ملخص
السيرتان اللتان كتبهما المؤرخ البريطاني بينر أكرويد عن تشارلز ديكنز في ثمانينيات القرن الماضي، وتشارلي شابلن أواخر العقد الأول من القرن الحالي وجد النقاد والمؤرخون ما يربط بينهما ربطاً من الصعب أن نقول إنه جديد، لكنه أتى مفاجئاً مع ذلك
يعرف قراء إنجليز وغير إنجليز من قراء لغة شكسبير أن بيتر أكرويد يمكن عده واحداً من كبار الكتاب الكلاسيكيين المعاصرين في الرواية الإنجليزية. بل لعل شهرته الأساسية تتأتى بالنسبة إلى قرائه من كونه يتعامل مع شخصيات تلك الروايات وكأنها شخصيات عاشت حقاً وما عليه هو سوى أن يكتب سيرتها بعدما يجمع عنها أكبر قدر من المعلومات التي تضفي على تلك الشخصيات واقعية مدهشة.
ويعرف نقاد أكرويد على أية حال أن هذه القدرة على الربط بين الإبداع والتصوير الحي للشخصيات إنما يعود إلى كون هذا الروائي، وفي المقام الأول، بل قبل أن يكون روائياً، مبدعاً في كتابة سيرة السابقين عليه لا سيما من المبدعين. ففي المكتبات، وغالباً في صفوف أكثر الكتب غير الروائية مبيعاً، ثمة ما لا يقل عن دزينة من السير السميكة التي تتناول شخصيات عظيمة مرت على الإنسانية تاركة آثاراً رائعة في عديد من المجالات. ولعل آخر الأعمال الكبيرة التي نشرت لأكرويد في هذا المضمار سيرتان ضخمتان وجد النقاد والمؤرخون ما يربط بينهما ربطاً من الصعب أن نقول إنه جديد، لكنه أتى مفاجئاً مع ذلك. وذلك حتى وإن كان كثر من الذين قرأوا أولاهما شعروا أن صدور الثانية سيكون من نافل القول.
ولكي لا نبدأ وكأننا نرمي ألغازاً هنا، نبادر إلى القول إن السيرتين اللتين نتحدث عنهما هما تينك اللتين كتب أكرويد أولاهما عن تشارلز ديكنز في ثمانينيات القرن الماضي، ليصدر ثانيتهما أواخر العقد الأول من القرن الحالي عن تشارلي شابلن.
ديكتاتورية ومدينة
فما الذي يجمع بين هذين المبدعين عدا عن تفوق كل منهما في مجاله الإبداعي، الرواية بالنسبة إلى ديكنز، والسينما بالنسبة إلى شابلن بالطبع؟
سنستنتج من قراءتنا للسيرتين، أموراً كثيرة عرف أكرويد كيف يركز عليها حتى وإن كان يعرف كما نعرف أن الغوص فيها لم يأت بجديد. فلئن كان من المستحيل طبعاً أن يتحدث أحد عن "عناصر" شابلنية في أدب ديكنز، ليس ثمة ما هو أسهل من تحري عديد من العناصر الديكنزية في سينما شابلن. وهو ما يرتبط على أية حال بتلك الحثالة اللندنية التي غمرت طفولة كل منهما، وإن في زمنين مختلفين حيث نعرف أن ديكنز قد عاش ومات قبل عقود من ولادة شابلن. لكن طفولة هذا الأخير تذكر كثيراً إن لم يكن بطفولة ديكنز ففي الأقل بطفولة شخصيات ديكنزية شهيرة عاشت وتشردت في نفس الأماكن تقريباً التي سيولد فيها شابلن ويعيش طفولته البائسة.
ولنذكر هنا على أية حال أن أكرويد نفسه كان قد أصدر في الفترة الفاصلة بين السيرتين المذكورتين، "سيرة" لمدينة لندن بل حتى لمناطق الحثالة فيها جعلت من البديهي له أن يصل يوماً إلى سيرة شابلن رابطاً إياها بسيرة ديكنز كما نشير.
وإذا كانت لندن، كما هي في الواقع وكما صورها أكرويد في سيرته عنها، قد شكلت القاسم المشترك الأول بين ابنيها المبدعين، فإن القاسم المشترك الثاني، الذي لا يقل أهمية عن ذاك بالطبع، هو ما خلفه انتماء كل منهما إلى ذلك البعد اللندني من أبعاد أخلاقية وسلوكية ومعيشية حكمت كثيراً من سماتهما.
شابلن والديكتاتورية
ولعل من المفيد هنا أن نتوقف عند ما يتعلق بشابلن في هذا المجال، مع وقفات عابرة على ما يتعلق بديكنز، بالنظر إلى أن النص المخصص للسينمائي أثار كثيراً من الصخب والدهشة حين صدر، إذ اتبع سبيل التحليل السيكولوجي الذي في وقت كان مقبولاً أن ينطبق على الروائي، بدا مفاجئاً بصورة خاصة لأولئك الذين فاتهم دائماً أن "يكتشفوا" مقدار ما يمكن للتحليل الفرويدي أن ينطبق على أفلام شابلن بل حتى على حياته بالطبع. وهو ما يقوم به أكرويد بمهارة نادرة هو الذي منذ زمن بعيد كان يتساءل عما إذا كان يمكن تطبيق نظريات التحليل النفسي على بطل سيرته الجديدة، كما يخبرنا الآن، ويوضح في تقديمه لمئات الصفحات التي يتألف منها الكتاب المعنون بكل بساطة "تشارلي شابلن" وهو عنوان نعرف على أية حال أن ثمة ما لا يقل عن 10 دزينات من كتب تحمله كما هو وفي عشرات اللغات ناهيك بنحو 100 كتاب آخر تختلف عناوينها لكن لها جميعاً موضوعاً واحداً: سيرة شابلن.
ولا بد أن نشير في هذا السياق إلى أن من غرائب الكتب الكثيرة التي تتعلق بهذا المبدع، كون معظمها يتناول حياته وغرابتها وسلوكه بأكثر كثيراً مما يتناول فنه وأفلامه. ومن هنا ما أشرنا إليه أول هذا الكلام من أن كل ما يمكن قوله عن شابلن قيل وبأكثر مما ينبغي والتساؤل بالتالي عما يمكن أن يكون "الجديد" الذي يأتي بها أكرويد في كتابه هذا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والجديد هو وبكل بساطة الاستخدام التحليلي الجيد لكل المعلومات والحوارات المعروفة مسبقاً. وحتى في مجال الربط والمقارنة مع ديكنز. وعلى هذا النحو نجد أكرويد ومنذ الصفحات الأولى للكتاب يتوقف عند مدينة لندن ليجعل منها كمسقط لرأس شابلن ممراً يحلل من خلاله ارتباط مبدعنا بذلك المكان الذي سيخلق لديه لاحقاً كل ما سنعرفه عنه من فظاعات وسلوكيات من الصعب ربطها بما في أفلامه من حنان وغيرية، لكن في وسعنا في المقابل أن نربطها بحياته التي اتسمت بقدر كبير من الديكتاتورية، ما يذكرنا هنا تحديداً بديكنز، لا سيما في علاقاته العائلية واحتقاره للنساء وميله الحاقد إلى معاملتهن بأسوأ ما يكون، علماً أننا إذا كنا نحكي هنا عن تلك العلاقات لا بد لنا أن نتذكر أن شابلن نفسه كان يتفاخر بكونه أقام علاقات مع ما لا يقل عن 2000 أنثى في حياته من بينهن قاصرات أوصلته علاقته ببعضهن إلى المحاكم. فهل علينا هنا أن نتفق مع أكرويد حين يحلل قائلاً إن السبب "الخفي" وراء ذلك النهم النسائي إنما كان أن شابلن قد ولد من دون أن يعرف له أباً، وأن أمه كانت مومساً سعت دائماً للتخلص منه؟
كثر قالوا إن هذا صحيح لكن أحداً قبل أكرويد لم يربطه بالمدينة وبؤسها. وكذلك لم يجعل منه إرهاصاً، من ناحية أخرى بنزعته الكمالية، أي إن الأمور يجب أن تتم على أكمل وجه، التي سيطرت على إبداع شابلن وعلى حياته، من وجهة نظره هو على أية حال. وهو أمر يمكننا العثور عليه بالطبع في ثنايا السيرة التي وضعها الكاتب نفسه لتشارلز ديكنز.
أثر المدينة السلبي
من المؤكد أن هذا الدور السلبي في حياة شابلن، كما في حياة ديكنز على أية حال، هو من أهم تجديدات أكرويد في مجال الحديث عن طفولة شابلن، تلك الطفولة التي صنعته، بصورة إيجابية كفنان قدم للبشرية بعض أعظم إبداعات القرن الـ20، ولكن بصورة سلبية كإنسان لا يمكن القول إلا أنه كان، وباعترافه نفسه، كان سيئ السلوك في عديد من المجالات هذا إذا افترضنا على أية حال أن من الأمور السيئة أن يكون المرء مسيطراً في عمله ديكتاتورياً في إبداعه، وميالاً إلى الكمال في إنجازاته، حتى ولو أدى به ذلك إلى سحق المحيطين به وتدمير النساء من حوله والمخلصين من خلانه... معتبراً أن ذلك هو الثمن الحقيقي للإبداع الفني وحتى إن لم ير أنه لن يكون هو من يستوجب عليه دفعه بل الآخرون، في نظرية قد تبدو شديدة الأنانية هنا، لكنها بالتأكيد لن تكون إلا برداً وسلاماً على النتائج الإبداعية نفسها.
وسيبدو غريباً أن نصل مع بيتر أكرويد إلى هذا الاستنتاج الذي لا شك أنه يتسم للوهلة الأولى بقدر كبير من الغلظة والتجاوز على المشاعر الإنسانية ولكن، فقط حتى اللحظة التي قد يحلو لنا، وبإيحاء من أكرويد نفسه أن نتذكر بعد كل شيء أن ذلك "الديكتاتور الفاسق" نفسه قد أسعد في طريقه مئات الملايين من البشر، لا سيما منهم أولئك الذين لم يعرفوا شيئاً عن الحياة الحقيقية التي كمنت في خلفية ذلك كله؟