ملخص
بعد 22 عاماً من ديو "العام الجديد"، يعود فضل شاكر وشيرين عبدالوهاب بلقاء فني بعنوان "حدوتة"، يجمع منفياً من المسرح إلى المخيم، وامرأة لاجئة من قلبها إلى نفسها. صوتان يعرفهما الجمهور في القمة، يعودان يتكئان على بعضهما في لحظة هشاشة نادرة. فهل تكون "حدوتة" محاولة إنقاذ، أم ضربة تسويق غير مقصودة؟ وهل يصبح الألم أفضل مدير أعمال في زمن الـ"ترند"؟
في مسلسل "يا غايب" الذي عرض على منصة "شاهد"، يبدأ الفنان اللبناني، الذي اشتهر بلقب "ملك الإحساس والرومانسية"، فضل شاكر الحلقة الأولى بأغنية فيروز "قديش كان في ناس"، بمقطع معبر وبطريقة مؤثرة جداً "صرلي شي 100 سنة مشلوحة بهالدكان ضجرت مني الحيطان".
أرادها فضل ربما صرخة ليعبر عن اختباء طال أمده منذ عام 2013 بين جدران وأزقة مخيم "عين الحلوة" للاجئين الفلسطينيين في صيدا جنوب لبنان، حيث صدح صوت الفنان على سطوحه منذ عمر 15 سنة.
عودة "الغايب"
بعدها شق صوت فضل طريقه ليكون مرآة سمعية للقلوب المجروحة. صوت شجي بشعور صافٍ نظيف، لم يطلقه برنامج اكتشاف المواهب، ولم يمسك بيده مدير أعمال في بداياته، فرض ذاته بموهبته المشبعة بآلام الطفولة وأغاني الكبار بشجن لا يوصف. من قلب الألم صوت وشعور لم يُعكَّر صفوهما حتى عام 2011، فأتت مناصرته لـ"الثورة السورية" على ماضيه الفني.
ففي ما يشبه سيناريو درامي حاد الالتفافات، تحول فضل إلى شخصية جدلية تتأرجح بين الفن والتكفير وبين المسارح والمخيم وبين الحب والبندقية، إذا صح التعبير. فأعلن في عزّ نجاحه اعتزاله فجأة، ضارباً بماضيه المشرق فنياً عرض الحائط. وقبلها بفترة كان فضل حمل مسطرة المطاوع، وبدأ يطلق الأحكام والتصنيفات على زملائه الفنانين. ثم ظهر بلحية طويلة وخطاب ديني متطرف، مهاجماً الفن والفنانين، واصفاً ماضيه الفني بأنه طريق الضلال، مما شكّل صدمة لدى زملائه وجمهوره.
تهديد مباشر على الهواء بالقتل
عندما تحول الفنان إلى أخ مجاهد وحاج منشد، بات فضل الذي أراد نزع لقب الفنان عنه، يهدد على الهواء مباشرة بالقتل، مدججاً بفتوى شيخه أحمد الأسير، كما كان يسميه، وتوارى عن الأنظار بعد الاشتباكات التي شهدتها مدينة عبرا جنوب لبنان عام 2013 بين أنصار الأسير والجيش اللبناني، مما أدى إلى سقوط العشرات بين قتلى وجرحى من الطرفين.
وعلى رغم الفيديو الشهير الذي ظهر فيه يحمل السلاح، سقطة فضل القاضية، إذ يقول عمن قتلوا "فطيستين وخنازير"، فإن مشاركته المباشرة في أحداث عبرا لم تثبت، بحسب ما أكدت المحكمة العسكرية اللبنانية عام 2018. وفسر الفيديو حينها أنه يقصد به عناصر الجيش اللبناني الذين قتلوا، مما قلب طاولة وطنية كاملة على رأس فضل. ثم أتى التوضيح بأن المقصود كان عناصر من "حزب الله" سرقوا حينها منزله وحرقوه، كما قيل، مما خفف، ولكن على نحو طفيف جداً حنق الناس تجاهه.
أعوام من الغياب والتواري
بعد أعوام من الغياب والتواري، واتهامات أمنية على خلفية أحداث عبرا وما رافقها، عاد صوت فضل شاكر للساحة، وبدا نادماً تارة، ومتردداً تارة أخرى، يغني من خلف الجدران، وينشر أعماله عبر الإنترنت، وكأنه يحاول أن يمسك بخيوط ماضيه الجميل قبل أن تنقطع تماماً، معلناً عن استعداده المثول أمام القضاء للدفاع عن نفسه وتسوية ملفاته العالقة بعد إصدار أحكام غيابية في حقه.
