ملخص
لا يمكن قراءة غياب المسؤولين السوريين عن بيروت منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد إلا كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تعريف الدور السوري في المنطقة. فسوريا اليوم ليست سوريا ما قبل 2011، ولا تريد العودة إلى الوراء. إنها مرحلة انتقالية في العلاقة، لا عداء معلناً، ولا تطبيع سياسياً، بل صمت دبلوماسي قد يتحول إلى حوار، حين تنضج الشروط من الجانبين.
في خطوة رمزية لافتة في توقيتها ومضمونها جاءت زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان إلى العاصمة السورية دمشق، بخاصة أنها تأتي في مرحلة يعاد فيها رسم العلاقات اللبنانية - السورية على إيقاع التحولات الإقليمية.
فهي من جهة تعكس رغبة دمشق في إظهار انفتاحها على المكونات اللبنانية كافة، لا سيما المرجعية الدينية السنية، ومن جهة أخرى قد تفسر كمحاولة من المفتي لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع الدولة السورية الجديدة، في ظل غياب موقف لبناني موحد إزاء النظام الجديد القائم هناك. وفتحت الزيارة باب التأويلات حول موقع دار الفتوى في التوازنات الإقليمية المقبلة، ومدى استعدادها للانتظام في مرحلة جديدة، عنوانها الواقعية السياسية، وتجنب القطيعة التي طبعت العلاقة سنوات طويلة، منذ اندلاع الثورة السورية.
وتكثر الأسئلة في الأوساط اللبنانية، لا سيما في الدوائر السياسية والإعلامية، ولا توجد إجابة رسمية لها حتى الآن، وهي لماذا لم يزر أي مسؤول سوري رفيع لبنان منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وتسلم رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع الحكم؟
والتساؤل يزداد إلحاحاً في ضوء زيارات لبنانية رسمية متكررة إلى دمشق أبرزها زيارة رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، والنائب السابق وليد جنبلاط، في مشهد يعكس استعداداً لبنانياً للانفتاح، من دون أي تجاوب مماثل من الجانب السوري. علماً أنه وفي الـ27 من مايو (أيار) الماضي زار وفد من الجيش اللبناني دمشق واجتمع مع رئيس هيئة الأركان السورية اللواء علي النعسان، ومعاون وزير الداخلية للشؤون الشرطية اللواء أحمد لطوف، وتناولت الاجتماعات، ملفات أمن الحدود وتعزيز سبل التعاون بين البلدين، وفقاً للبيانات الرسمية.
وتحدثت أنباء عن زيارة سيقوم بها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبيروت، لكن هذه الزيارة لم تحصل.
واللافت أن زيارات المسؤولين اللبنانيين إلى سوريا لم تواجه برفض أو تحفظ سوري، لكنها لم تقابل بأي خطوة مقابلة. هذا الصمت السوري يفسره البعض بأنه جزء من سياسة خارجية جديدة تعتمدها دمشق في عهد الرئيس الشرع، تقوم على إعادة رسم الأولويات وتفادي الغوص في الساحات المتفجرة، وعلى رأسها لبنان. فالدولة السورية الجديدة، الخارجة من رماد الحرب، لا تريد تكرار أخطاء الماضي، ولا الدخول في وحول الاصطفاف اللبناني الذي أطاح بمحاولات سابقة لبناء علاقات ندية.
وبالنسبة إلى جزء كبير من اللبنانيين، بخاصة أولئك الذين لا يزالون يحملون النظام السوري مسؤولية عقود من الوصاية والهيمنة، فإن هذا الغياب قد يكون مريحاً، بل مرحب به. لكن في المقابل، فإن فئة واسعة من النخب السياسية وحتى الشارع العام، ترى في غياب التواصل السوري - اللبناني علامة استفهام، خصوصاً في ظل أزمات مشتركة تمس البلدين، كملف النازحين، والتبادل التجاري، وأمن الحدود.
