Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوديب يصعد الطائرة في رواية مصرية تخلط بين الأساطير

محمد سلماوي يفكك حكاية سوفوكليس ويوازن بين التخييلي والواقعي والانساني   

أوديب بريشة فرانشيسكو فتاتيس (صفحة أوديب - فيسبوك)

ملخص

يسعى الكاتب المصري محمد سلماوي في روايته الجديدة "أوديب في الطائرة "إلى تفكيك الأسطورة الإغريقية الشهيرة انطلاقا من مسرحية سوفوكليس، محاولاً أنسنتها ونسبها إلى الواقع الراهن. ويدمج في الرواية بينها وبين أساطير أخرى، بغية  خلق جو منفتح على أقصى التخييل السردي.

تنطلق رواية محمد سلماوي "أوديب في الطائرة" (دار الكرمة) من حادثة حقيقية، لكنها لا تؤرخ لهذه الحادثة بصورة مباشرة، ولا تسمي شخصياتها بأسمائها الحقيقية، بل تقوم على التخييل الأسطوري، أو لنقل الفني. فمن المعروف أن دراما "أوديب ملكاً" منسوبة إلى سوفوكليس، ولهذا ورد الأب "لايوس" والأم "جوكاستا" باسميهما الحقيقيين. لكن لعنة "أوديب" التي جعلته يفقأ عينيه ويهيم في البراري ترجع، إلى اكتشافه أنه قتل أباه وتزوج من أمه. هذه هي قصة الإطار التاريخي التي يتم تحريك الأحداث المعاصرة بالتوازي أو بالمخالفة معها .

تقوم الرواية على بنية دائرية، فهي تبدأ برفض أوديب النزول من الطائرة إلى السجن. ويستمر الأمر على هذا النحو حتى تختم الرواية فصولها المعنونة بنزول أوديب من الطائرة، بعد أن نهرَ الحارس وصرخ فيه أن يغرب عن وجهه. وما بين البداية المفتوحة على كل الاحتمالات، والنهاية المغلقة، يبدو المشهدان أشبه بالقرار والجواب. وإذ يبدو المشهد الأول متسماً بالتوتر والترقب، يظهر المشهد الثاني حاسماً سريعاً كأنه نوع من الاستسلام، رغم صراخ أوديب أو صمته المتحفز: "أمضى قرابة الساعة وحده في الطائرة، بعد أن فشل الجنرال ديتر رئيس الأركان، في إقناعه بالنزول". ولأننا بدأنا بالنهاية من خلال تقنية الاستباق، كان لا بد أن يتسم السرد بتقنية معاكسة، هي تقنية الاسترجاع الذي يوضح لماذا آلت الأمور إلى هذا المصير: "مع تفاقم الأوضاع في طيبة وازدياد الفقر، انتشر – فجأة – وباء الطاعون في جميع أنحاء البلاد، وأخذت أعداد الضحايا ترتفع بسرعة بسبب تردي مستوى الرعاية الصحية وسوء حال المستوصفات العلاجية"، وهي حالة تصدق على أوضاع الواقع الراهن الذي انقلبت الأمور بسببه.

يصبح "تيريسباس"- ذلك العجوز الأعمى - أقرب إلى العرَّاف الذي يستشرف المستقبل وينذر بحلول اللعنة إذا لم يستجيبوا لزيوس، إله العدل وكبير الآلهة، الذي يطالبهم بالقصاص من المتسبب في هذا الوباء .

تفكيك الأسطورة

يقوم سلماوي بتفكيك الأسطورة ومحاولة أنسنتها وردها للواقع، فقد شاع أن أوديب هو الذي تغلَّب على الوحش وتمكَّن من دخول طيبة، التي كان من المخيف دخولها أو الخروج منها. وهنا يحمله أهل طيبة على الأعناق، لكنه يوضح أن ذلك الوحش ما هو إلا مجموعة جنود قام بالقضاء عليهم وقتل قائدهم. ومع ذلك تظل الأسطورة هي الأكثر حضوراً في مخيلة الناس، حتى أقرب الناس إليه، فتقول أنتيغونا – ابنة أوديب – بعد أن يحكي القصة الحقيقية:"لكن هذه قصة أخرى غير قصتك التي نعرفها". والحق أن الكاتب يقوم بما يمكن أن نسميه تركيب الأساطير فيستعير شخصيات أسطورية؛ ليجعلها ضمن نسيج أسطورة أخرى. فأنتيغونا وهيلينا – بأسميهما كما ورد تاريخياً- هما ضمن مسرحية "أنتيغونا" لسوفوكليس، قد جاءتا في سياق مختلف. و"لايوس" – وهو حقيقة والد أوديب في المسرحية – لم يمت في محاربته للوحش بحيث تكشف التحقيقات أن أوديب هو قاتل هذا الأب. و"هيباتيا" التي جاءت في الرواية بوصفها حبيبة "بترو"، الشاب الثائر ومخرج الأفلام الوثائقية،  يستعير الكاتب اسمها من قصة الفيلسوفة السكندرية التي قُتلت على يد المتعصبين دينياً. لكنها تبدو هنا شخصية عادية من جموع الشعب التي قامت بالانتفاضة الكبرى، فمن خلال قضبان نافذة سيارة شاهد "بترو" تبدو "هيباتيا" وهي تعلق الكاميرا برقبتها وترفع له يدها بعلامة النصر.

عناد أوديب

اتسم أوديب في الرواية بالعناد، فهو لم يستسلم بسهولة لمصيره رغم حكم زيوس عليه بأنه سبب وباء الطاعون. بل إن استسلامه كان إرغاماً من القيادة العليا التي قررت أنه "يجب إيداع أوديب السجن فوراً تنفيذاً لنبوءة زيوس المقدَّسة التي نطقت باسمه بشكل لا لبس فيه". ظل أوديب متمسكاً بدفاعه عن نفسه، فهو قاهر اسبرطة ومرشح مجلس النواب بعد دخوله إلى طيبة محمولاً على الأعناق، وهو حامي الوحدة الوطنية بعد أن تراجعت في عهد الملك لايوس... "وساد جو من التناحر والاقتتال بين مختلف فئات الشعب وخاصة بين عنصري الأمة، المسلمين، والمسيحيين". وهكذا اتكأ أوديب على أمرين: الحديث عن بطولاته الماضية واتهام كل من يحيط به بالتآمر عليه. يقول لرئيس الأركان: "ألم أقم بترقيتك قبل أشهر قليلة؟ هل انضممت إلى كتيبة الخونة أنت الآخر؟". هذا العناد لا نجده في أوديب الأسطوري الذي استسلم لمصيره بمجرد معرفة الحقيقة، بل قام بعقاب نفسه تكفيراً عن قتل الأب وزنا المحارم. الحديث عن ماضي البطولات يتم – غالباً- بالأسلوب الاستفهامي الذي يوحي بالاستنكار والمرارة: "هل نسيتم الانتصار في الحرب على اسبرطة ؟"، أو "هل نسيتم أين كانت طيبة، وماذا كانت حالكم؟"، أو "هل ستدرسون قصتي للأطفال في المدارس؟ وكيف ستقولون لهم إنكم سجنتم بطل الرواية؟ أم أنكم ستتناسون تاريخي وتمحونه كأن لم يكن؟". هذه الأسئلة الاستنكارية توحي بالألم الممض من مصيره الذي يساق إليه .

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه الأساليب تجعل الحوار سجالياً وصراعياً بين الرؤى المختلفة كما يتسم بقصر العبارات وتتابعها السريع، وربما كان ذلك بأثر من المسرح الذي كتب فيه الكاتب أيضاً. ويضرب تيريسياس مثالاً دالاً على أن القائد القوي العظيم ليس أساس الاستمرار في الحكم إذا ما أغضب الآلهة ولم يرضخ لمشيئتهم. والمثال الدال على ذلك هو برومثيوس الذي أغضب زيوس كبير الآلهة لأنه عصى أمره، "فالبشر في بداية خلقهم لم يكونوا يعرفون النار ولا يستخدمونها، وأمره زيوس ألا يعطي سر النار للبشر، لكنه خالف هذا الأمر، فصاروا يستخدمون النار في الحروب". ويمكن وصف السرد السابق بالتاريخي الذي يخالف السرد الذاتي والذي يظهر – دائماً- في حديث أوديب عن نفسه ويكثر فيه ضمير الأنا. كما يقف هذان النوعان من السرد على العكس من السرد العجائبي على نحو ما يظهر في وصف تيؤيسياس لطنطالوس الذي كان "ملكاً متوجاً على إحدى ممالك الأناضول لكنه أغضب الآلهة فحكمت عليه أن يمضي أيامه واقفاً وسط بركة ماء عذبة وقد تدلت أطيب الثمار من شجرة فوق رأسه؛ "لكن هذه الثمار ترتفع ولا يستطيع الحصول عليها كلما شعر بالجوع، وكان ماء البركة يغور فلا يطوله كلما شعر بالعطش".

وينقسم الوصف إلى وصف تقريري محايد ووصف تعبيري تظهر فيه مشاعر المتحدث. فعندما يقول الراوي الخارجي – مثلاً –: "كان الحرس كلما طالوا أحد المتظاهرين قيَّدوه، ودفعوا به فوراً إلى سياراتهم السوداء القبيحة". فصفة القبيحة تظهر موقف السارد ومشاعره ورؤيته الأيديولوجية. وتنقسم وضعية السارد ما بين السارد الخارجي العليم الذي يغلب عليه ضمير الغائب والسارد الداخلي المشارك في الحدث ويغلب عليه ضمير المتكلم وتوظيف الأسلوب الإنشائي. وكما يظهر في تلك الأسئلة المتتابعة التي قذف بها أوديب في وجه رئيس الأركان.

وأحياناً يتجاوب الحدث مع وصف الطبيعة. يصف السارد اليوم المنتظر الذي ستعلن فيه النبوءة في معبد زيوس، بأنه كان مكفهراً: "حيث الريح الساخنة المحملة بالرمال تلف طيبة ككفن من الكتان المصفر", وهكذا تغدو الطبيعة مرآة لهذا الحدث الجلل الذي ينتظره الجميع. وهناك ما يسمى بعلامات الطبيعة، فبعد حديث أوديب مع زوجته وابنتيه وإحساسه بالخطر، يصف السارد النهار بأنه كان قد انقضى: "ومن بعيد سمع صوت طائر ينوح في الغروب كنذير شؤم في الأفق". كما يوجد حس فاجع بالمفارقة بين ماضي أوديب البطولي وحاضره الذي تفشى فيه البلاء، وتردي الأوضاع الاجتماعية. كما تتجلى الشاعرية في خطاب هيباتيا لبترو، "أشعر بالغربة يا بترو وأنت بعيد عني. أشعر بالوحدة وأشعر بالضعف. كنتُ أستمد قوتي من قوتك وأستمد تفاؤلي من تصميمك الذي لا يلين". وتتجلى الشاعرية من تكرار الفعل "أشعر" ثلاث مرات، وتصوير علاقة التوحد بين الطرفين .

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة