Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توني بلير... وجه واحد لأدوار متعددة

رئيس الوزراء البريطاني السابق يتحضر لحكم غزة فيما إرثه المرير في العراق لا يزال يلاحقه

كان أصغر رئيس وزراء منذ اللورد ليفربول عام 1812، وقد حاول الترويج لصورة شابة وعصرية لبريطانيا التي يرمز إليها (اندبندنت عربية)

ملخص

 في نهاية التسعينيات بدا وكأنه ابن المستقبل، فلم يكن مجرد رئيس وزراء جديد لبريطانيا بل رمزاً لولادة مرحلة مختلفة بعد عقود من الهيمنة التاتشرية، وفجأة صار الشارع البريطاني يتحدث عن "نيو ليبر" بصفته وصفة للنهضة، وعن بلير كزعيم يملك القدرة على انتشال البلاد من رماد اقتصاد متقشف وطبقات متعبة.

في تاريخ السياسة ثمة شخصيات تشبه المرايا، فكل من يقترب منها يرى ما يريد أن يراه، وتوني بلير واحد من هؤلاء، إذ يبدو كمن يجلس على حافة الكرسي، فبالنسبة إلى بعضهم هو الزعيم الشاب الذي بشر بمرحلة جديدة في بريطانيا، وبالنسبة إلى آخرين ظلٌ طويل لحرب العراق لا يمكن فصله عنها.

لم يكن حضوره دائماً مثيراً للإعجاب، فقد بدا أحياناً مبالغاً في ثقته وأحياناً أخرى شديد الحرص على إرضاء الجميع، لكن النتيجة أن صورته لم تستقر قط في خانة واحدة.

 

 

على المنابر أو أمام عدسات الكاميرات يعرف كيف يملأ المكان بخطابه، لكن هذه القدرة كثيراً ما أثارت الشكوك بقدر ما منحت الإعجاب، فنبرة صوته الواضحة وإيقاعه السريع صاغا شخصية خطيب أكثر منه رجل دولة، فيما ابتسامته الحذرة وملامحه التي تجمع بين الصرامة والود منحتاه كاريزما يصعب إنكارها، وإن بدت أحياناً مصطنعة، وحتى في المحادثات الخاصة كان يصر على التحكم في مجرى الحوار، يصغي ليقاطع في اللحظة المناسبة، ثم يرمي جملة كفيلة بقلب الطاولة.

جاذبيته ليست مجرد حضور جسدي بل مزيج من طاقة شبابية لم تفارقه حتى بعد خروجه من السلطة، ومن قدرة على بث الحماسة فيمن حوله، في تعاطيه مع الأمور يميل إلى الواقعية المغلفة بلمسة تفاؤل، وكأنه يصر دائماً على أن النفق مهما كان مظلماً فالنهاية تَعدُ بضوء.

خصومه كما أنصاره اعترفوا بقدرته على تبسيط المعقد، لكنهم أشاروا أيضاً إلى أن هذا التبسيط جاء أحياناً على حساب الدقة، وهو ما ظهر بوضوح في تبريراته لحرب العراق، فقوته لم تكن في الحجج وحدها بل في إيمانه الشديد بما يقول، وهو إيمان تحول إلى عناد سياسي، وبين الواقعية التي كان يلونها بلمسة تفاؤل والتفاؤل الذي انقلب لاحقاً إلى أوهام مكلفة، نسج بلير صورته المثيرة للجدل.

 

 

في نهاية التسعينيات بدا وكأنه ابن المستقبل، فلم يكن مجرد رئيس وزراء جديد لبريطانيا بل رمزاً لولادة مرحلة مختلفة بعد عقود من الهيمنة التاتشرية، وفجأة صار الشارع البريطاني يتحدث عن "نيو ليبر" بصفته وصفة للنهضة، وعن بلير كزعيم يملك القدرة على انتشال البلاد من رماد اقتصاد متقشف وطبقات متعبة.

لكن بلير الذي صنع مجده بخطاب يبشر بمستقبل أكثر إشراقاً سرعان ما وجد نفسه يجر خلفه ظلاً ثقيلاً اسمه العراق، فقراره الدخول في حرب مثيرة للجدل، وترداد حكومته "الأدلة" عن أسلحة دمار شامل لم تظهر يوماً، جعلا اسمه يذكر مقروناً بالخيبة بقدر ما يذكر بالإنجاز.

منذ ذلك الحين ظلت صورته السياسية أسيرة مفارقة حادة: زعيم شاب غيّر وجه حزب العمال البريطاني، وأدخل بريطانيا في عهد جديد، لكنه في الوقت نفسه دفع ثمن رهانات كبرى لا تزال تطارده.

 

 

اليوم وبعد مرور أكثر من 15 عاماً على مغادرته "داوننغ ستريت"، لا يزال بلير حاضراً ويتنقل بين عواصم القرار، يكتب ويحاضر ويدير "معهد التغيير العالمي"، وكأنه لم يعتزل السياسة قط، بين مجد البدايات وظلال النهايات، وبين حلم السلام في إيرلندا ومستنقع بغداد، تتوزع صورة بلير التي لم تكتمل حتى الآن.

من هنا تبدأ الحكاية: قصة شاب يعزف الغيتار في فرقة جامعية تحول إلى محام ثم إلى قائد غير وجه حزب العمال البريطاني، وأصبح خلال عقد واحد من الزمن أحد أبرز الوجوه السياسية في أوروبا والعالم.

العودة لغزة؟

مجدداً يتردد اسم رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير كشخصية محورية في العالم العربي، مع طرح الرئيس دونالد ترمب "خطة السلام" لإنهاء الحرب في غزة وبنودها الـ20، والتي تنص إحداها على إنشاء هيئة رقابية دولية تسمى "مجلس السلام" يترأسها ترمب نفسه، ويكون معه بلير عضواً وشريكاً، إذ سيعمل الزعيمان على مراقبة اللجنة الفلسطينية التكنوقراطية وغير السياسية التي ستتولى حكم القطاع بعد إزاحة "حماس" عن المشهد.

 

في نهاية التسعينيات بدا وكأنه ابن المستقبل، فلم يكن مجرد رئيس وزراء جديد لبريطانيا بل رمزاً لولادة مرحلة مختلفة بعد عقود من الهيمنة التاتشرية، وفجأة صار الشارع البريطاني يتحدث عن "نيو ليبر" بصفته وصفة للنهضة، وعن بلير كزعيم يملك القدرة على انتشال البلاد من رماد اقتصاد متقشف وطبقات متعبة.

 

 

وتعتبر عودة بلير لصدارة التحركات في الشرق الأوسط فصلاً جديداً ملاحظاً في علاقته بالمنطقة، فقد تعامل مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بصفته رئيس وزراء بريطانيا ومبعوثاً للأمم المتحدة ومستشاراً خاصاً ووسيطاً غير رسمي، رافضاً التخلي عن صراع معقد استنزف رؤساء دول ودبلوماسيين لا حصر لهم.

ووصف بلير خطة إدارة الرئيس الأميركي بأنها "جريئة وذكية"، مضيفاً أنها "توفر لنا أفضل فرصة لإنهاء عامين من الحرب والبؤس والمعاناة"، وقال إن "الخطة في حال الموافقة عليها يمكنها إنهاء الحرب وتوفير الإغاثة الفورية لغزة وتوفير مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً لشعبها، مع ضمان أمن إسرائيل المطلق والدائم والإفراج عن جميع الرهائن".

 

 

ومنذ أن كان في منصبه تعاطى بلير مع القضية الفلسطينية، سواء كرئيس وزراء أو مبعوث أممي أو مستشار خاص، كرئيس للحكومة، فأيد "اتفاقات أوسلو" التي أرست مبدأ حل الدولتين، وأجرى محادثات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، كما ضغط على الرئيس الأميركي جورج بوش لتبني "خريطة الطريق للسلام"، وهي خطة هدفت إلى إنهاء الاستيطان الإسرائيلي وتأسيس الدولة الفلسطينية، ولم تطبق.

وبعد استقالته عام 2007 إثر تراجع شعبيته بسبب غزو العراق، عُين مبعوثاً للرباعية الدولية (الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا) وكان الهدف المعلن للرباعية دعم الفلسطينيين في بناء مؤسسات واقتصاد دولة قابلة للحياة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.

غير أن الفلسطينيين ومنتقدي بلير اتهموه بالفشل في وقف العنف الاستيطاني أو دفع عملية إقامة الدولة الفلسطينية، واعتبروا أن إنجازاته اقتصرت على مشاريع اقتصادية محدودة.

 

لكن بلير الذي صنع مجده بخطاب يبشر بمستقبل أكثر إشراقاً سرعان ما وجد نفسه يجر خلفه ظلاً ثقيلاً اسمه العراق، فقراره الدخول في حرب مثيرة للجدل، وترداد حكومته "الأدلة" عن أسلحة دمار شامل لم تظهر يوماً، جعلا اسمه يذكر مقروناً بالخيبة بقدر ما يذكر بالإنجاز.

 

وفي المقابل أثار طرح اسمه لإدارة غزة انتقادات عدة، أولها أن صدقيته مشكوك فيها، إذ يرى منتقدون أن تورطه في حرب العراق يقلل من صدقيته كوسيط دولي موثوق، إضافة إلى أن نشاط بلير الاستشاري والمالي في الشرق الأوسط قد يثير شكوك الفلسطينيين والدول العربية تجاه نيته الحقيقية، فضلاً عن أن إدارة غزة تحت إشراف دولي برئاسة بلير قد تعتبر فرض وصاية جديدة على الفلسطينيين، مما يقلل فرصهم في تحقيق استقلالهم السياسي والسيادي.

 

 

وقالت عضو البرلمان عن حزب العمال كيم جونسون لـ"رويترز" إنها تعتقد أن مشاركته "فاضحة ومقززة، إنه الشخص الخطأ تماماً لدور يتمحور حول محاولة تحقيق السلام"، فيما كتب الصحافي البريطاني جوناثان كوك في مجلة دراسات فلسطين عام 2013 أن بلير "ليست لديه كثير من الإنجازات ليعرضها من أعوامه كممثل للرباعية، لكنه غالباً ما يفاخر بإنجاز واحد: نجاحه عام 2009 في الحصول على ترددات راديوية من إسرائيل لتأسيس شركة الاتصالات الفلسطينية الثانية (وطنية موبايل) في الضفة".

غير أن كوك قال إن الصفقة بدت وكأنها أفادت بنك "جي بي مورغان" الذي كان قد منح قرضاً للشركة الأم، وبلير نفى معرفته بأية علاقة، فيما قال البنك إنه "لم يناقش معه أبداً تلك المشاريع".

 

 

وأشار كوك إلى أن الصفقة جاءت أيضاً بـ "ثمن سياسي باهظ للفلسطينيين"، إذ وافقت إسرائيل على إطلاق بعض الترددات في مقابل أن يتخلى الفلسطينيون عن جهد في الأمم المتحدة لملاحقة إسرائيل بجرائم حرب خلال عملية "الرصاص المصبوب" في غزة عام 2008 - 2009.

وخلص كوك إلى أن دور بلير في التنمية الاقتصادية للفلسطينيين لم يكن بديلاً عن السياسة، بل وسيلة لتعطيلها.

ما بعد المنصب الرسمي

استمر بلير في عمله مبعوثاً دولياً حتى عام 2015، لكنه واصل انضمامه إلى الشرق الأوسط من خلال معهده للتغيير العالمي والذي قدم المشورة لحكومات خليجية وأطلق برامج تعليمية دينية عالمية، بما في ذلك في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وقد ترددت تقارير عن تورط المعهد في خطة مثيرة للجدل لإعادة إعمار غزة ونقل ما يصل إلى 500 ألف فلسطيني وتحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، لكن المعهد نفى ذلك وقال إن اثنين من موظفيه فقط شاركوا في مكالمات تتعلق بالخطة، وأنها "بالتأكيد ليست عملاً للمعهد أو بالتعاون معه".

 

 

ومعهد توني بلير للتغيير العالم منظمة غير ربحية أسسها عام 2016، وثمة كثير من الشكوك حول دورها وما تقدمه ومصادر تمويلها.

البداية

في انتخابات عام 1997 فاز بلير فوزاً ساحقاً وحصل حزبه على 418 مقعداً من مجموع 659 في مجلس العموم، وكرئيس للوزراء حقق إنجازات كبيرة لحزبه وبلده، فقد أوفى بمعظم التزاماته للطبقة العاملة، من تقليص البطالة ورفع مستوى الدخل وفرض حد أدنى للأجور على أصحاب الأعمال، إلى زيادة الإنفاق على الخدمات وخصوصاً الصحة والتعليم، ثم خفض مستوى الجريمة عبر نشر عدد أكبر من الشرطة في الشوارع وتشجيع الأقليات الاجتماعية والدينية والعرقية على المشاركة في إدارة الدولة والسماح لإسكتلندا وويلز بإنشاء مجالس تمثيلية وحكومة خاصة لإسكتلندا، كما أسهم في تحقيق السلام في إيرلندا الشمالية.

وفي السياسة الخارجية تبنى بلير سياسة التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة والتقارب مع الاتحاد الأوروبي، إذ أخذت القوانين والمعايير والمقاييس الأوروبية تسري في التعاملات التجارية والإدارية البريطانية.

انتقادات واسعة وتحديات

يشتهر بلير بدوره المحوري في غزو العراق الذي قاده إلى جانب الولايات المتحدة، ووفقاً لتقرير لجنة "تشيلكوت" البريطانية الصادر عام 2016، فقد قدمت الحكومة البريطانية بقيادة بلير معلومات استخباراتية غير دقيقة في شأن وجود أسلحة دمار شامل، مما أسهم في قرار الحرب.

 

 

وأشار التقرير إلى أن "الحكومة البريطانية لم تحسن التخطيط لما بعد الغزو، وهو ما أدى إلى انهيار الدولة العراقية وتفاقم الأزمة الإنسانية مع مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين"، كما أكدت تقارير للأمم المتحدة أن هذه المعلومات كاذبة وأن العراق لا يمتلك تلك الأسلحة، وهو ما جعل توني بلير يحصل على لقب "مجرم حرب" في شوارع لندن والمدن والبلدات البريطانية خلال التظاهرات المليونية التاريخية التي خرج فيها الشعب البريطاني رفضاً لغزو العراق، إضافة إلى تظاهرات أخرى حول العالم، وعلى رغم الانتقادات والاتهامات التي وصفت بارتكاب "جرائم حرب"، لم يقدم بلير اعتذاراً عن قرار الغزو نفسه بل اكتفى بالاعتراف بـ "أخطاء في التخطيط والتنفيذ".

 

ومنذ أن كان في منصبه تعاطى بلير مع القضية الفلسطينية، سواء كرئيس وزراء أو مبعوث أممي أو مستشار خاص، كرئيس للحكومة، فأيد "اتفاقات أوسلو" التي أرست مبدأ حل الدولتين، وأجرى محادثات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، كما ضغط على الرئيس الأميركي جورج بوش لتبني "خريطة الطريق للسلام"، وهي خطة هدفت إلى إنهاء الاستيطان الإسرائيلي وتأسيس الدولة الفلسطينية، ولم تطبق.

 

 

هذه الخلفية جعلت اسمه مرتبطاً دائماً بالجدل حول المسؤولية السياسية والأخلاقية للقرارات الحربية، ويقول الصحافي المشارك في تأليف كتاب Blair Inc: The Man Behind the Mask، فرانسيس بيكيت، إن حرب العراق "كانت نقطة تحول كبرى" في صورة بلير، مضيفاً "ليس فقط لأن كل عام يمر منذ الغزو يكشف مزيداً من نتائجه الكارثية، بل أيضاً بسبب الطريقة التي أنجز بها، فلقد وافق على الغزو من دون أي اعتبار لمستقبل حكم العراق، وهو ما مهد لانحداره وصولاً إلى استقالته عام 2007 بعد أن أصبح واضحاً أنه لن يتمكن من الفوز في انتخابات جديدة".

بلير والقذافي

في ربيع عام 2004 جلس توني بلير داخل خيمة معمر القذافي في صحراء ليبيا، في مشهد أثار دهشة العالم آنذاك، ووصف لاحقاً بـ "الصفقة في الصحراء"، ولم يكن اللقاء مجرد حدث بروتوكولي بل إعلاناً عن نهاية أعوام طويلة من العزلة الدولية التي عانتها ليبيا، وإعادة إدخال القذافي إلى الحضن الدولي بعد عقود من العقوبات والاضطرابات.

 

 

بلير الذي لطالما صور نفسه كزعيم غربي ملتزم بالقيم الديمقراطية، وجد نفسه في مواجهة معضلة حقيقية: كيف توازن بين المصلحة الوطنية البريطانية وبين الأخلاقيات السياسية؟ فالصفقة التي أعلنها تضمنت تخلي ليبيا عن برامج أسلحة الدمار الشامل وفتح أبوابها أمام الاستثمارات الغربية، مما أتاح لشركات نفط بريطانية ضخمة مثل BP وBAE Systems فرصاً بمليارات الدولارات، لكن خلف هذه الواجهة الدبلوماسية اللامعة كانت هناك طبقات من التعقيدات، فقد كشفت وثائق مسربة لاحقاً عن تعاون استخباراتي بين لندن وطرابلس، شمل عمليات تسليم قسري لمعارضين ليبيين من بريطانيا إلى ليبيا، في ما اعتبره مراقبون خرقاً صارخاً للحقوق الإنسانية.

بلير نفسه استمر في التواصل مع القذافي بعد تركه السلطة عام 2007، وأظهرت تقارير صحافية بريطانية أنه أجرى مكالمات عدة معه خلال الأشهر التي سبقت الثورة الليبية عام 2011، بعضها مرتبط بصفقات قانونية واقتصادية، وأبرزها النزاعات حول تعويضات ضحايا "تفجير لوكربي"، وهو ما زاد الغموض حول طبيعة دوره ومصالحه المحتملة.

وإذا كان الرأي العام البريطاني قد اعتاد رؤية القذافي كديكتاتور معزول وشرس، فإن تصريحات بلير التي وصف فيها العقيد بأنه "سهل التفاهم" أثارت موجة من الانتقادات والدهشة، فالسياسة، كما بدا واضحاً، لم تكن مجرد تبادل رسائل ودية، بل شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والاستشارية التي يندر أن تنكشف بالكامل.

 

 

الصحافة البريطانية، وعلى رأسها الـ "غارديان" والـ "تلغراف"، نشرت تحقيقات طويلة حول استفادة الشركات البريطانية الكبرى من المصالحة مع ليبيا، مع التركيز على الغموض الذي أحاط بمكالمات بلير الخاصة وطبيعة أدواره بعد ترك منصبه.

ولم تقتصر الانتقادات على الصحافة بل شملت البرلمان البريطاني ومنظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش"، التي اعتبرت علاقة بلير بالقذافي نموذجاً صارخاً لتقاطع السياسة مع المال، وللحدود الضبابية بين المصلحة الوطنية والأخلاق، فهذه العلاقة تحولت مع الوقت إلى ورقة يستخدمها خصوم بلير لتسليط الضوء على ما يرونه أخطاء أخلاقية وسياسية في إرثه، بخاصة في سياق حرب العراق والسياسات الغربية في الشرق الأوسط.

في المقابل كشفت وثائق سرية أفرج عنها كيف ضغطت الحكومة البريطانية برئاسة توني بلير على ليبيا من أجل إبرام صفقة أسلحة لمصلحة شركة "بي إيه إي سيستمز"، وتضمنت وثائق الحكومة البريطانية التي كشفت عنها صحيفة "فاينانشيال تايمز" خطاباً من رئيس شركة "بي إيه إي سيستمز" ريتشارد إيفانز عام 2004، يطلب من رئيس أركان بلير، جوناثان باول، فتح مناقشات مع القذافي في ليبيا.

 

بلير نفسه استمر في التواصل مع القذافي بعد تركه السلطة عام 2007، وأظهرت تقارير صحافية بريطانية أنه أجرى مكالمات عدة معه خلال الأشهر التي سبقت الثورة الليبية عام 2011

 

وبحسب الوثائق فقد شملت نقاط المناقشة "شكلاً من أشكال مذكرة التفاهم لتغطية مشاريع مدنية وعسكرية في المستقبل"، وقد نقل رئيس الوزراء آنذاك طلبات الشركة إلى الحكومة الليبية كجزء من المناقشات بين البلدين، وفقاً لتبادل الرسائل الذي أصدره مكتب مجلس الوزراء.

وأشارت رسالة إيفانز المؤرخة في الـ 22 من مارس (آذار) 2004 إلى أن شركة "بي إيه إي" كانت تعمل مع ليبيا لثلاثة أعوام "في انتظار استئناف العلاقات الطبيعية، مع عقد بقيمة 65 مليون جنيه إسترليني لبعض الأعمال الطارئة، بما في ذلك الحركة الجوية والاتصالات".

 

 

وبعد مرور أكثر من عقدين يظل هذا الفصل الليبي في حياة بلير مثيراً للجدل، فهو يجمع بين الدبلوماسية والمصالح الاقتصادية والتورط في ملفات حساسة إنسانياً وقانونياً، ليجعل من شخصية بلير رمزاً للحدود المعقدة بين السياسة والمال والأخلاقيات في العصر الحديث.

وبينما يستمر النقاش حول مدى شرعية أفعاله تظل العلاقة مع القذافي بمثابة مرآة عاكسة لكل ما يمكن أن يحدث عندما تتقاطع الطموحات السياسية مع المصالح الاقتصادية، وسط عالم يموج بالضغوط الجيوسياسية والمصالح المتشابكة.

مواقفه الكبرى: بين أوروبا وواشنطن والشرق الأوسط

ومع نهاية عقده في الرئاسة وبعد إعادة انتخابه مرتين، كان بلير قد أمر بإرسال قوات بريطانية إلى ساحات القتال أكثر من أي رئيس وزراء بريطاني آخر منذ الحرب العالمية الثانية، كما لم يتردد في خوض صراعات داخلية وخارجية حتى لو كانت قراراته غير شعبية.

لم يكن زعيماً محلياً وحسب، بل رأى نفسه لاعباً عالمياً، ففي خطاب شهير له قال إن "القوة العظمى ليست مجرد سلاح بل مسؤولية أخلاقية"، وهي جملة تلخص نظرته إلى السياسة الخارجية، ففي البلقان وقف إلى جانب تدخل الـ "ناتو" عام 1999 ضد نظام ميلوسوفيتش، مؤكداً أن "عدم التدخل يعني ترك الناس لمصيرهم أمام الإبادة"، وبذلك رسخ ما سمي بـ "مبدأ بلير": التدخل العسكري لأسباب إنسانية.

 

 

ومع الولايات المتحدة لم يكتف بالتحالف بل ربط نفسه إستراتيجياً بواشنطن، ومع بيل كلينتون كانت العلاقة طبيعية لكن مع جورج بوش الابن تحولت إلى تبعية واضحة، وقال في خطاب أمام الكونغرس الأميركي "إن بريطانيا ستقف دوماً إلى جانب أميركا، لأن قيمنا واحدة"، وهي العبارة جلبت التصفيق الحاد لكنها تركت في بريطانيا شعوراً بالحرج من أن تتحول لندن إلى تابع لواشنطن.

أما في الشرق الأوسط فحاول أن يلعب دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين لكن نتائجه كانت محدودة، فبعد خروجه من رئاسة الوزراء أصبح مبعوثاً دولياً في اللجنة الرباعية، غير أن اسمه ارتبط أكثر بمكاسب شخصية وشبكات استشارية لا بإنجازات سياسية ملموسة.

بلير والإسلام

في خريف عام 2021 قال بلير إن "الإسلام الراديكالي لا يزال الخطر رقم (1) في العالم، وحتى لو كان مركزه بعيداً منّا فإن تهديده للعالم يزداد سوءاً، ويجب اعتماد إستراتيجية مشتركة مع الصين وروسيا لمواجهة الإسلام الراديكالي"، ولم يقل توني بلير ما هي الجماعات التي تنضوي تحت اسم الإسلام الراديكالي، ولا سيما أن بلاده تؤوي كثيراً من رموز تيارات دينية يعتبرها الأزهر الشريف جماعات راديكالية، كما أن استعانة بلير بروسيا والصين اللتين تضمان أقليات مسلمة ذات ثقل، من دون توضيح ماهية جماعات الإسلام الراديكالي التي تهددهما، أشبه بتحريض على عموم المسلمين في الشرق والغرب.

 

 

وحين كان بلير رئيساً للوزراء في بريطانيا بين عامي 1997 و 2007، التقى شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي أربع مرات، اثنتان منها في مقر رئاسة الوزراء في لندن، واثنتان في مكتب طنطاوي في القاهرة، وقد طلبت الخارجية البريطانية من بلير أن يلتقط صورة مع شيخ الأزهر لتحسين صورة الحكومة البريطانية لدى مسلمي المملكة المتحدة والعالم، وكان من بين ما وصل إلى بلير في شأن أهمية لقاء شيخ الأزهر: "إنه أكبر شيخ في العالم السنّي، والأرفع مكانة والأعلى قيمة، ولقاؤه يظهر احترامنا للإسلام وتقديرنا لحوار الثقافات".

رأيه في صعود الصين

بعد تفرغه من مهماته الرسمية زار بلير الصين مرات عدة وقدم هناك محاضرات لقاء مبالغ مالية ضخمة، وقال في تصريحات صحافية إن حرب أوكرانيا أظهرت أن هيمنة الغرب تشهد نهايتها في ظل صعود الصين لتكون قوة عظمى بالشراكة مع روسيا، في أوضح نقاط التغير في المشهد العالمي منذ قرون، مضيفاً أن العالم في مرحلة تحول في التاريخ يمكن مقارنتها بنهاية الحرب العالمية الثانية أو انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن هذه المرة وبوضوح فالغرب ليس في الكفة الراجحة.

 

 

ووفقاً لنص خطاب ألقاه في منتدى لدعم التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا في ديتشلي بارك غرب لندن، قال بلير "نحن نشهد نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية"، وتابع ضمن محاضرة بعنوان "بعد أوكرانيا، ما الدروس الحالية للقيادة الغربية؟" قائلاً "سيصبح العالم ثنائي القطب في الأقل أو متعدد الأقطاب، والتغيير الجيوسياسي الأكبر في هذا القرن سيأتي من الصين وليس من روسيا"، مشيراً إلى أن حرب أوكرانيا أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب لا يمكنه الاعتماد على الصين "لتتصرف بطريقة نعتبرها عقلانية".

وقال إن "مكان الصين كقوة عظمى طبيعي ومبرر، إنها ليست الاتحاد السوفياتي"، لكنه قال إن على الغرب ألا يسمح لبكين بالتفوق عسكرياً، مضيفاً "علينا أن نزيد الإنفاق الدفاعي ونحافظ على التفوق العسكري"، ومشيراً إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها "أن تكون لهم الغلبة عسكرياً بما يكفي للتعامل مع أي احتمال أو نوع من الصراع في كل المناطق".

أخطاء

لم تكن أخطاء بلير مجرد قرارات سيئة بل تحولت إلى جرح عميق في ثقة البريطانيين بحكومتهم، وأثرت في صورة بريطانيا الدولية لعقود، ومنها:

أولاً: الحرب على العراق

 قرار بلير المشاركة في غزو العراق عام 2003 يعتبر الخطأ الأبرز في مسيرته، فقد استند إلى تقارير استخباراتية عن أسلحة دمار شامل لم تثبت صحتها لاحقاً، و"تقرير تشيلكوت" (2016) خلص إلى أن بريطانيا لم تستنفد الخيارات السلمية وأن التهديد لم يكن وشيكاً كما صور، ونتج من هذا القرار سقوط آلاف الضحايا المدنيين والعسكريين، وانهيار مؤسسات الدولة العراقية وصعود الفوضى الطائفية، وتمهيد الطريق لظهور تنظيمات متطرفة مثل "القاعدة" ثم "داعش"، إضافة إلى تراجع ثقة البريطانيين بحكومتهم، إذ خرجت أكبر تظاهرات في تاريخ البلاد ضد الحرب.

 

 

ثانياً: الارتباط المفرط بواشنطن

 بدلاً من أن يلعب دور جسر بين أوروبا والولايات المتحدة، بدا بلير وكأنه تابع للبيت الأبيض، وهذا أضر بسمعة بريطانيا كقوة مستقلة وجعلها في نظر كثيرين مجرد شريك أصغر في مشروع أميركي، فالإعلام وصفه بلقب "كلب بوش الوفي(Bush’s poodle) ، وفي أوروبا أثار هذا التوجه ريبة تجاه نيات لندن، وعزز شعوراً بأن بريطانيا ليست شريكاً موثوقاً داخل الاتحاد الأوروبي.

ثالثاً: الخلافات الداخلية مع غوردون براون

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العلاقة المتوترة بين بلير ووزير ماليته غوردون براون لم تكن مجرد خلاف شخصي بل تحولت إلى صراع يهدد وحدة حزب العمال، فبراون اتهم بلير بالمماطلة في تسليمه السلطة، بينما رأى بلير أن براون يفتقد المهارات القيادية، وهذا الصراع شل أحياناً العمل الحكومي وأضعف الحزب في مواجهة المحافظين لاحقاً، وانعكس ذلك على صورة الحكومة التي بدت خلال أعوامها الأخيرة منقسمة ومستهلكة.

رابعاً: التضحية بهوية حزب العمال

حاول بلير عبر مشروع "الطريق الثالث" دمج اقتصاد السوق الحرة مع العدالة الاجتماعية، وقد بدت الفكرة جذابة في البداية لكنها مع مرور الوقت بدت وكأنها ابتعاد من القيم التقليدية للحزب، فتراجعت ثقة الطبقة العاملة التي شعرت أن الحزب لم يعد يمثلها، وفتح الباب أمام موجة من اللامبالاة السياسية وصعود الشعبوية لاحقاً.

خامساً: ضعف الشفافية

الملف الاستخباراتي الذي استخدم لتبرير الحرب والمعروف بـ dodgy dossier قدم معلومات مضخمة عن قدرة صدام على استخدام أسلحة خلال 45 دقيقة، ولاحقاً تبين أن هذه الادعاءات لم تكن دقيقة مما أضر بصدقية الحكومة أمام البرلمان والرأي العام، وخلق شعوراً عميقاً بأن بلير ضلل البلاد من أجل أجندة أميركية.

سادساً: الحريات المدنية تحت الضغط

بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001 تبنى بلير سلسلة من القوانين الأمنية لمكافحة الإرهاب، وعلى رغم أنها هدفت إلى تعزيز الأمان لكنها تعرضت لانتقادات حقوقية واسعة باعتبارها مقيدة للحريات، ومن بينها تشديد الرقابة والاعتقالات الاحترازية، وهذه الإجراءات أثارت نقاشاً حول التوازن بين الأمن والحرية، وظلت مثار جدل حتى بعد خروجه من الحكم.

سابعاً: إرث شخصي مثير للانقسام

بعد مغادرته السلطة عام 2007 دخل بلير عالم الاستشارات والمحاضرات بمبالغ ضخمة، وحصل على عقود مع حكومات وشركات، بعضها مثير للجدل أخلاقياً، مثل استشارات لدول ذات سجل ضعيف في حقوق الإنسان، وقد عزز ذلك صورة السياسي الذي يستثمر في إرثه بدلاً من خدمته العامة، وحتى تبرعه بعائدات مذكراته لمصلحة الجنود لم يمح الانتقادات.

 

 

مذكرات

عندما أصدر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مذكراته (A Journey) عام 2010، لم يكن الكتاب مجرد سرد لمسيرة سياسية استمرت عقداً كاملاً، بل جاء بمثابة تفجير جديد لنقاشات لم تهدأ حول قرارات مفصلية في تاريخ بريطانيا الحديث.

دفاع عن حرب العراق

وأكثر ما أثار الصدمة في الكتاب هو دفاع بلير الصريح عن قرار المشاركة في غزو العراق عام 2003، فبينما كان جزء كبير من الرأي العام البريطاني ينتظر اعتذاراً أو مراجعة نقدية، أصر بلير على أنه غير نادم على إسقاط صدام حسين، مؤكداً أنه كان سيتخذ القرار نفسه حتى لو لم يحصل على تفويض من الأمم المتحدة، وهذا الموقف استفز عائلات الجنود القتلى وأعاد الجدل حول شرعية الحرب وتبعاتها الكارثية.

 

 

علاقة خاصة مع بوش

في صفحات المذكرات وصف بلير علاقته بالرئيس الأميركي جورج بوش الابن بأنها علاقة ثقة وتحالف شخصي، معتبراً أنها كانت حاسمة في القرار البريطاني المشاركة في الحرب، إلا أن هذا الاعتراف عزز صورة بلير في الإعلام المحلي كـ "تابع لواشنطن"، وهو وصف لاحقه طويلاً.

هجوم على غوردون براون

لم يتوقف الجدل عند العراق بل امتد إلى الداخل البريطاني، حيث خص بلير فصولاً مطولة لانتقاد خليفته غوردون براون، فقد اعتبره رجلاً شديد الكفاءة اقتصادياً لكنه "يفتقد إلى الصفات القيادية، ومزاجيته أضرت بالحكومة والحزب"، وهذه العبارات اعتبرت غير مألوفة في أدبيات رؤساء الحكومات السابقين، وأثارت حرجاً داخل حزب العمال الذي بدا منقسماً بين معسكري براون وبلير.

 

 

اعترافات شخصية

لم يخل الكتاب من اعترافات شخصية أثارت هي الأخرى نقاشاً، إذ كشف بلير عن أنه كان يلجأ أحياناً إلى الكحول لتخفيف ضغوط المنصب، كما تحدث عن عمق تأثير الكاثوليكية في حياته الخاصة، وهو ما كان يخفيه تجنباً للانتقادات.

المال والجدل الأخلاقي

ولم يمر صدور المذكرات دون ضجة مالية بعدما كشفت الصحافة البريطانية عن أن بلير حصل على ملايين الجنيهات كدفعة أولى من دار النشر، وعلى رغم إعلانه لاحقاً التبرع بالعائدات لمصلحة الجنود الجرحى وعائلاتهم، فإن الجدل الأخلاقي لم يخمد حول استفادته مادياً من قرارات كلفت البلاد خسائر بشرية وسياسية.

 

 

إنجازات لم تغب

وعلى رغم طغيان السجالات لم يغفل بلير استعراض ما عده أبرز إنجازاته الداخلية، من إصلاحات في الصحة والتعليم، إلى دوره في التوصل إلى "اتفاق الجمعة العظيمة" الذي أنهى عقوداً من الصراع في إيرلندا الشمالية، واعتبره الإنجاز الأهم في حياته السياسية.

سيرة

شغل منصب رئيس الوزراء 10 أعوام بين عامي 1997 و 2007، وهو مسؤول عن نقل حزب العمال من اليسار نحو الوسط في السياسة البريطانية، مما أدى إلى وصول الحزب إلى السلطة لثلاث فترات متتالية غير مسبوقة في السلطة.

 

 

ولد أنتوني بلير في السادس من مايو (أيار) 1953 في إدنبرة، وتلقى تعليمه في جامعة أكسفورد وأصبح محامياً، وفي عام 1983 انتخب عضواً في البرلمان عن حزب العمال عن مدينة سيدغفيلد، وسرعان ما أصبح معروفاً مع مجموعة من المجددين الواعين ذاتياً في الحزب، والتي شملت أيضاً غوردون براون وبيتر ماندلسون الذين سعوا إلى جعل حزب العمال أكثر قبولاً لدى الناخبين، من خلال التبرؤ من ارتباطه بالنقابات العمالية ونزع السلاح النووي من جانب واحد، والملكية العامة والضرائب المرتفعة.

وفي عام 1994، بعد الوفاة غير المتوقعة للزعيم آنذاك جون سميث، أصبح زعيماً لحزب العمال بعد أن تنحى غوردون براون جانباً لتجنب انقسام الأصوات المؤيدة للتحديث في اقتراع القيادة، فاكتسب سلطة لا جدال فيها كزعيم للحزب، وهو ما أكده فوز حزب العمال الساحق في الانتخابات العامة لعام 1997، وقد تولى السلطة رافعاً شعاراً مفاده "جيلي هو الجيل الأول الذي يمكنه أن يأمل في إمكان أن نعيش حياتنا كاملة من دون خوض حرب أو إرسال أبنائنا إلى الحرب".

وفي سن الـ 43 كان أصغر رئيس وزراء منذ اللورد ليفربول عام 1812، وقد حاول الترويج لصورة شابة وعصرية لبريطانيا التي يرمز إليها بـ "بريت بوب" و"بريت آرت" و"قبة الألفية"، وكانت بعض سياساته جذرية و لا سيما الإصلاحات الدستورية التي أعطت قدراً من الحكم الذاتي لويلز وإسكتلندا، لكن ثبت أن الوعد بإصلاح الخدمات العامة كان أقل سهولة في التنفيذ، ويبدو أن الاعتماد المثير للجدل على مبادرات المشاريع الخاصة لم يحقق التحسينات المتوقعة في النقل أو التعليم أو الرعاية الصحية.

 

 

أعيد انتخاب بلير عام 2001، وكانت ولايته الثانية أكثر اضطراباً حين هيمن عليها الخلاف مع حليفه السابق المستشار غوردون براون، وفي 2002 و2003 خاطر بلير بسلطته الشخصية بدعمه "الحرب على الإرهاب" التي شنتها الحكومة الأميركية، على رغم القلق الشديد في حزبه وبين الجمهور الأوسع، ثم أعيد انتخابه عام 2005 في ولاية ثالثة على التوالي لم يسبق لها مثيل لرئيس وزراء من حزب العمال، وفي العام نفسه ترأس قمة "مجموعة الثمانية" في غلين إيغلز وركز على قضيتي التغير المناخي وأفريقيا، واللتين أصبحتا من أولوياته المتزايدة.

تنحى بلير في يونيو (تموز) 2007 وخلفه غوردون براون كرئيس للوزراء، ونجح وحلفاؤه في جعل حزب العمال قابلاً للانتخاب مرة أخرى بعد عقدين من الزمن في المعارضة، وبالنسبة إلى منتقديه فقد تحقق هذا الإنجاز على حساب التخلي عن مبادئ الحزب، أما بالنسبة إلى مؤيديه فقد كان رجلاً مستعداً للمخاطرة بعدم شعبية الحزب في سعيه إلى تنفيذ سياسات أبرزها الحرب في العراق، والتي كان يرى أنها مبررة أخلاقياً، وقد منحته واشنطن جائزة ترضيه بعد سقوطه حين ضغطت لتعيينه عام 2007 مبعوثاً دولياً لـ "الجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط".

وعلى رغم النمو الاقتصادي المتواصل الذي سجلته بريطانيا في عهده ونسب البطالة المتدنية والإصلاحات الواسعة النطاق التي أدخلها إلى الخدمات العامة، فإن الإنجليز لم يغفروا له توريط بلادهم في الحرب على العراق حيث قتل 150 جندياً بريطانياً، كما يحكمون بقسوة على وقوفه من دون تردد إلى جانب السياسات الأميركية، حتى إن الصحافة البريطانية ألصقت ببلير وصف "كلب بوش المدلل" بعد الحرب على العراق.

اقرأ المزيد

المزيد من بيوغرافيا