لبنان ساحة "غير ناضجة"
في نظر القيادة السورية الجديدة، ربما لا يزال لبنان ساحة "غير ناضجة" لاستقبال انفتاح رسمي سوري، في ظل بقاء القرار السياسي ممسوكاً من "حزب الله"، والذي لا ينسجم بالضرورة مع توجهات الشرع الإقليمية الجديدة. كما أن الانقسام الداخلي الحاد في لبنان يجعل أي زيارة سورية مثاراً للجدل الداخلي، وقد تستخدم ضد دمشق بدلاً من أن تخدم إعادة ترميم العلاقة.
غياب الزيارات السورية الرفيعة إلى لبنان
ومنذ تسلم الرئيس السوري أحمد الشرع مقاليد الحكم بعد سقوط نظام الأسد، لوحظ غياب تام لأي زيارات رسمية رفيعة المستوى من الجانب السوري إلى لبنان. هذا الغياب لم يكن صدفة أو نتيجة إهمال دبلوماسي، بل يعكس جملة من التحولات السياسية العميقة، ويعبر عن إعادة تموضع استراتيجية لسوريا الجديدة في تعاطيها مع لبنان، بعد عقود من الهيمنة والتدخل المباشر. وكان ارتبط النظام السابق بقيادة الأسد، في الذاكرة اللبنانية، الشعبية والرسمية، بالوصاية، والقمع، والاغتيالات السياسية، وحقبة الاحتلال المقنع الذي انتهى رسمياً عام 2005. ومن هذا المنطلق، فإن أي زيارة لمسؤول سوري رفيع إلى لبنان من دون إعادة صياغة العلاقة بصورة جذرية، قد تقرأ كاستمرار للإرث السابق. كما يحاول الشرع تقديم نفسه كقائد "ما بعد البعث"، أي زعيم لسوريا جديدة تتجه نحو الشرعية الدولية، وإعادة التوازن الإقليمي، بعيداً من سياسات التدخل المباشر. ومن هنا، فإن الامتناع عن إرسال وفود رفيعة إلى لبنان هو في ذاته موقف رمزي يؤكد نية القطيعة مع مرحلة النفوذ الاستتباعي.
الحذر من النفوذ الإيراني - "حزب الله"
ومن وجهة نظر دمشق الجديدة فإن لبنان اليوم، ليس كما كان قبل عقد أو عقدين. فـ"حزب الله"، الذي كان حليفاً للنظام السوري، هو في نظر شرائح عديدة من السوريين، شريك مباشر في قمع الثورة السورية وتكريس الهيمنة الإيرانية، وحارس لمرحلة الأسد. وبما أن سوريا، في عهد الشرع تسعى إلى إعادة تشكيل علاقاتها الإقليمية على أسس أكثر توازناً، وقد بدأت خطواتها نحو محور دولي - عربي جديد، فإن ذلك الانفتاح على لبنان وتحت "شروط حزب الله" قد يجعل هذه الخطوة غير محبذة أو سلبية.
الانقسام اللبناني وفقدان الشريك الرسمي
وفي حال لبنان الذي يعاني شللاً سياسياً ومؤسساتياً وانقساماً حاداً بين قوى تابعة لمحور إيران، وأخرى أقرب إلى المحور العربي والغربي، والوضع الاقتصادي المنهار، والانفلات الأمني النسبي، وضعف الدولة، وانشغال لبنان بأزماته الداخلية، وغياب الموقف الرسمي الموحد، كلها عوامل تجعل من بيروت وجهة غير محفزة دبلوماسياً. في المقابل، تسعى دمشق حالياً إلى تحسين علاقاتها مع الدول العربية، وأوروبا، وربما مستقبلاً مع الولايات المتحدة. بالتالي فإن الأولوية الآن ليست للبنان، بل لإعادة سوريا إلى الخريطة الدولية كدولة ذات سيادة ومنفتحة. من هنا فإن أي زيارة لمسؤول سوري إلى لبنان لا تكتسب جدوى دبلوماسية حقيقية، بل قد تستغل سياسياً من قبل فريق من دون آخر. وعلى الأرجح تفضل دمشق الجديدة، انتظار لحظة أكثر استقراراً، تسمح بإطلاق مسار سياسي واضح للعلاقات الثنائية، بدلاً من الوقوع في فخ الاصطفاف الداخلي اللبناني.
