفترة السابقة لدى الصفدي، كان يمكن للمشاهد أن يبصر مساحات قليلة فارغة، تحولت مع الوقت إلى مساحات لونية ملؤها الصخب والغضب. هما صخب وغضب، وكأن اللوحة بحاجة لاستراحة. ينتقل هذا الفراغ إلى نوع من التجريد. الفراغ الذي قد يوحي بأنّ اللوحة غير منجزة، لا يبقى فراغاً بل يصير متمّماً تشكيلياً.

التجربة التي انتقلت من مكان هو عبارة عن خلفية سوداء وشخوص كثيرة، تنفتح الآن على الألوان بتدرجاتها وعمقها وشحوبها. هذه الشخوص ذات القياس غير الموحد، تمر بمرحلة الألوان التي تغدو متعة تجريبية بحثاً عن النتائج. تسير بقوّة لتبني أحاسيسَ حول الحزن ولتكون حجة ودافعاً وموضوعاً للتشكيل. الدائرة أيضاً التي تتوسط معظم الأعمال على شكل طاولة، هي أيضاً من عناصر كسر الروتين في العمل.

تشكل الأعمال على اختلافها رحلة انتقال إلى مرحلة كاملة لأشخاص وبنيان في اللغة التشكيلية التي ابتعدت، محاولة الاقتراب من الشكلانيّة. يسيطر على المعرض جو من الغموض. قد يذهب هذا الانطباع بالمفترّج إلى خيال العرافات أمام كراتهن، وصولاً لاجتماع الآلهة العلوي الذي يقوم بتحديد مصير عناصر اللوحة بالنرد والأبواق وغيرها.

يشعر المتفرّج للوهلة الأولى أنّ الفنان يكرر نفسه، ولكن التمحيص ملياً، يكشف أن الحشود لها دور، هي في محل ما مشروع سفر أو وداع، او ضرب من ضروب تأمين القوت اليومي، هي ليست أيضاً للتسلية والترفيه. أنماط من الطاولات مجموعة في طاولة واحدة، تترافق مع تحديد الأشخاص بحسب الثيمة الطاغية. هل هذه الكائنات مسافرة في شكل موقت أم دائم؟

صور جحيمية أخرى تنقلها  الشخوص كما لوحات الفراعنة، يتعيّن على الناظر إليها مراقبة العين كيف تسير. موضوعة الطاولة تشكل مرجعيّة للانطلاق في رؤية اللوحة ولفهم العالم ماذا يفعل. نبدأ بالطاولة، والهواء الذي يدفع شخوصها، الرجل الأسود وعلى رأسه غراب، البوق الذي يدق، والريح التي تخرج.

الشخوص تبدو كأنها أطياف مترافقة مع ريشة غير مشبعة بالألوان. توحي لنا بأن اللوحة هي ما بقي منها. الحشود وقد خلت من رمز لطيف أو شخص، وكأنّه حجر شطرنج. لا تبقى اللوحات مجموعة عشوائياً، وكأنها خلت الطاولة من حشود عشوائية. تضعنا الطاولة أمام ثيمات مجموعة في لوحة أخيرة: الرسوم والحيوانات والشتول وعلب الموسيقى وطاولة العرافة وزورق السفر والأقنعة ونساء التارو والشخص الذي يضع رأسه على سكينة، وهو الذي ربما أراد القول أن الحشود الكبيرة تأتي من سلسلة حركات متباينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تختلف الشخوص حين تكبر، وتغدو أسهل للناظر حين نصير غير مجبرين على التحديق فيها، في لوقت تزداد فيه الرهبة. الرهبة المتحققة من الوجوه. فحين نقترب من الأشخاص لا نجدهم لطيفاء بل كأنهم محايدون وبعيدون من الراحة. شخصوص هم في رحلة دائمة من التفكير والتخطيط. نرى ذلك جليّاً في لوحة  الشخوص ذوي الوجوه المعتمة. أطياف وأرواح عائمة وصولاً إلى الجموع. التدقيق فيها يكشف بعمق، القدرة على التمييز  بين الشخصيات، كأن نبحث كلّ الوقت عن فرصة لتحديد الهوية واستكشاف النفس والهوية في هذا الوجه دون سواه.

لوحات تطرح تساؤلاتها برهبة، تساؤلات نابعة من الوجوه النصفيّة التي تغيّب العري عن المشهد. رهبة الزورق والمهرج والوجوه السوداء الغائرة. هل هي أشباح؟ هل هي عوالم تخفي سوادها بألوان مستعارة؟ شيئاً فشيئاً يغدو العري بلا قيمة، نتيجة هذه اللوحات والرهبة التي توحي بها. الطاولة في معرض غيلان الصفدي هي غير مرئية حتى ولو تصدرت العنوان، ولكنها ليست المقصد وليست المرسى ولا المحطة. فحين تنوجد الطاولة يجب أن تكون حاضنة للضياع والمخلوقات الهائمة، الباحثة عن كمال لا متناه وغير موجود.   الطاولة التي نسب إليها الفنان معرضه هي في محلّ ما، موازية للغراب والبوق واللّطم والعالم العلوي الذي تسير في فلكه اللوحات.

هكذا يقدم لنا غيلان الصفدي رحلته في البحث عن البقاء والمصير والتأمل في الفخاخ اللونية. رحلة اكتشاف للعلاقات والأشكال والألوان والأحجام والشخوص، مدارها الكائن البشري نفسه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة