ملخص
أصبح الجيش الإيراني، بحلول عام 1975، خامس أضخم جيش في العالم، ويشتري قرابة نصف مبيعات الأسلحة الأميركية، وانتقل قرابة 25 ألف عامل أميركي بأسرهم إلى إيران، لوجود فرص بدت بلا حدود ولـ"عدم وجود أي داع لتوقع عقبات في المستقبل".
لعل الولايات المتحدة كانت ترجو وهي تلقي قنابلها على الأراضي الإيرانية قبل أسابيع قليلة، أن تدمر ما هو أكثر من المواقع النووية. وبينما تقطع أصوات أميركية الآن بأن الضربة الإسرائيلية - الأميركية قد ألحقت بإيران ضعفاً أكيداً، لكن لا أحد يقطع بقدرتها على تغيير النظام الحاكم، ولعل ذلك ما كانت ترجوه الولايات المتحدة أكثر من تدمير القدرة النووية الناشئة. ذلك أن النظام الحاكم الذي أنشأته الثورة الإيرانية عام 1979 يظل تذكرة حاضرة للولايات المتحدة بما قد يعد أكبر فشل دبلوماسي في تاريخها.
فقبل نصف قرن من إصدار دونالد ترمب أوامره بضرب المنشآت النووية الإيرانية، كان سلفه جيمي كارتر قد قضى ليلة رأس السنة في طهران، إذ هبطت طائرته في العاصمة عند مغيب شمس الـ31 من ديسمبر (كانون الأول)، في زيارة استغرقت 17 ساعة، وشهدت اجتماعاً شخصياً مع شاه إيران أعقبته مأدبة عشاء في قصر نياواران، رفع كارتر كأسه خلالها مومئاً إلى الشاه قائلاً: "إلى إيران... جزيرة الاستقرار في إحدى أشد مناطق العالم اضطراباً" بفضل قيادة الشاه الحكيمة "وما يكنه له شعبه من إعجاب ومحبة".
هكذا كانت العلاقة بالأمس القريب سمناً على عسل بين الولايات المتحدة وإيران، ثم فسدت فساداً مستعصياً على العلاج، بحسب ما نراه جميعاً وما يؤكده الصحافي الأميركي سكوت أندرسن في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "ملك الملوك: الثورة الإيرانية... قصة الغرور والجهل وسوء التقدير الكارثي".
طاعون السياسة الخارجية
يعلق روميش راتنسار في استعراضه الكتاب "آير ميل-2 أغسطس 2025" على واقعة ليلة رأس السنة في طهران بأن "مساعدي كارتر لم يوافقوه على ذلك الإطراء، حتى أن مسؤولاً في مجلس الأمن الوطني قال "لا أعرف هل سيؤرقنا هذا يوماً ما؟"، وذلك في رأي راتنسار هو ما حدث.
يروي الكتاب قصة الثورة الشعبية التي أطاحت ـ خلال عام من نخب كارتر ـ حكم الشاه، "وأرغمته على المنفى، وسلمت السلطة لحكم ثيوقراطي بقيادة آية الله روح الله الخميني. ولم يخيم هذا الفشل الدبلوماسي على رئاسة كارتر وحسب، إنما كان طاعوناً اعترى السياسات الخارجية لمن أعقبوه وفرض كلفة هائلة على أميركا من المال والدم والمكانة. فالتغيرات الحادة التي طرأت على رقعة شطرنج الشرق الأوسط بفعل الثورة الإيرانية، أدت مباشرة إلى بعض أضلِّ الخطوات الأميركية في المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية، كما كان لها إسهام حاسم في أخطاء أخرى كثيرة"، بحسب أندرسن.
"نبعت العداوة المريرة التي باتت تسم علاقة أميركا بإيران من المودة التي سبقتها. فقد أصبح الشاه بهلوي الذي وضعته قوات الحلفاء على العرش عام 1941 وهو في الـ21 من العمر رجل واشنطن الذي لا غنى عنه في الشرق الأوسط. فهو "الشرطي جيد التسليح الذي يحرس أشد مناطق العالم اضطراباً وتقلباً". وجاء الانقلاب الذي رعته الاستخبارات الأميركية على رئيس الوزراء الوطني محمد مصدق في عام 1953 ليرسخ سلطة الشاه وأيضاً "ليجعل ملك الملوك إلى الأبد هو الشاه الأميركي في عيون أبناء بلده". وخلال الحرب الباردة، اعتمدت الولايات المتحدة على النفط الإيراني، فكان ذلك حظاً عظيماً للشاه، إذ استعمله في تمويل مشاريع بناء وحفلات فاخرة، فضلاً عن شراء أسلحة هائلة من الولايات المتحدة، حتى أصبح الجيش الإيراني، بحلول عام 1975، خامس أضخم جيش في العالم، ويشتري قرابة نصف مبيعات الأسلحة الأميركية، وانتقل قرابة 25 ألف عامل أميركي بأسرهم إلى إيران، لوجود فرص بدت بلا حدود ولـ"عدم وجود أي داع لتوقع عقبات في المستقبل".