تنسيق غير معلن بدلاً من اللقاءات العلنية
لكن غياب الزيارات لا يعني انقطاعاً كاملاً في التنسيق، ومن المرجح أن تكون هناك قنوات خلفية بين بيروت ودمشق، خصوصاً في ما يتعلق بأمن الحدود، وملف اللاجئين، وبعض القضايا الاقتصادية، لكن هذه القنوات تبقى غير رسمية، ومقصودة لتفادي الإحراجات أو التأويلات السياسية، خصوصاً أن سوريا لا تزال تحاول التخلص من "موروث الدولة البوليسية" في علاقتها بجيرانها.
ومرت العلاقات السورية - اللبنانية خلال العقود الماضية بمحطات متقلبة، فكيف تطورت العلاقات الثنائية بين البلدين؟ وما هي الهنات التي شابت تلك العلاقات عبر مراحلها المختلفة؟
من التدخل إلى القطيعة... تطور العلاقات اللبنانية - السورية في ضوء التحولات الإقليمية وسقوط نظام الأسد
شكلت العلاقة بين لبنان وسوريا أحد أبرز محاور التداخل السياسي والأمني في المشرق العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، وشهدت تقلبات حادة على مدى العقود الخمسة الماضية، تدرجت من التدخل العسكري المباشر إلى الهيمنة السياسية، ثم إلى الانسحاب القسري، وأخيراً إلى نوع من القطيعة الهادئة منذ سقوط نظام الأسد. وما ميز هذه العلاقة لم يكن فقط قرب الجغرافيا، بل تشابك المصير السياسي، وصراع الإرادات الإقليمية والدولية على أرض لبنان. ومثلت الحرب الأهلية اللبنانية مدخلاً للتدخل السوري، ثم تحول هذا التدخل إلى وصاية وهيمنة أمنية - سياسية استمرت حتى عام 2005. ومع اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية، دخلت العلاقة مرحلة جديدة من التوتر والتباعد، وشد الحبال، تفاقمت مع الثورة السورية عام 2011. أما في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد وصعود رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع، فقد دخلت العلاقة حالاً من "الانفصال الصامت"، في انعكاس لرغبة دمشق الجديدة في بناء سياسة إقليمية مغايرة، وامتناعها، حتى اللحظة، عن أي تواصل رسمي رفيع مع بيروت.
تطور العلاقات اللبنانية - السورية من التدخل إلى الانفصال
التدخل في الحرب اللبنانية عام 1976
في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، دخل الجيش السوري الأراضي اللبنانية عام 1976 تحت غطاء "قوات الردع العربية"، بموافقة ضمنية عربية ودولية، وبدعوة من الرئيس اللبناني آنذاك إلياس سركيس لضبط النزاع بين الفصائل المتقاتلة. لكن ما بدأ كتدخل موقت تحول تدريجاً إلى وجود عسكري كثيف وهيمنة استخباراتية، وغير النظام السوري تموضعه مرات عدة بين الفصائل اللبنانية، بحسب مقتضيات النفوذ الإقليمي. وعمدت دمشق إلى تعديل تحالفاتها وفق معادلات الصراع الداخلي والخارجي، وفرضت معادلة "اللعب من فوق" في إدارة النزاع اللبناني، مما مكنها من إحكام قبضتها على القرار السياسي اللبناني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرحلة الاحتلال المقنع والوصاية السياسية (1989-2005)
مع نهاية الحرب اللبنانية وتوقيع اتفاق "الطائف" عام 1989، عززت سوريا من وجودها السياسي والأمني في لبنان تحت عنوان "رعاية السلم الأهلي" ووجود جيشها كـ"ضامن للاستقرار"، غير أن الواقع العملي كرس هيمنة شاملة على المؤسسات اللبنانية. وبات "تعيين" رؤساء الجمهورية والحكومات يتم بالتنسيق مع الاستخبارات السورية، وكان الرئيس اللبناني لا ينتخب من دون موافقة دمشق، والحكومات كانت تشكل بتوازنات تفرضها عنجر أي مقر الحاكم العسكري السوري في البقاع (شرق). وتحول لبنان إلى ساحة تابعة لنفوذ دمشق، واستخدمتها في صراعاتها الإقليمية والدولية، لا سيما في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. وعليه، أصبح لبنان فعلياً ملحقاً بالقرار السياسي في دمشق، وتم إرساء منظومة أمنية مشتركة بين الاستخبارات السورية وبعض الأجهزة اللبنانية.
بلغت هذه الهيمنة ذروتها مع التجديد القسري لرئيس الجمهورية السابق إميل لحود عام 2004، في تحدٍّ واضح للإرادة الدولية والمحلية.
الخروج القسري بعد اغتيال رفيق الحريري (2005)
شكل اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005، نقطة تحول مفصلية. وانطلقت انتفاضة الاستقلال الثاني، المعروفة بـ"ثورة الأرز"، ورفعت شعار "خروج الجيش السوري"، وأمام الضغط الشعبي اللبناني، وقرار مجلس الأمن 1559، والضغط الدولي بقيادة فرنسا والولايات المتحدة، اضطرت سوريا إلى سحب قواتها، بالكامل، من لبنان في أبريل (نيسان) 2005، منهية بذلك حقبة استمرت 29 عاماً من الوجود العسكري والاستخباراتي المباشر.
لكن دمشق حافظت على أدوات نفوذها غير المباشرة عبر حلفائها اللبنانيين، وعلى رأسهم "حزب الله".
القطيعة مع بدايات الثورة السورية عام 2011
مع اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) عام 2011، اتخذ معظم القوى السياسية اللبنانية مواقف متباينة، بعضها دعم النظام السوري، وعلى رأسها "حزب الله" وحلفاؤه، بينما ساندت قوى "14 آذار" (المعارضة للنظام السوري آنذاك) الحراك الشعبي. ودخلت العلاقة الرسمية بين بيروت ودمشق، مرحلة شلل، باستثناء التنسيق الأمني والملفات التقنية، مثل ملف اللاجئين، لكن تدخل "حزب الله" العسكري في سوريا لمصلحة النظام أعاد تشكيل العلاقة، ليس بين الدولتين، بل بين الحزب والنظام السوري، مما رسخ واقعاً أن العلاقة لم تعد تمر عبر المؤسسات الرسمية اللبنانية.
سقوط نظام الأسد وصعود دولة سورية جديدة ما بعد عام 2023
مع انهيار نظام الأسد وانسحاب إيران التدريجي وصعود قيادة سورية جديدة بقيادة رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع، تغيرت بوصلة العلاقة. فدمشق الجديدة لم تعد ترى في لبنان "ساحة نفوذ"، بل بلداً مأزوماً غارقاً في انقساماته، وهي تحاول بناء سياسة خارجية مختلفة، تتفادى منطق السيطرة وتراهن على الشراكة الدولية لا الولاءات الميليشياوية. ومن هنا، بدأ الفراغ يتوسع، لا تدخل، ولا زيارات، ولا بيانات حادة أو تواصل علني، فقط صمت ثقيل يدل على نهاية مرحلة، وبداية أخرى ما زالت ملامحها تتشكل.
