ملخص
السلطات البريطانية فرضت لقرابة عامين حظراً قضائياً صارماً لمنع نشر قصة تسريب خطير عرّض حياة آلاف الأفغان والمتعاونين مع لندن للخطر، بحجة حماية الأمن القومي. لكن الكشف المتأخر عن القضية كشف أيضاً عن خلل كبير في آليات الرقابة على الدوائر الأمنية المغلقة، واستهانة غير مسبوقة بحق الجمهور في معرفة الحقيقة.
سبق أن فرضت علي أوامر قضائية صارمة ونجوت لأروي القصة الكاملة على طريقة الأديب فرانز كافكا (الكابوسية)، فتلك التجربة جعلتني أتعاطف مع "اندبندنت" وغيرها من وسائل الإعلام التي اضطرت على مدى عامين إلى التكتم على قصة لم ترد الدولة البريطانية أن تُروى.
تجربتي الخاصة مع الكتمان القسري تعلقت بشركة سيئة السمعة تدعى "ترافيغورا" ضبطت عام 2006 وهي تتخلص من نفايات كيماوية سامة قبالة سواحل غرب أفريقيا، وقد دفعت الشركة أكثر من 30 مليون جنيه إسترليني (40.2 مليون دولار أميركي) كتعويضات وكُلف قانونية لما يقارب 30 ألف شخص من سكان مدينة أبيدجان في ساحل العاج، قالوا إنهم تضرروا من تلك النفايات.
سعت "ترافيغورا" بكل إصرار إلى منع نشر نتائج تقرير داخلي كان من شأنه أن يسبب لها حرجاً بالغاً، فاستصدرت أمراً قضائياً يمنع صحيفة "ذا غارديان" البريطانية من نشره، ثم وللضمان استصدرت أمراً آخر يمنعنا حتى من الكشف عن وجود الأمر القضائي الأول.
أهلاً بكم في عالم الأوامر القضائية الصارمة التي كانت لفترة من الزمن توزع كما لو كانت قصاصات قانونية ملونة، وغالباً ما كان يلجأ إليها لاعبو كرة قدم منحرفون لإخفاء مغامراتهم خارج الملاعب، وقد شكلت قضية "ترافيغورا" تطبيقاً جديداً للقانون بهدف إسكات الصحافة الاستقصائية، في ما يبدو أنه يناقض المبدأ القضائي الوحيد الذي يعرفه معظم الناس وهو أن العدالة يجب أن تُرى وهي تتحقق.
ولم تتوقف "ترافيغورا" عند هذا الحد بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فعندما طرح نائب من حزب العمال سؤالاً في البرلمان البريطاني حول استخدامها لأمر قضائي صارم، حذر محاموها، وتحديداً الشركة سيئة السمعة "كارتر-راك"، الصحف من أن مجرد الإشارة إلى هذا التدخل البرلماني قد يعد ازدراء للمحكمة.
كان ذلك سخيفاً بصورة واضحة، فقد غابت عن محاميّ شركة "ترافيغورا" العدوانيين حقيقة أن هناك من يخاطر بحريته وحياته دفاعاً عن حقه في نقل ما يقوله ويفعله ممثلوه المنتخبون، ولم يكن مفاجئاً أن الأمر القضائي الصارم سرعان ما انهار كحلوى "سوفليه" غير ناضجة.
واليوم، وبعد مرور 16 عاماً نكتشف أن مجموعة صغيرة من المحامين والقضاة والسياسيين وموظفي الخدمة المدنية أمضت 683 يوماً في منع الصحافة من نشر قصة غير عادية تدور حول مسؤول مهمل في وزارة الدفاع البريطانية تسبب في خرق كارثي للبيانات عرض حياة آلاف الأفغان للخطر، وقد بدأت الحكاية في سبتمبر (أيلول) 2023،حين أصدر القاضي روبن نولز أمراً قضائياً بحظر نشر شامل "contra mundum" (يسري على جميع الأطراف داخل المملكة المتحدة وخارجها)،يمنع أي طرف من الكشف عن التسريب الذي تضمن أسماء أفغان تعاونوا مع القوات البريطانية في كابول، وقد باتوا عرضة الآن لانتقام محتمل من "طالبان"، وعلى رغم أن القاضي تحدث عن أهمية حرية التعبير بعبارات فاترة، فإنه رأى أن فرض الحظر الكامل ضروري لإتاحة الوقت لوزارة الدفاع لاحتواء الضرر.
لكن مع تزايد عدد الصحافيين الذين أصبحوا على علم بالقصة، انتقلت القضية إلى القاضي مارتن تشامبرلين الذي عقد جلسات استماع عدة معظمها خلف أبواب مغلقة، لتحديد مدة بقاء الأمر القضائي ساري المفعول، وفي مرحلة ما قبل نحو عام اعتبر أن الوقت قد حان لإنهائه، لكن محكمة الاستئناف رفضت قراره وألغته.
ولم يكشف الستار عن القضية إلا هذا الأسبوع حين سُمح لنا أخيراً بأن نعرف أن ما يصل إلى 18500 أفغاني قد نقلوا سراً إلى بريطانيا بكلفة تقدر بما بين 400 مليون و7 مليارات جنيه إسترليني، أي أننا لا نعرف الرقم الحقيقي، كما أن عملاء استخبارات بريطانيين وجنوداً من القوات الخاصة كانوا من بين عشرات الآلاف ممن عرضهم هذا التسريب الكارثي للخطر.
ما حسم الموقف بالنسبة إلى القاضي تشامبرلين كان تقريراً لتقييم الأخطار طلبته الحكومة الحالية من موظف مدني متقاعد يدعى بول ريمر، وقد تبنى ريمر رأياً مختلفاً تماماً في شأن استمرار التهديد، وقال تشامبرلين إن هذا التقييم قَوّض تماماً المبررات القانونية للإبقاء على أمر حظر النشر، وهكذا، في منتصف نهار الثلاثاء، كشف أخيراً عن حجم ما كان يجري، وهو أمر مذهل بكل المقاييس.
قد يرى بعضهم أن فرض حظر موقت على النشر في سبتمبر 2023 كان مبرراً لإتاحة الوقت للسلطات لتحذير المعرضين للخطر وإنقاذ أكبر عدد ممكن منهم، لكن السؤال إن كان من الصواب الإبقاء على الحظر كل هذه المدة؟
من الواضح أن القاضي تشامبرلين كان يعتقد أن رفعه قبل عام كان إجراء سليماً، فهل كان محقاً أم أن وزارة الدفاع كانت محقة في طلب مزيد من الوقت؟
أول ما ينبغي قوله هو أن الدولة (سواء من خلال الحكومة أو جهازها البيروقراطي) تلجأ دائماً في مثل هذه الحالات إلى المطالبة بمزيد من السرية، وستدّعي أنها تتصرف باسم "المصلحة الوطنية"، لكن التاريخ يظهر أن الحكومة القائمة في أي وقت لا يمكن الوثوق دائماً بحكمها في تحديد تلك المصلحة، ففي عام 1938 حاولت الحكومة البريطانية آنذاك استخدام "قانون الأسرار الرسمية" Official Secrets Act لإجبار النائب دانكن سانديز على الكشف عن مصدر معلوماته في شأن حال الدفاعات المضادة للطائرات في العاصمة لندن، واللافت أن سانديز أصبح لاحقاً وزيراً للدفاع.
يرى المؤرخون اليوم أن من عارضوا سياسة التهدئة خلال ثلاثينيات القرن الماضي [السياسة التي انتهجتها الحكومة البريطانية آنذاك لتجنب المواجهة مع ألمانيا النازية] كانوا على صواب، ففي ذلك الوقت هاجمت الحكومة المتساهلة المبلغين [الموظفين أو المسؤولين الذين كانوا يسربون معلومات سرية] الذين زودوا ونستون تشرشل [وكان حينها نائباً في البرلمان ومعارضاً للتهدئة] بمعلومات سرية حول مدى استعداد بريطانيا العسكري لخوض الحرب، وقد وصفت الحكومة هؤلاء المبلغين بأنهم "عناصر تخريبية"، وأعرب أحد وزراء الحرب (وهو الآن في طي النسيان) عن غضبه قائلاً إن "الضرر الذي لحق بالقوات يفوق بكثير أية فائدة قد تتحقق" [في إشارة إلى أن تسريب المعلومات يضر بالأمن القومي]، لكن ما تبين لاحقاً هو أنه كان مخطئاً، فتشرشل والمصادر التي كانت تزوده بالمعلومات كانا على حق.
