ملخص
المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" إدوارد بيغبيدير يحذر في حديث إلى "اندبندنت عربية" من مجاعة وشيكة في غزة وأوضاع كارثية في السودان، مؤكداً أن الأطفال يواجهون الجوع والنزوح وفقدان التعليم والخدمات الأساسية. وأوضح أن إعادة بناء البنى التحتية هي الجزء السهل لكن التعافي النفسي للأطفال سيستغرق عقوداً، مشدداً على أن المساعدات وحدها لا تكفي من دون إعادة التجارة وحركة الاقتصاد وضمان وصول الإمدادات الإنسانية.
في قلب العالم العربي، تشهد البشرية أسوأ أزمتين إنسانيتين في العالم حالياً: غزة والسودان. في هذين المكانين، يموت الأطفال لأن بطونهم فرغت وعروقهم جفت وأجسادهم الضعيفة لم تعد تقوى على مقاومة الجوع. ولا تنتهي أزمات العالم العربي والشرق الأوسط في غزة والسودان، بل تمتد إلى لبنان وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من الدول، حيث تمتزج الصراعات المسلحة بأزمات سياسية واقتصادية تفاقم الأوضاع سوءاً. في القرن الـ21 عدنا لنسمع بمصطلحات المجاعة والموت بسبب سوء التغذية، في حروب يدفع ثمنها أولاً أطفال أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
للإضاءة أكثر على مآسي هذه الصراعات وتبعاتها، حاورت "اندبندنت عربية" السيد إدوارد بيغبيدير، المدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. البداية كانت طبعاً بقطاع غزة، حيث خرجت صور الأطفال بأجسادهم الهزيلة وعظامهم النافرة لتؤكد وقوع مجاعة بدأت مظاهرها تتكشف تحت وطأة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 22 شهراً، وفق ما أعلن المرصد العالمي للجوع. "نحن نواجه واحدة من أسوأ المآسي الإنسانية في الوقت الراهن"، يقول بيغبيدير عن غزة التي زارها في مارس (آذار) الماضي خلال فترة وقف إطلاق النار، موضحاً أن عامين من الحرب والحصار جعلا الأوضاع في القطاع "بالغة الصعوبة" على كل المستويات. ويضيف "الأمر لا يقتصر على الحرمان من التعليم أو الرعاية الصحية، بل هو حرمان كامل من كل الحقوق الأساسية. يمكننا أن نتخيل حجم الصدمة التي يعيشها أطفال فقدوا منازلهم وأصدقاءهم، واضطروا إلى النزوح مراراً، ويعيشون اليوم في الخوف والجوع".
المساعدات وحدها غير كافية
ينقل بيغبيدير عن بيانات وزارة الصحة التابعة لحركة "حماس" في غزة، أن أكثر من 18500 طفل قتلوا في حرب غزة حتى الآن، وأصيب أكثر من 45 ألفاً، بينهم أكثر من 10 آلاف إصاباتهم خطرة ستخلف إعاقات طويلة الأمد. ويضيف "مع تفاقم الحصار، ارتفعت معدلات سوء التغذية بصورة حادة، ووفق التقارير سجل حتى الآن مقتل ما لا يقل عن 90 طفلاً جراء سوء التغذية. هذا الرقم مقلق للغاية، لأنه يعكس انعدام الغذاء والانهيار الكامل لمنظومة الإمداد الغذائي في القطاع". ويوضح المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" أنه مع اشتداد الحصار نفدت مخزونات الطعام لدى سكان غزة و"تدهورت أوضاعهم بشدة، واضطروا إلى تناول أعلاف الحيوانات، ومياه غير نظيفة، وحتى بقايا الطعام من النفايات". وإضافة إلى نقص الغذاء، يعاني سكان القطاع نقصاً في المياه النظيفة. ويقول بيغبيدير، "تشير بياناتنا إلى أن 96 في المئة من الأسر تفتقر إلى مياه صالحة. وعندما تكون المياه غير كافية، ومع وجود سوء تغذية، فإن الأمراض تنتشر بسرعة".
ويحذر المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" من أن "بعض مؤشرات الأمن الغذائي تشير إلى أن مناطق في غزة تجاوزت عتبة المجاعة، وسوء التغذية الحاد بين الأطفال يرتفع بصورة حادة. لقد رأينا صوراً لأطفال لا يأكلون إلا مرة واحدة في اليوم، وهذا مشهد يصعب تصديقه عام 2025"، ويضيف "اليوم تدخل كميات محدودة من الغذاء، لكنها غير كافية للسكان كافة، والأسواق ما زالت فارغة". لذا يشدد على ضرورة وقف إطلاق النار والسماح بدخول غير مقيد للغذاء والمساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية، وضمان حماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني بموجب القانون الدولي، وإلا فإن "خطر المجاعة الكاملة سيصبح واقعاً".
في هذا السياق، نسأل بيغبيدير عن المزاعم التي خرجت عن سرقة المساعدات الغذائية التي تدخل غزة، فيؤكد أن هذه السرقة تحدث بسبب ندرة الطعام، إذ إن "اليونيسيف وشركاءها يدخلون الغذاء، لكن الكميات ضئيلة جداً، وبعض القوافل تنهب". ويوضح، "قبل أشهر، كنا نلاحظ أن هذه الحوادث تقوم بها عصابات منظمة، لكن في الأسابيع الأخيرة لم يعد الأمر كذلك، بل أصبحوا سكاناً يائسين يحاولون الحصول على كيس من الطعام والرحيل به. السبيل الوحيد لوقف ذلك هو إدخال كميات كافية من الغذاء حتى لا يضطر الناس، بدافع الجوع، إلى محاولة الاستيلاء على أي شحنة تمر". ولذلك، يقول بيغبيدير إن الاعتماد على المساعدات الإنسانية فقط غير كاف، بل "يجب إعادة التجارة أيضاً، إذ لا يمكن إطعام أكثر من مليوني شخص يومياً بالاعتماد على المساعدات فحسب، هذا أمر ضخم ومعقد، خصوصاً مع توقف عجلة الاقتصاد وغياب طرق الإمداد".
التعافي النفسي سيحتاج إلى عقود
أما في ما يتعلق بإعادة إعمار غزة وما سيتطلبه التعافي فور انتهاء الحرب، فيقول بيغبيدير "خسرنا كل شيء تقريباً. 95 في المئة من المدارس مدمرة، معظم المستشفيات وخدمات الصحة العامة مدمرة، 67 في المئة من منظومة المياه والصرف الصحي معطلة. الاقتصاد برمته مدمر". وعلى رغم ذلك، يرى المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" أن "إعادة بناء البنية التحتية هي الجزء الأسهل، لكن التحدي الأكبر هو معالجة الصدمة والخوف لدى الأطفال، وضمان عودتهم إلى المدارس، وتوفير الرعاية الصحية والتغذية والتطعيم، ومساعدتهم على التعافي نفسياً"، مضيفاً أن "إعادة التأهيل النفسي والبدني للأطفال ستحتاج إلى عقود"، لا سيما بالنسبة إلى الأطفال المصابين بإعاقات دائمة الذين سيحتاجون إلى دعم مستمر لأعوام حتى يتمكنوا من الاندماج مجدداً في التعليم والحياة الطبيعية.
أمام هول الصعوبات والتحديات، نسأل بيغبيدير: هل تشعر "اليونيسيف" بالعجز أو يمكن أن تغادر قطاع غزة؟ فيجيب، "نحن في غزة وسنبقى فيها. كنا هناك منذ 40 عاماً، وسنواصل العمل مع السكان والأطفال مهما كانت الظروف، من المستحيل أن نغادر غزة. لكننا نواجه التحديات نفسها التي يواجهها السكان: نقص الغذاء والمياه وانعدام الأمن". ويقول، "يحتاج موظفونا إلى الوقوف في طوابير للحصول على المياه أو البحث عن أي مصدر غذاء. على رغم ذلك، يواصلون العمل وتقديم الدعم، حتى وهم يعيشون ظروفاً لا تحتمل، ونزحوا هم أيضاً مرات عدة خلال العامين الماضيين"، لذلك يشدد على ضرورة السماح بوصول أكبر وآمن للعاملين الإنسانيين والسماح لهم بالحركة داخل القطاع وضمان دخول الإمدادات.
"السودان أزمة منسية لكنها كارثية"
من غزة ننتقل إلى السودان، حيث قالت منظمة الصحة العالمية إن الجوع والمرض ينتشران ويعاني 25 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع تسجيل نحو 100 ألف حال إصابة بالكوليرا منذ يوليو (تموز) الماضي، وسط توقعات بأن يعاني نحو 770 ألف طفل دون سن الخامسة سوء التغذية الحاد هذا العام.
المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" الذي زار السودان قبل بضعة أشهر، يقول إنه اليوم "ثاني أكبر أزمة إنسانية في العالم بعد غزة... السودان أزمة منسية، لكنها كارثية". ويضيف "أكثر من 5 ملايين طفل نزحوا بسبب النزاع وتركوا منازلهم، وكثر يعيشون في مخيمات مكتظة بلا صرف صحي أو مياه نظيفة أو خدمات صحية أو تعليم. وهناك إجمالاً 25 مليون شخص متضررون من الصراع ويعانون نقص الغذاء، بينهم أكثر من 15 مليون طفل يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، وهذا العدد هو ضعف العدد في 2022. معدلات سوء تغذية مرتفعة لدرجة تجاوزت عتبة المجاعة في بعض المناطق. ومع تردي الأوضاع يزداد تفشي الأمراض، خصوصاً الكوليرا في دارفور حيث الوضع صعب جداً. وعندما يجتمع الكوليرا وسوء التغذية يرتفع خطر وفيات الأطفال بصورة كبيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول بيغبيدير إن العقبة الكبرى في السودان هي في الوصول إلى المتضررين، إذ إن "بعض المناطق مغلقة أمام المساعدات". ويوضح أن "هناك تحديات لوجيستية بسبب حجم البلاد وصعوبة الوصول إلى الطرقات، إضافة إلى انعدام الأمن نتيجة الصراع بين الحكومة والفصائل الأخرى، والقيود على الحركة من الجانبين. هذا يعوق تنفيذ عمليات الإغاثة اللازمة". لذلك يشدد على ضرورة "مواصلة الضغط لضمان السماح بالعمل الإنساني في المناطق الأكثر احتياجاً"، و"ضمان وصول الإمدادات والفرق الإنسانية إليها، لا سيما إلى دارفور وكردفان".
لبنان وسوريا
من غزة ننتقل في الحديث مع المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" إلى لبنان الذي خرج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من حرب مدمرة مع إسرائيل خلفت آلاف القتلى والمصابين وتسببت بنزوح عشرات الآلاف وتركت خلفها دماراً كبيراً. وعلى رغم وقف إطلاق النار فما زال لبنان يتعرض لضربات إسرائيلية يومية تستهدف وفق تل أبيب عناصر "حزب الله" وبنيته التحتية.
يقول بيغبيدير إنه منذ وقف إطلاق النار في لبنان "قتل نحو 10 أطفال جراء ضربات متفرقة، وما زال أكثر من 30 ألف طفل نازحين إذ لم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم، ويعيش كثر منهم في خوف وفقدان للشعور بالأمان". وفيما تشكل إعادة بناء المدارس مسألة مهمة، إلا أن "إعادة الإحساس بالحياة الطبيعية لدى الأطفال أمر يحتاج إلى وقت، إذ يجب أن نعيد لهم التفكير الإيجابي والتطلع إلى المستقبل". ويحذر بيغبيدير من أن "نصف مليون طفل في لبنان ما زالوا خارج المدرسة، وكثر منهم يدفعون إلى سوق العمل أو للزواج المبكر"، مشدداً على ضرورة العمل "على تقليل عمالة الأطفال وزواج القاصرات، إلى جانب الدعم النفسي والتعليم".
أما سوريا التي خرجت بدورها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي من حرب استمرت زهاء 14 عاماً قتل خلالها الآلاف وشرد الملايين داخل البلاد وخارجها، فيقول المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف" إنه زارها ثلاث مرات منذ تغيير السلطة والتقى فيها قادة دمشق الجدد. ويضيف "كان من المهم توحيد جهود الاستجابة الإنسانية في سوريا، فبعدما كانت بعض المساعدات تدخل من تركيا عبر إدلب والشمال، والبقية تدار من قبل (النظام في) دمشق، أصبح هناك تنسيق موحد مع الحكومة".
وعلى رغم هذه الجهود شهدت سوريا في الأشهر الأخيرة توترات واشتباكات مسلحة من الساحل إلى السويداء في الجنوب، مما أسفر عن سقوط قتلى ونزوح كثر. وحسب بيغبيدير، فإن "الأطفال هم أول من يتأثر" بهذه النزاعات. وعلى رغم "عودة 1.5 مليون نازح داخلي، ونصف مليون لاجئ" في تطور إيجابي للبلاد، "ما زالت هناك موجات نزوح جديدة، فيما تترك الاضطرابات المستمرة الأطفال والأسر في حال عدم يقين"، لذا لا بد من "ترجمة النيات الجيدة إلى أفعال ملموسة على الأرض"، وفق ما يقول المدير الإقليمي لـ"اليونيسيف".