ملخص
يشير ظهور "ديسكورد" في عناوين الأخبار الرئيسة إلى تحول أعمق، إذ لم تعد السياسة مقتصرة على البرلمانات أو التجمعات أو المناظرات التلفزيونية، إنما أصبحت تجري الآن داخل غرف رقمية مصممة لأغراض مختلفة تماماً.
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً بتطبيق "ديسكورد" الذي كان خلال يوم من الأيام ملتقى لعشاق وهواة الألعاب، ودخل عالم السياسة العالمية بطريقة غير متوقعة، وكان له خلال الآونة الأخيرة دور فعال في تنظيم عدد من التظاهرات التي قادها أبناء الجيل "زد".
ففي نيبال، استخدم المتظاهرون الشباب التطبيق لتجاوز رقابة الدولة وتنسيق تظاهرات على مستوى البلاد، أدت في النهاية إلى سقوط حكومة رئيس الوزراء كيه. بي. شارما أولي. وخلال الوقت نفسه، ارتبط التطبيق داخل الولايات المتحدة بقضية اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك البارزة، إذ أصبحت الآثار الرقمية على المنصة محور تحقيق جنائي. ويظهر ما ذكرناه جلياً كيف تطور تطبيق دردشة مصمم للألعاب ليصبح ساحة للصراع على السلطة السياسية.
ما هذا التطبيق؟
هذا التطبيق عبارة عن منصة مراسلة تضم أكثر من 259 مليون مستخدم نشط شهرياً يتفاعلون عبر النصوص والصوت والفيديو. ويحظى "ديسكورد" بشعبية كبيرة بين اللاعبين، ويتيح لهم تكوين مجتمعات حول "مواضيع واهتمامات ومجموعات ألعاب متنوعة"، ويعتمد على آلية تشفير خاصة به تدعى "بروتوكول ديف"، تشفر المحادثات الصوتية والمكتوبة وحتى المرئية.
أطلق "ديسكورد" عام 2015 على يد جيسون سيترون وستانيسلاف فيشنفسكي، وكان الهدف منه في البداية تمكين لاعبي الإنترنت من التواصل أثناء اللعب. وعلى مر الأعوام، تحول إلى منصة تواصل متعددة الاستخدامات تقدم قنوات نصية وصوتية وفيديو، وخوادم مجتمعية، وأدوات إدارة. وخلال فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا، وسعت إدارة "ديسكورد" نطاق تركيزها ليشمل جميع المجتمعات الإلكترونية تقريباً.
حجم الخادم الضخم للتطبيق يمكنه من العمل كقاعة افتراضية، جزء منها غرفة دردشة، وجزء قاعة مؤتمرات، وجزء شبكة اجتماعية. وعلى عكس "إنستغرام" أو "إكس"، لا يتمحور "ديسكورد" حول المشاركات العامة، بل يعزز محادثات مجتمعية منظمة، وهذا الهيكل هو ما أعطاه القدرة لينتقل من التنسيق بين اللاعبين في الألعاب المختلفة إلى تنسيق التظاهرات والاحتجاجات في شوارع العالم.
وبينما تسمح منصات مثل "واتساب" و"تيليغرام" بإنشاء مجموعات ذات سلسلة محادثات واحدة، يذهب "ديسكورد" إلى مستوى أعلى، إذ يسمح للمجموعات بالانقسام إلى قنوات متعددة. وتتكامل خيارات الصوت والنص في المنصة بطريقة تتيح للمستخدمين الانضمام إلى المحادثات من دون الحاجة إلى الاتصال المباشر مثل (سكايب) والتبديل بسهولة بين الرسائل النصية والدردشة الصوتية.
إلى ذلك تنص شروط خدمة "ديسكورد" على أنه يسمح للمستخدمين الذين تبلغ أعمارهم 13 سنة فأكثر باستخدام التطبيق. أما إذا جرى الإبلاغ عن مستخدم بأنه دون هذه السن، فسيقوم التطبيق بحظر حسابه حتى يتمكن من إثبات عمره باستخدام هوية رسمية.
دوره في الاحتجاجات الشعبية
فرضت حكومة نيبال هذا العام حظراً شاملاً على 26 منصة تواصل اجتماعي في محاولة لكبح الاحتجاجات التي قادها الطلاب والمهنيون الشباب تحت شعار "شباب ضد الفساد". ومع إيقاف التطبيقات المألوفة، انتقلت هذه المجموعات إلى "ديسكورد"، مما أدى إلى إنشاء خادم ضم أكثر من 130 ألف عضو.
لم يكن الخادم مجرد مكان للشعارات، بل أصبح مركز قيادة رقمياً، وبذلك أنشئت قنوات منفصلة للتحقق من الحقائق، وتوفير الدعم اللوجيستي للاحتجاجات، واتصالات الطوارئ الطبية، والتحديثات الميدانية. وتصرف المشرفون عليه كحراس، لضمان استئصال المعلومات المضللة والحفاظ على انضباط التواصل. وسمحت هذه البنية التحتية الرقمية للاحتجاجات بالاستمرار حتى في ظل حظر التجول وقيود الإنترنت.
وبعد أسابيع من التحريض، جرى حل البرلمان، وبرزت الحاجة إلى قائد موقت. وبدلاً من انتظار النخب السياسية لاتخاذ القرار، أجرى خادم "شباب ضد الفساد" تصويته الخاص. ومن خلال استطلاع رأي، اختار الأعضاء رئيسة القضاة السابقة سوشيلا كاركي كأول رئيسة وزراء موقتة في نيبال.