الأمور لم تنضج بعد
يشير الباحث والمحلل السياسي نضال السبع إلى أن "عدم قيام أي مسؤول سوري بعد سقوط النظام السابق، بزيارة لبنان، مرده أولاً إلى أن نظام الحكم الجديد في سوريا لم يستقر حتى اللحظة. والأمر الثاني هو أن هناك إشكالات تعترض العلاقة اللبنانية – السورية، ذلك أن النظام الحالي بعد سقوط نظام الأسد، أرسل، عبر القطريين، بأن هناك مساجين سوريين في السجون اللبنانية، فكان من المفترض أن يبادر لبنان للإفراج عن المساجين السوريين، وهذا لم يحدث"، ويتابع السبع أنه وفقاً لمعلوماته الخاصة، "كان هناك حديث مع الرئيس ميقاتي (نجيب ميقاتي رئيس الحكومة السابق)، وكانت هناك وعود على أساس حل هذه الإشكالية".
يضيف السبع أن النقطة الأبرز هي التوترات التي تحصل على الحدود، حيث حصلت توترات أمنية وعسكرية في منطقة البقاع بين الجيش السوري و"حزب الله، والقرى الشيعية، "فهناك جملة من العقبات التي تعترض هذه العلاقة، على رغم أن الجانب السعودي يعمل جاهداً على تذليل هذه العقبات، وللتذكير أن السعودية استضافت قمة جمعت وزيري دفاع البلدين، السوري مرهف أبو قصرة واللبناني ميشال منسى، في محاولة لوضع البلدين في دائرة التنسيق الأمني. وبكل الأحوال، في نهاية المطاف، سيكون هناك تقارب وعلاقات وانفتاح، ولكن ربما الأمور، حتى هذه اللحظة، لم تنضج بعد ما يعوق العلاقة بين البلدين. أضف إلى ذلك أن هناك مشكلات حدودية أيضاً تعترض هذه العلاقة، ولكن مما لا شك فيه أن البلدين تجمعهما مصلحة مشتركة لتسوية كل المشكلات السابقة، والبدء بفتح صفحة جديدة، وهذا ما يقوله التاريخ والجغرافيا اللذان يجمعان لبنان وسوريا".
أزمة متفجرة
والعلاقة بين لبنان وسوريا الجارين قد تنزلق نحو أزمة متفجرة فتيلها ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية. فبحسب تقرير نشره "تلفزيون سوريا" اليوم الجمعة، أبلغ الرئيس السوري أحمد الشرع وفد دار الفتوى اللبناني برئاسة المفتي عبداللطيف دريان، الذي زار دمشق السبت الماضي، بأن "التجاهل المتكرر من بيروت لهذا الملف الإنساني لم يعد مقبولاً"، وهو ملف يطاول أكثر من ألفي سوري في السجون اللبنانية.
وبحسب التقرير، قرر الشرع إيفاد وزير خارجيته أسعد شيباني إلى بيروت في الأيام المقبلة لبحث هذا الملف تحديداً والذي وضعه الرئيس السوري في صدارة الملفات العالقة بين البلدين. وأفاد "تلفزيون سوريا" بأن دمشق مستعدة لاتخاذ خطوات تصعيدية اقتصادية وسياسية ودبلوماسية للضغط على لبنان في هذا الملف، بما يشمل فرض قيود على حركة الشاحنات اللبنانية العابرة للأراضي السورية وتجميد بعض القنوات الأمنية بين البلدين وصولاً إلى إغلاق المعابر البرية وإعادة النظر في التعاون الأمني الحدودي المشترك.
غير أن قناة "الإخبارية" السورية نقلت عن مصدر في وزارة الإعلام السورية نفيه نية الحكومة السورية باتخاذ إجراءات تصعيدية تجاه لبنان، مؤكداً أن دمشق تعمل على حل ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية بأسرع وقت من خلال القنوات الرسمية بين البلدين.