وكان أصدر سبع أغنيات منذ عام 2018 بدأت بأغنية "ليه الجرح" التي وصلت إلى أكثر من 5 ملايين مشاهدة، آخرها كان هذا العام "كيفك ع فراقي" مع ابنه محمد ووصلت خلال أيام إلى أكثر من 16 مليون مشاهدة على منصة "يوتيوب".
وعبرت الأغاني طريقها إلى آذان جمهوره، فاستقبلها بعضهم باشتياق وشغف، واستنكر بعضهم الآخر، رابطاً شخصية الفنان بما صدر عنه من تطرف وتورطه بدماء عسكريين في الجيش اللبناني، كما يقولون.
المغنية على أنقاضها
على المقلب الآخر حياة شيرين عبدالوهاب التي لا تحتاج إلى أن يكشف عنها النقاب، إذ يكفي أن ترصد أغنياتها وتصريحاتها وانهياراتها، لتنتج مسلسلاً درامياً تتسابق فيه البطولات مع الانكسارات. بصوتها الاستثنائي بدأت مشوارها حاملة بين طياته طبقات من الإحساس الشعبي المصري الأصيل.
لكنها قررت عن سابق حب أن تحيا حياتها الخاصة على المكشوف. فكانت ألبوماً مفتوحاً، كل أغنية فيه تجر "مانشيت" صحافياً، وكل حفلة تستنبط إشاعة، وكل دمعة أو كلمة تمطر عليها التحاليل النفسية والاجتماعي وحتى السياسية. بعفويتها، سقطت شيرين ووقفت، ثم سقطت مجدداً، ووقفت من جديد، ثم تهاوت أمام الكاميرات.
زواجها الثالث من الفنان حسام حبيب أودى بها مراراً، وكانت تعود بعد كل طلاق منه لتدخل قصة حب معه. ودخلت مستشفى للعلاج النفسي، ثم خرجت تعلن الحب بعده، ثم دخلت معه زواجاً جديداً، وخرجت منه بصخب إعلامي أعلى صوتاً من حفلاتها الكبرى. وكانت تهدي نفسها وقصصها للناس تارة، وتهرب منهم طوراً. وبعد كل عاصفة، يبقى صوتها الناجي الوحيد، وكأن حبالها الصوتية أكثر تماسكاً من حبال حياتها التي تنقلت بينها.
شيرين الممتلئة بالفن والخذلان والعناد، لا تحتاج أغانيها إلى تسويق، فكل أزمة تمر بها تصبح مادة للـ"ترند"، وكل دمعة تذرفها تتحول إلى لحن يلامس الملايين، وكأنها تضرب بخطط التسويق عرض الحائط، وتثبت أن أغنياتها تولد من فوضى المشاعر، ولا تحتاج إلى هندسة العلاقات العامة، يكفي أن تعجن وجعها وتطعم خبز فنها لجمهورها.
"حدوتة" مشتركة
بعنوان "حدوتة" يلتقي منفي المخيم ورهينة العاطفة فضل وشيرين، بعد 22 عاماً من "ديو" جمعهما معاً بعنوان "العام الجديد"، وكأن القدر جمع اثنين لم يكُن ينقص قصتهما سوى عنوان مشترك. بطولة فنانين كلاهما ذاق طعم النجومية والخذلان. فضل الذي اختبأ خلف بندقية، وشيرين التي اختبأت خلف دمعة. هو الذي صعد من المخيم إلى القمة، ثم سقط نحو المنفى في المخيم أيضاً، وهي التي صعدت من الحارة إلى المجد ثم انزلقت في هوة ذاتها وأحكام الناس. وكأن ما جمعهما اليوم ليس كلاماً ولحناً وغناءً، إنما طريقة للتشافي ونوع من التكفير الفني، أو ربما محاولة إنقاذ عبر الصوت، أو فصل جديد يكتبه اثنان نجا كل منهما من حروبه الخاصة، شيرين من قسوة الضوء، وفضل من ظلمة الاختفاء!
في المخيم التقت شيرين للمرة الثانية بفضل لتولد "حدوتهما"، في إشارة إلى عنوان أغنية يعملان عليها، ولا يهم حقاً إن كانت احتاجت شيرين إلى تصريح أمني للدخول كما قيل وإنها كانت منعت من الدخول في البداية، المهم ما سيؤول إليه هذا اللقاء الذي تم فعلاً وتحدثت عنه وسائل الإعلام. وكشف نجله محمد فضل شاكر عن أن الأغنية من كلمات وألحان جمانة جمال، وتوزيع حسام صعبي.