امتد قصر النظر هذا إلى الدبلوماسيين الأميركيين في طهران، وكذلك إلى سلسلة من الرئاسات الأميركية المتعاقبة التي لم تبالِ بسخط الشعب الإيراني على الشاه وداعميه الأجانب. وعلى رغم أن العاملين في السفارة الأميركية في طهران بلغوا 3 آلاف فرد، فلم يكن مجيدو الفارسية منهم يتجاوزون ستة أشخاص.
في استعراضه للكتاب "نيويورك تايمز-2 أغسطس 2025"، يبرز مارك باودن استثناء واضحاً لهذا الفشل. فـ"في سبتمبر (أيلول) 1979، رجع المسؤول السياسي الأميركي المشاكس مايكل مترينكو من عمله في السفارة الأميركية بطهران ليقضي إجازة قصيرة في الولايات المتحدة، ففوجئ باستدعاء لاجتماع رفيع المستوى في وزارة الخارجية. كان مترينكو بمنزلة "الشريك المخالف" في البعثة الأميركية بإيران، فهو غير متناغم بالمرة مع تيار المعلومات المتفائلة المبعوثة من طهران. وكان ذلك التيار المعلوماتي خاطئاً أشد ما يكون الخطأ. فلم تغب فقط عن الدبلوماسيين وضباط الاستخبارات الأميركيين المكلفين بإدارة العلاقات مع إيران بوادر الثورة الإسلامية فيها، وكانت في أوجها آنذاك، لكنهم "همَّشوا التقارير المنذرة بقربها".
"وبحلول سبتمبر، إذا بالشاه الذي كان يفترض أنه منيع المقام يتنازل عن العرش. وسيطرت الحشود على الشوارع. وصار البلد لقمة سائغة. ورجع الخميني منتصراً. ومع ذلك ظل المتخصصون بالسفارة الأميركية يعزفون نغمة التفاؤل، مصرين على أن حكماً معتدلاً موالياً للغرب سيظهر، وأن العلاقة الودية المثمرة القائمة بين واشنطن وطهران ستستمر".
"كان مترينكو أعلم بما يجري. فهو من القلة القليلة التي كانت تجيد الفارسية بطلاقة في بعثة طهران، فكان واعياً بعمق الغضب على أميركا، وبأن النظام في صعود. وأدت تقاريره الحادة إلى توبيخه من السفير الغافل وليم سوليفان، ومع ذلك، قرر شخص ما في وزارة الخارجية أن يمنح مترينكو فرصة، فوصل إلى الاجتماع مبكراً، حاملاً ملاحظاته، ليفاجأ بمنعه من الدخول لعدم صدور التصريح الأمني اللازم... وبعد أقل من شهر، كان مترينكو أحد 52 رهينة أميركية من الدبلوماسيين والعسكريين والعاملين في السفارة فضلاً عن حفنة من المدنيين، ظلوا جميعاً رهائن لـ444 يوماً لدى جماعة طلابية مسلمة متطرفة في إيران".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمضي باودن فيقول إن أغلب الأميركيين يرون في أزمة الرهائن حدث الثورة الإسلامية الأبرز. "ولأنها واقعة مذلة طويلة غير مسبوقة، فقد استحوذت على الأميركيين لأكثر من عام، وأجهزت على محاولات كارتر الترشح لرئاسة ثانية، وبشّرت بحقبة ريغان... وأنهى سقوط الشاه أو ملك الملوك... أحد أهم تحالفات الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية في العالم"، حسبما يكتب أندرسن.
"بدعم من رؤساء أميركيين متعاقبين، وصل تصريح مفتوح من ريتشارد نيكسن بشراء الأسلحة الأميركية... كان الشاه صنيعة أميركية في المقام الأول. وتمثل قصته فصلاً حزيناً آخر في التاريخ الطويل للهزائم الذاتية الأميركية الناجمة عن التدخل الأهوج في الشؤون الداخلية للدول الأقل قوة ـ من قبيل كوبا ونيكاراغوا وفيتنام قبل 1978 ثم العراق وأفغانستان بعد ذلك. صحيح أن الثمن الأكبر كان يدفعه الضحايا الأجانب، لكن أميركا لم تخلُ من جراح عميقة بطيئة الالتئام".
"ملك الملوك"
"في حال إيران، جاء التدخل الأميركي إطاحة بالملكية الدستورية (على عيوبها) ودعم حكماً استبدادياً هوائياً. وقدمت الحرب الباردة الحوافز الأولية لذلك التدخل ـ بهدف احتواء الاتحاد السوفياتي ـ ثم تحول الحافز بمرور الوقت إلى جشع كريه، إذ بات الشاه شديد الشره إلى الأسلحة الجديدة، فاندفع المسؤولون والمقاولون الأميركيون يسمنون كروشهم من سخاء الشاه حتى تحول الأمر بحسب ما يكتب أندرسن إلى "جنون". واشتد إيقاع التودد على رغم محاولة وزارة الخارجية تهدئته دونما جدوى. فحينما طلبت الخارجية من لواء بحري عدم بيع طائرات معينة إلى إيران لعدم احتياجها إليها ـ إذ افتقرت إلى الطيارين المدربين ومعدات الصيانة ـ رد اللواء بأن "هذه قد تكون سياسة السفارة، لكنها ليست سياسة البحرية. فسياستنا هي بيع هذه الطائرات".
يستخلص باودن دروساً من "ملك الملوك" ومن قصة سقوط الشاه أهمها عدم الانفصال عن الواقع. فقد عاش الشاه "حياته في عالم مصطنع، ترسَّخ الوهم فيه من خلال جهاز ’السافاك‘ الأمني الذي أرهب كل من تمنع على مجاراة الوهم. أقام النظام الحاكم ما يصفه أندرسن بقلعة ’الغباء‘... فعلى القمة، لم يكن الشاه يتلقى إلا الأخبار السعيدة، وفي القاع تعلم التابعون كيف يبتلعون الظلم والحماقة ويعدونهما الروتين المتبع. وسيدفع كثير حياتهم ثمناً لذلك، فالأمر ببساطة هو أن إيران حكمها رجل واحد لـ37 عاماً، وعلى مدى تلك السنين لم يكن لإيراني واحد أو إيرانية القدرة على اتخاذ قرار مستقل ذي أهمية كبيرة للأمة"، حسبما يكتب أندرسن.
"وبعد إسكات كل الأصوات العاقلة والمستقلة، امتلأ الفراغ بالمعلومات المكذوبة عمداً وبنظريات المؤامرة وبالخرافة. ووسط غبار هذه العاصفة الهوجاء، كان الصوت الغالب هو صوت الخميني الذي تناقلت الأيدي خطبه تحت سمع ’السافاك‘ على أشرطة تسجيل جمعتها وكالة الاستخبارات المركزية بعناية، وإن لم يعن أحد بتفريغها والاستماع إليها. وبحلول أوائل عام 1979، احتدمت العاصفة بسبب تلك الخطب وعصفت بالعرش الطاووسي وبالنفوذ الأميركي وبأي أمل في حكم شعبي، وأرست نظام حكم ثيوقراطي دموي قمعي لا يزال حاكماً إلى اليوم".
يكتب روميش راتنسار ـ وهو نائب أول رئيس المجلس الأطلنطي والمسؤول السابق في الخارجية الأميركية ومحرر الرأي في "بلومبيرغ" و"تايم" ـ أن (ملك الملوك) "يؤرخ لعجز مؤسسة الأمن الوطني عن توقع التهديد لحكم الشاه من حركة الخميني الذي كشفت خطبه بوضوح عن احتقار الملا المنفي للشاه ولليهود وللديمقراطية الغربية"، فضاعت بذلك فرصة كبيرة لأنه "حتى منتصف السبعينيات من القرن الـ20" كما يكتب آندرسن "ربما كان يمكن ألا يكون للخميني وجود أصلاً". ولكن، كان لزاماً أن يثبت مزيج الغطرسة والجهل الأميركي أنه مزيج فتاك، إذ تسارعت وتيرة الثورة واستشرت حتى خرجت عن سيطرة الولايات المتحدة، على حد ما يكتب راتنسار.
يكتب مارك باودن أن (ملك الملوك) "كتاب نادر ومهم. فنادراً ما تجتمع التجربة الصحافية الدقيقة المثيرة مع الحكي الفاتن، إذ يضيف أندرسن إلى تاريخه الشامل لوحات حية لبعض الشخصيات: منها الشاه وزوجته فرح التي حاورها أندرسن، ومنها الخميني القاسي الحاد، ومنها الجاهل العنيد جاك ميكلوس نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية وأكثر المهللين للشاه، ومنها إبراهيم يازدي الصيدلي الساحر في هيوستن الذي كان يطالب بالديمقراطية لإيران، وكان صديقاً للخميني في المنفى وأقنع المعجبين به في أميركا بأن الثورة ستنتهي على خير، ثم قضى بقية حياته متنقلًا بين سجون آية الله".