وفي عام 1967 حاولت الحكومة منع صحيفة "صنداي تايمز"، برئاسة رئيس تحريرها آنذاك هارولد إيفانز، من نشر رواية دقيقة لقضية كيم فيلبي، العميل السابق في المخابرات البريطانية (أم آي 6) MI6 والذي كان يعمل كعميل مزدوج، وعندما فشل وزير الخارجية حينها جورج براون في إيقاف النشر، اتهم إيفانز علناً بالخيانة موجهاً الكلام له "أنتم تمنحون الروس أفضلية، بحق السماء توقفوا!"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وليست هذه النزعة حكراً على بريطانيا، ففي عام 2004 أقنع الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش صحيفة "نيويورك تايمز" بعدم نشر سلسلة مقالات تكشف عن أن "وكالة الأمن القومي الأميركية" كانت تتنصت على اتصالات الأميركيين من دون إذن قضائي، وقال بوش لرئيس التحرير "ستكون أيديكم ملوثة بالدماء"، فاستجاب الأخير وأوقف النشر.
لذا كان القاضي تشامبرلين محقاً في أن يبدي قدراً من الشك حيال ما كان يقدم له من ممثلي الدولة طوال هذه القضية التي استمرت عامين، فقد أشار بحق إلى أن حجم الأموال المحتملة (7 مليارات جنيه إسترليني) وعدد المهاجرين الذين جرى إجلاؤهم في ظروف طارئة، كلاهما قضيتان تستحقان نقاشاً سياسياً مشروعاً.
والأشد إثارة للقلق هو أن أعضاء "لجنة الاستخبارات والأمن" في البرلمان لم يبلغوا بالأمر، ففي يونيو (حزيران) 2024 اقترح قاض في "محكمة الاستئناف" السماح للجنة بالاطلاع على الملف، لكن المحامي الرئيس لوزارة الدفاع رفض الفكرة بازدراء.
وقال رئيس اللجنة اللورد بيميش إن قرار عدم إطلاع لجنته على القضية كان مروعاً، وهو محق، فهذه اللجنة هيئة قانونية مخولة بمراقبة عمل وكالات الاستخبارات البريطانية، بما فيها مقر الاتصالات الحكومية "جي سي إتش كيو" و "أم آي 6" و "أم آي 5"، أما إبلاغها بأن وزارة الدفاع لا تثق بها في ما يخص بعض المعلومات فهو أمر يثير الشكوك حول جدوى آلية الرقابة على أجهزة الدولة السرية بأكملها، والسؤال المطروح هو ما المعلومات الأخرى التي يعتقد عملاء الاستخبارات أنه لا يمكن الوثوق بها حتى أمام الجهات الرقابية؟
من المفارقات أن المؤسسات الإعلامية السبع، بما فيها "اندبندنت"، التي كانت سراً على علم بالموضوع عند صدور الأمر القضائي، تصرفت جميعها بصورة لا تشوبها شائبة ولم تدل بكلمة واحدة، إنه عالم مقلوب رأساً على عقب حيث يؤتمن فيه الصحافيون على معلومات جرى حجبها عن "لجنة الاستخبارات والأمن" البرلمانية.
أخيراً اللورد بيميش محق في غضبه، ولا شك في أن لجنته ستسعى إلى الحصول على إجابات لكنها ليست الجهة الوحيدة التي تطالب بذلك، إذ يجب أن تكون هناك محاسبة كاملة ما أمكن، وكما يقال "تموت الديمقراطية في الظلام".
© The Independent