وحدث الأمر ذاته في المغرب حين نظمت حركة "جين زد 212" تظاهراتها المناهضة للحكومة في المنصة واستفادت من مزاياها المختلفة، وانسحبت هذه الظاهرة على التظاهرات التي حدثت في مدغشقر وكينيا والفيليبين وإندونيسيا وبيرو وغيرها من الدول التي شهدت تظاهرات مماثلة خلال الأشهر الماضية.
قضية تشارلي كيرك
وعلى بعد آلاف الكيلومترات، ارتبط اسم "ديسكورد" بقصة مختلفة تماماً. ففي ولاية يوتا الأميركية، قتل الناشط المحافظ تشارلي كيرك برصاصة قاتلة في فعالية سبتمبر (أيلول) الماضي، وبينما كان المحققون يجمعون خيوط الحادثة، اكتشفوا أن المشتبه فيه، تايلر روبنسون، البالغ من العمر 22 سنة، ترك وراءه سلسلة من الرسائل على "ديسكورد".
ووفقاً للتحقيقات تضمن حساب روبنسون، الذي تعرف عليه زميله في السكن، تفاصيل مثل استعادة بندقية وإخفائها، وتغيير ملابسه لتجنب لفت الانتباه، وتجهيز الذخيرة. وأصبحت هذه الرسائل دليلاً حاسماً في إعادة بناء التسلسل الزمني الذي سبق الهجوم.
هذه القضية كان لها وقع الكارثة على سمعة التطبيق عالمياً، إذ وصفته تقارير إعلامية بأنه منصة تدير التخطيط للعنف، لكن الشركة ردت بأن الرسائل لم تكن منسقة أو مشجعة داخل نظامها البيئي. وأكدت تعاونها مع السلطات.
من الألعاب إلى السياسة
ويظهر ما ذكرناه آنفاً ازدواجية غريبة للتطبيق، ففي نيبال، أصبح شريان حياة للنشاط الديمقراطي وأداة استخدمها المواطنون لترقيتها لتكون قائداً افتراضياً موقتاً. أما في الولايات المتحدة، فقد صور التطبيق كخلفية لعمل عنيف هز أركان السياسة المحافظة. وكشفت كلتا الحالتين عن حقيقة واحدة مفادها أن التطبيق لم يعد مجرد ساحة لعب لمحبي الألعاب، بل أداة سياسية قادرة على تمكين المجتمعات وإثارة قلق الحكومات في آن واحد.
ويشير ظهور "ديسكورد" في عناوين الأخبار الرئيسة إلى تحول أعمق، إذ لم تعد السياسة مقتصرة على البرلمانات أو التجمعات أو المناظرات التلفزيونية، إنما أصبحت تجري الآن داخل غرف رقمية مصممة لأغراض مختلفة تماماً. وسواء كان هذا المستقبل سيعزز الديمقراطية أو يكشف عن نقاط ضعفها، فلن يعتمد على المنصة نفسها، بل على كيفية اختيار المجتمعات لحكمها واستخدامها.
ما أهم الدول التي حظرت استخدام هذا التطبيق؟
حظرت تركيا وروسيا منصة "ديسكورد" لعدم إزالة المحتوى الذي ينتهك قوانينهما، بما في ذلك المواد الإباحية للأطفال والدعوات إلى التطرف وغيرها من المواد الضارة. وأمرت هيئة الرقابة على الاتصالات الروسية (روسكومنادزور) بإزالة ما يقارب من ألف عنصر محدد في التطبيق عدت غير قانونية، فيما أشارت السلطات التركية إلى صعوبة مراقبة التطبيق والتدخل فيه، مما أدى إلى حظره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهتها حظرت الصين التطبيق وحجبته كجزء من رقابة الإنترنت عبر "جدار الحماية العظيم"، كون السلطات هناك تنظر إليه كوسيلة لنشر العنف وخوفاً من استخدامه كبديل عن تطبيقات محلية مثل "وي تشات"، و"تينسنت كيو كيو"، و"كوك". كما أن هذا التطبيق محظور بصورة كاملة في سلطنة عمان وإيران، وهناك توجه لدى عدد من الدول العربية لحظره في المدى المنظور.
قضايا متفرقة
إضافة إلى ما ذكرناه ارتبط اسم التطبيق بقضايا جنائية، ففي الولايات المتحدة حقق مكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2023 مع تطبيق "ديسكورد" في قضايا جنائية زعم فيها استخدام المنصة لاستدراج القاصرين ونشر صور اعتداء جنسي على الأطفال.
وأظهرت التحقيقات وقتذاك أن هناك 165 حالة زعم فيها استخدام التطبيق فيما يسمى الابتزاز الجنسي، إذ ضغط على الأطفال لإرسال صور جنسية لأنفسهم أو إرسال أو استقبال صور اعتداء جنسي على الأطفال.
وأثارت ألمانيا وفرنسا مخاوف في شأن ممارسات "ديسكورد" في جمع البيانات وكيفية تعاملها مع معلومات المستخدمين، وخصوصاً المستخدمين الأصغر سناً. وغرمت الجهات التنظيمية الفرنسية المنصة 800 ألف يورو (934 ألف دولار) خلال نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2022 بسبب عدم التزامها بقواعد حماية البيانات داخل الاتحاد الأوروبي.