"حدوتة" فضل وشيرين لا تحتاج إلى حملة إعلانية وكلف للترويج. فالصوتان اللذان عرفهما الجمهور في القمة عادا اليوم يتعكزان على بعضهما بعضاً لتصدر أغنية ينتظرها الناس، ويُخشى ألا تكون بالقدر الكافي من الآمال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أغنية بتسويق مختلف
صدور "حدوتة" في مثل هذه الظروف يبدو أنه لا يحتاج إلى خطة تسويقية ضخمة. فالقصة نفسها تجذب الانتباه، مما يطرح تساؤلاً عما إذا كان هذا اللقاء الفني بريئاً من الحسابات؟ وهل تكون الأزمات الشخصية والفوضى الإعلامية جزءاً من استراتيجية ترويجية لا واعية، تُغني ربما عن الحملات المدفوعة، وتضمن وصول الأغنية إلى الجمهور المتعطش للدراما قبل الفن؟ بخاصة في زمن الـ"ترند"، إذ تقاس قيمة الأغنية بعدد المشاهدات أكثر من قيمتها الفنية ويبدو أن التعافي من الأزمات لم يعُد شرطاً للعودة للفن، فالأزمات نفسها هي بوابة العودة الواسعة. فكل مشكلة هي بمثابة تسويق أو دعاية مجانية للعمل التالي.
وهذا يلامس جوهر العلاقة بين الفن والسياق، فهل يصنع الظرف القاسي شهرة أكبر للأغنية، أم يعوّق انتشارها؟ في حالة شيرين وفضل شاكر، يعطي الـ"ديو" المنتظر بينهما آخر يوليو (تموز) الجاري والذي يقال إنه سجل وربما صوّر من داخل مخيم "عين الحلوة"، العمل بعداً آخر، فيتحول من أغنية إلى عمل فني مشحون برمزية الحب والغياب والخوف وربما التمرد.
الأزمة حملة ترويجية
الظروف الاستثنائية وغير العادية التي قد تكون في تقييد حرية ما تؤثر بصورة كبيرة في انتشار الأغنية، ولكن ليس بالضرورة بطريقة سلبية، إذ إن العوامل التي تسهم في الانتشار يمكن تلخيصها بالظروف المثيرة للفضول التي تولد اهتماماً جماهيرياً وإعلامياً، إضافة إلى البعد العاطفي أو السياسي الذي يمنح الأغنية عمقاً آخر يتجاوز الكلام واللحن. وقد يساعد المنع أو الحظر في تحويل العمل إلى أيقونة، أو نص مسروق من قلب السجن.
لكنها في الوقت ذاته قد تحد من فرص العرض الإعلامي التقليدي على شاشات التلفزة. كما قد يكون الدعم الإعلامي من شركات الإنتاج الكبرى صعباً، إضافة إلى صعوبة إقامة حفلات ترويجية مباشرة.
منفى درويش وسجن الثنائي إمام ونجم
من الأمثلة لأغنيات أخذت ضجتها ولمع بريقها بسبب ظروفها من دون الحاجة إلى تسويقها التقليدي، أغنية "جواز السفر" عام 1983 لمرسيل خليفة من قصائد محمود درويش الذي كتبها وهو ممنوع من العودة لفلسطين، وأصبحت بمثابة نشيد عربي عن المنفى الفلسطيني.
وكذلك فإن أعمال أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام اللذين سجلا أغاني من داخل السجون في مصر التي دخلاها بسبب الأغاني التي انتقدت السلطة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مثل "غيفارا مات" و"بوتيكات"... وخرجا بأغنيات من السجن كانت سمة للمقاومة في عصرهما مثل "شيد قصورك"، وانتشرت أكثر عبر الكاسيتات المهربة لأن السلطات كانت تلاحقها.
ولا بد من الإشارة إلى أغاني الراب الفلسطيني، بخاصة الآتية من قطاع غزة مثل MC Gaza الذين على رغم الحرب والحصار والفقر، يستخدمون غرف نومهم كاستوديوهات، وتصل أغانيهم إلى ملايين المستمعين.
سلام لينون وحرية توباك
عام 1969 كتب المغني والمؤلف البريطاني جون لينون "Give Peace a Chance" وسط أجواء سياسية مشحونة بالحرب في فيتنام ورافقتها حركات اليسار الطلابي حول العالم. وكانت بمثابة بيان غنائي صريح مناهض للحرب، وتحولت إلى نشيد عالمي للسلام، ردد في الشوارع والجامعات والساحات.