القيادة السورية الجديدة مشغولة بلملمة الوضع الداخلي
في حين، يقول الكاتب والمحلل السياسي يوسف دياب "إن لبنان لم يتأخر في التواصل مع القيادة السورية الجديدة، إذ زار رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، دمشق، بعد أسابيع قليلة من تعيين رئيس لسوريا، ومن ثم جاءت زيارة وليد جنبلاط، وتوجت الزيارات بزيارة رئيس الحكومة نواف سلام". ويشرح دياب "عدم زيارة وفد سوري لبنان يعود لانشغال القيادة السورية الجديدة، بلملمة الوضع الداخلي السوري. ومما لا شك فيه أن القيادات السورية الجديدة كانت لها زيارات عربية ودولية، ولكن هذا مرتبط بمحاولة دعم سوريا في هذه المرحلة الجديدة".
يتابع المحلل السياسي دياب "الدول الخليجية التي زارها كل من رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع ووزيري الخارجية والدفاع، تعود لأنهم في حاجة إلى دعم هذه الدول مادياً وسياسياً، ذلك أن الدولة السورية في مرحلة تكوين جديدة، وانطلاقاً من هذه الاعتبارات، أتت تلك الزيارات". ويشير دياب إلى أن "مفتي الجمهورية كشف عن أن وزير الخارجية السوري سيزور بيروت ليلتقي رئيس الحكومة وربما يلتقي رئيس الجمهورية (جوزاف عون) وقيادات أخرى. ومما لا شك فيه أن سوريا واضحة في معاملتها للبنان بمعيار الندية، بخلاف ما كان عليه نظام بشار، وهذا مؤشر إلى أن العلاقات ستكون بأفضل حالاتها في المرحلة المقبلة، ذلك أن البلدين معنيين بالاهتمام بوضعهما الداخلي، على أن تكون علاقاتهما مبنية على أساس الاحترام والندية المتبادلة، بخاصة أنهما في حاجة إلى تعاون أمني كبير في ما خص ملف الحدود والنازحين السوريين".
لا قطيعة… لكن لا شراكة
في المحصلة، تحولت العلاقة اللبنانية - السورية من علاقة تبعية وهيمنة، إلى انسحاب قسري، وترتيب واعٍ للأمور في عهد الدولة السورية الجديدة. فلبنان لم يعد جزءاً من مشروع سوري خارجي، وسوريا لم تعد ترى في لبنان واجهتها الإقليمية، لكن الفراغ الذي خلفه هذا التحول لم يملأ بعد، مما يجعل مستقبل العلاقة مفتوحاً على احتمالات جديدة تتجاوز الماضي بكل تناقضاته. كما تحولت العلاقة إلى تنسيق محدود خلف الكواليس في ملفات تقنية كأمن الحدود واللاجئين، غير أن الطابع السياسي والدبلوماسي للعلاقة يبقى معلقاً، في انتظار تحولات أوسع في المشهد اللبناني الداخلي وربما في طبيعة النظام السياسي نفسه.
ولا يمكن قراءة غياب المسؤولين السوريين عن بيروت منذ سقوط نظام الأسد إلا كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تعريف الدور السوري في المنطقة. فسوريا اليوم ليست سوريا ما قبل 2011، ولا تريد العودة إلى الوراء. إنها مرحلة انتقالية في العلاقة، لا عداء معلناً، ولا تطبيع سياسياً، بل صمت دبلوماسي قد يتحول إلى حوار، حين تنضج الشروط من الجانبين. وهو قرار سياسي مدروس، يعكس توجهاً نحو إعادة تعريف العلاقة اللبنانية - السورية خارج منطق الوصاية أو الإملاء. إنه صمت دبلوماسي يحوي في داخله خطاباً واضحاً، سوريا ما بعد الأسد لا تريد تكرار أخطاء الماضي، وتنتظر من لبنان أولاً أن يحدد موقعه الجديد، قبل أن تبادر دمشق إلى رسم خط تواصل جديد معه. لكن لبنان، الغارق في أزماته البنيوية، قد لا يشكل أولوية حيوية للقيادة السورية الجديدة، لا سيما في ظل استمرار هيمنة "حزب الله" ووجوه الممانعة القديمة على مفاصل الدولة.