ولا يخفي باودن إعجابه بمترينكو الذي يراه "أبرز شخصيات الكتاب" وأنه "يستحق تمثالاً في وزارة الخارجية، وليس ذلك فقط لأنه كان شجاعاً وعلى حق، أو لأنه كان أذكى وأبعد نظراً من زملائه، ولكن لأنه كان يعمل. فقد أخذ على عاتقه أن يتعلم الفارسية فمكنه ذلك من أن يتنصت إلى ما يقوله الإيرانيون، ولأنه كان ينتبه إلى ما يراه. ففي الأشهر السابقة لسقوط الشاه، وفيما كان يعمل على طوفان من طلبات كبار المسؤولين الأميركيين الباحثين عن فرصة للخروج من البلد، جاءه ضابط في الاستخبارات الأميركية طالباً مساعدته لبعض هؤلاء في ما يريدون. فقال أندرسن: معذرة، لكن ماذا تستنتج من محاولة أهم مصادرك الخروج من البلد بأية طريقة؟".
"ولما سئل مترينكو عما جعله يرى ما غاب عن كثير من زملائه، قال لأندرسن: لأن العاملين في القسم السياسي بالسفارة الذين كان يفترض أن يتابعوا بدأب مثل تلك الأمور كانوا ضعفاء مهنياً. فهل هذا قاس؟ ولكنه مستحق".
يأخذ راتنسار على كتاب أندرسن افتقاره إلى حيوية كتاب سابق له يرصد آخر أيام الإمبراطورية العثمانية وجذور المحاولات الغربية لتغيير الشرق الأوسط. ويُرجع راتنسار هذا العيب جزئياً إلى طبيعة شخصية بهلوي نفسه فهو "مراوغ، لا يخلو من جبن"، يكثر من إلقاء اللوم على الآخرين ويميل إلى التآمر، ولكن الإثارة التي يعجز الشاه عن توفيرها تأتي من مصدر آخر.
يكتب راتنسار أنه "لم يكن معلومًا إلا لقلة من المقربين أن الشاه يموت بسرطان الدم. ويركز أكثر أجزاء الكتاب إثارة على كفاح كارتر في مقاومته لضغوط أصدقاء الشاه ذوي النفوذ في دائرة الرئيس الأميركي المقربة. كان هنري كينسجر وديفيد روكفيلر ومن ورائهما مستشار الأمن الوطني زبيجينف بريجينسكي هم أبرز أولئك الأصدقاء، وقد حاولوا أن يظفروا لبهلوي بالاستقرار في الولايات المتحدة. لكن كارتر خشي أن يقضي ذلك على الأمل في ضبط العلاقات مع حكام إيران الجدد الذين كانوا قد بدأوا بالفعل يهتفون بـ’الموت لأميركا‘. فلم يكن منح الشاه اللجوء ليتسبب إلا في تشجيع المتشددين والمخاطرة بسلامة الأميركيين الذين كانوا لا يزالون في طهران. وبلغ الأمر لما تكررت إثارة بريجينسكي لموضوع لجوء الشاه أن اندفع كارتر قائلاً: اللعنة على الشاه. أنا لا يهمني مطلقاً أمر الشاه".
"ثم لان كارتر في النهاية، ورضخ لحجة بريجينسكي بأن التخلي عن حليف كهذا سيضر بمصداقية الولايات المتحدة. لكن الرئيس الأميركي سأل مستشاريه" بحسب ما يكتب أندرسن، "بماذا سوف تنصحونني أيها الرجال في حال قيامهم بالاستيلاء على السفارة وأخذ أهلنا رهائن؟، فأسكت بذلك مستشاريه. لكن حدث في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1979، أي بعد أقل من أسبوعين على وصول الشاه إلى نيويورك للعلاج من السرطان، أن قامت مجموعة من 125 شخصاً باقتحام السفارة الأميركية وأسر 52 رهينة، لتبدأ بذلك أزمة استمرت 444 يوماً، وبلغت حجماً كارثياً لا يزال البلدان إلى الآن يعالجان آثاره بعد قرابة نصف قرن".
تأليف: Scott Anderson
العنوان: KING OF KINGS: The Iranian Revolution: A Story of Hubris, Delusion and Catastrophic Miscalculation
الناشر:Doubleday