وسجلت الأغنية مباشرة من غرفة الفندق الذي اعتصم به لينون مع زوجته، وبمشاركة جمهور من النشطاء والصحافيين والضيوف. وعلى رغم بساطة اللحن والتسجيل، انتشرت بصورة نارية بين الطلاب والمتظاهرين في الولايات المتحدة وأوروبا.
ووصل عام 1995 ألبوم المغني الأميركي توباك شاكور 2Pac إلى المركز الأول على Billboard وهو وراء قضبان السجن، بعد صدور حكم ضده في قضية اعتداء جنسي قال إنه ظلم بها لأنه أسود وجريء. وكانت الأغنية التي صدرت بظروف استثنائية هي عنوان الألبوم Me against the world. وتعد نشيداً ضد الظلم، وأصبحت لاحقاً شعاراً لجيل كامل، وباعت أكثر من مليوني نسخة، ونال الفنان عنها جائزة أفضل ألبوم راب، واعتبرت تمثيلاً حقيقياً لغضب الشارع الأميركي الأسود.
بالموت أو الانفصال!
أغنيات أخرى أطلقت بسرعة الصاروخ وانتشرت من دون جهد تسويقي حقيقي، فالحدث مهما اختلف نوعه كان الحملة الترويجية التي حملتها إلى آذان وقلوب الناس.
عام 2003 عندما قتلت الفنانة التونسية ذكرى على يد زوجها، كانت أصدرت ألبومها الأخير "يوم ليك" قبل أيام وكان في طور الترويج. وهذا الألبوم انتشر ونجح بصورة استثنائية بعد مقتلها المفاجئ والصادم، فقامت وفاتها بدور في تضخيم صدى الألبوم وانتشاره العاطفي والإعلامي.
وتحولت الأغاني إلى رسائل وداع غير مقصودة، وأعاد الجمهور تفسير كلماتها في ضوء موتها. وحظي الألبوم بتغطية إعلامية مكثفة، وخصصت وسائل الإعلام تغطيات طويلة عن سيرتها، وانتشرت الأغاني في الإذاعات والقنوات على نحو مضاعف. فالموت جعل من الألبوم وثيقة فنية نهائية، أو الأثر الأخير لفنانة رحلت قبل أن تكتمل مسيرتها. وحقق الألبوم مبيعات هائلة في جميع أنحاء العالم العربي.
وربما تكون أغنية Someone like you للمغنية البريطانية أديل مثلاً في ما يخص ألم الحب الذي يهب جوائز انتشار غير متوقعة، فهي لم تصدر ضمن خطة تسويقية، لكن أديل كتبتها بعد انفصال عاطفي مؤلم وخذلان، بعد أن تزوج حبيبها الذي كانت تعتقد بأنها ستكمل حياتها معاً. وانتشرت الأغنية بصورة فيروسية فور ظهورها في حفل BRIT Awards عام 2011 لأن الجمهور شعر بألمها عندما بكت، وحطمت الأغنية الأرقام القياسية، واحتلت المرتبة الأولى في أكثر من 20 دولة.
الأزمة حاملة الأغنية
ولا ترافق كل الأغاني بقرار إنتاجي وخطة تسويقية مدروسة، فبعضها تولد كأن الحياة قررت أن تطلقها في لحظة ما، موجعة أو مشتعلة أو مشوشة أو مقيدة. ومن المحتمل أن تكون "حدوتة" فضل وشيرين نموذجاً حياً لأغنية يسوّق لها قبل صدورها بصورة لا واعية ربما.
وفي كل مرحلة عبرت الأغاني القارات ووصلت إلى مراكز لم تكُن لتصل إليها لو لم تحملها الأزمة أو الظرف المرافق لها. فالأزمة رافعة تسويقية لا تضاهيها أية خطة تسويقية مهما كلفت من أموال، ومهما ترافقت مع خطط مبدعة.
وهكذا من منفى درويش إلى سجن إمام ونجم وتوباك إلى دمعة أديل وغرفة لينون الفندقية ومخيم "عين الحلوة" وأنقاض روح فنانة مصر ودم ذكرى في يوم كان "عليها"، أغنيات كتبها الجرح وحملتها الأزمة بين ذراعيها، ونثرتها كمطر إعلاني. هكذا تصبح الأزمة هي الـ"مايسترو"، ويصبح التوقيت هو مدير الحملات الترويجية. وربما كلما ضاقت الدنيا على أصحاب الألم وصل صوتهم "وسع المدى".