الأزمات الاقتصادية

5 من الأسوأ في التاريخ

في الدول الرأسمالية، تتضمن الدورة الاقتصادية العادية جولات من النمو والركود كل عدة سنوات، لكن حين يصبح الركود الاقتصادي عميقاً ويطال أكثر من دولة في العالم، نصبح أمام "أزمة".

الدورة الاقتصادية

الدورات الاقتصادية للدول، التي تقاس عادة بنسب ارتفاع أو انخفاض النمو الاقتصادي، أي بمعدلات الناتج الإجمالي المحلي للبلد، تشمل أربع مراحل أساسية تستمر لفترات طويلة ويصعب التنبؤ بها.

التوسع أو الازدهار أو الانتعاش

فترة نمو اقتصادي تمتاز بارتفاع الاستثمارات والإنتاج وانخفاض البطالة.

القمة أو الذروة

فترة يصل فيها النمو الاقتصادي إلى أقصى درجة. تمتاز بارتفاع الأسعار والإنتاج قبل أن يبدأ النمو بالهبوط.

الركود أو الانكماش أو التراجع

فترة تشهد انخفاضاً في الإنتاج وارتفاعاً في البطالة مع تباطؤ النشاط الاقتصادي وانعدام النمو. وغالباً ما تشهد هذه المرحلة انهيار مؤسسات مالية وشركات بسبب صعوبة الاقتراض.

الكساد

فترة ركود عميق تسود فيها البطالة ويستمر انخفاض النمو وينهار مستوى المعيشة لفترة طويلة.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الأزمة المالية العالمية عام 2008، شهد الاقتصاد العالمي أكثر من 11 ركوداً، لكنه في أكثر من قرن لم يشهد سوى حالة كساد واحدة هي الكساد الكبير بعد الحرب العالمية الأولى. إليكم في ما يلي نماذج لخمسة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم، جميعها في القرن الأخير وواحدة من القرن الـ18. أغلب هذه الأزمات بدأ من الولايات المتحدة أو كانت هذه الدولة الأكثر تأثراً بها، بسبب حجم الاقتصاد الأميركي الأكبر في العالم.

أزمة الائتمان
1772

واحدة من أقدم الأزمات الاقتصادية المسجلة في العالم، بدأت بانهيارات بنوك في لندن ثم امتدت إلى دول أخرى منها هولندا. غير أن فتيل الأزمة اشتعل في العالم الجديد، أي في المستعمرات الأميركية لبريطانيا، حيث تضخمت قروض المزارعين لا سيما مزارعي التبغ، فتخلفوا عن سداد ديونهم للبنوك البريطانية، ما تسبب في أول أزمة مصرفية في التاريخ الحديث واجهها البنك المركزي البريطاني.

كانت شركة الهند الشرقية، أكبر شركات مستعمرات الإمبراطورية البريطانية حينها، الأكثر تضرراً من تلك الأزمة ومنيت بخسائر هائلة. ولأن بريطانيا كانت أكبر اقتصاد في ذلك الوقت، أدت انهيارات البنوك فيها إلى انكماش ائتماني شديد حول العالم، فتوقف الإقراض والاقتراض تقريباً إلى أن انتهت الأزمة.

ويشير كثير من الاقتصاديين إلى أن تلك الأزمة كانت بداية ما يعرف الآن بـ"رأس المال المغامر". فمنذ منتصف القرن الـ18 ونتيجة التوسع في المستعمرات، خصوصاً المستعمرت البريطانية في أميركا الشمالية، زاد الإقبال على الاقتراض ونشطت البنوك في الإقراض، لتبدأ بالتوازي مضاربات قوية في البورصات باستثمارات عالية المخاطر.

عدوى الانهيار تسارعت في أوروبا، ففي غضون أسبوعين في يونيو (حزيران) 1772، كانت ثمانية بنوك في لندن قد انهارت فيما انهار 20 بنكاً في أوروبا. إثر ذلك، اضطرت بريطانيا عام 1773 إلى تنفيذ قوانين جديدة في مستعمراتها الأميركية لتقييد الائتمان بهدف الخروج من الأزمة. واعترضت المستعمرات الأميركية على احتكار شركة الهند الشرقية استيراد الشاي، ورفضت بعض الولايات الشاي المستورد وخرجت تظاهرات حاشدة يقال إنها كانت انطلاق ما أصبح يُعرف "حزب الشاي في بوسطن".

ومع أن ظروف الاقتراض تحسنت، إلا أن الأزمة أسهمت في اندلاع الحرب الأهلية الأميركية في الربع الأخير من القرن الـ18، التي قادت في النهاية إلى استقلال الولايات المتحدة الأميركية.

أم لسبعة أطفال عمرها 32 عاماً (مكتبة كونغرس ولاية كاليفورنيا)

أم لسبعة أطفال عمرها 32 عاماً (مكتبة كونغرس ولاية كاليفورنيا)

مدينة أكواخ بُنيت في مدينة سياتل الأميركية خلال الأزمة الاقتصادية بين عامي 1932 و1937 (أرشيف ولاية واشنطن)

مدينة أكواخ بُنيت في مدينة سياتل الأميركية خلال الأزمة الاقتصادية بين عامي 1932 و1937 (أرشيف ولاية واشنطن)

عاطلون عن العمل يصطفون أمام مطبخ يقدم حساءً مجانياً في مدينة شيكاغو الأميركية في فبراير 1931 (ويكيميديا)

عاطلون عن العمل يصطفون أمام مطبخ يقدم حساءً مجانياً في مدينة شيكاغو الأميركية في فبراير 1931 (ويكيميديا)

الكساد الكبير
1929

هو أكبر صدمة اقتصادية عالمية في القرن الماضي وحتى الآن. بدأ في سبتمبر (أيلول) 1929 بانهيار البورصة في نيويورك وكان انهيارها الكبير في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الذي أصبح يعرف باسم "الخميس الأسود".
فقدت السوق الأميركية أكثر من نصف قيمتها، ويعتبر كثير من الاقتصاديين أن تلك كانت شرارة الكساد الكبير.

الانهيار الهائل في البورصة الأميركية امتد تأثيره إلى العالم كله، الذي شهد ركوداً عميقاً أصبح كساداً لطول مدته وزيادة حدته. وتأثرت كل الدول بهذه الأزمة، فتراجعت التجارة العالمية بنحو 50 في المئة ووصلت معدلات البطالة في بعض البلدان إلى 33 في المئة.

انهارت الصناعات وتحولت مدن صناعية كبرى إلى مدن أشباح، وأفلس التجار والمزارعون مع انخفاض أسعار المحاصيل بأكثر من 60 في المئة. وإجمالاً، تدهورت الدخول حول العالم وتراجع بالتالي دخل الحكومات من عائدات الضرائب والرسوم. وأفلست بنوك وشركات وانهارت قيمة العملات، حتى إن من لديه مدخرات أصبحت بلا قيمة تقريباً.

الناتج المحلي الإجمالي العالمي

استمر الكساد الكبير من 1929 إلى 1932 أو 1933. وبدأت اقتصادات بعض الدول بالتعافي في منتصف ثلاثينيات القرن الـ20. لكن أغلب الاقتصادات الرئيسة لم تخرج من الكساد إلا مع الحرب العالمية الثانية، التي تطلبت نشاطاً صناعياً عسكرياً هائلاً أعاد النشاط للاقتصادات الأوروبية. إنما التعافي الأنشط كان في الولايات المتحدة التي واكبت متطلبات الحرب في أوروبا فيما بقيت المعارك بعيدة عن أراضيها. وبحلول 1941، كان الاقتصاد الأميركي الذي بدأ منه الكساد الكبير على عتبة مرحلة نمو جعلته في ما بعد أكبر اقتصاد في العالم.

صاحب محطة محروقات بولاية بنسلفانيا الأميركية يكتب إعلاناً بنفاد المحروقات لديه خلال أزمة نفط 1973 (أ ب)

صاحب محطة محروقات بولاية بنسلفانيا الأميركية يكتب إعلاناً بنفاد المحروقات لديه خلال أزمة نفط 1973 (أ ب)

العودة إلى استخدام عربات الخيول خلال أزمة نفط 1973 (الأرشيف الوطني الهولندي)

العودة إلى استخدام عربات الخيول خلال أزمة نفط 1973 (الأرشيف الوطني الهولندي)

سائق دراجة هوائية في باريس يضع إعلاناً على ظهره يطالب فيه بتأمين المحروقات في نوفمبر 1973 (أ ف ب)

سائق دراجة هوائية في باريس يضع إعلاناً على ظهره يطالب فيه بتأمين المحروقات في نوفمبر 1973 (أ ف ب)

أزمة النفط
1973

هي أول أزمة نفط عالمية، بدأت في أكتوبر 1973 حين قررت الدول العربية المنتجة للبترول بقيادة العاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز، فرض حظر نفطي على الدول التي تساند إسرائيل في حربها مع العرب في ذلك الوقت.

وأدى الحظر إلى نقص الوقود في محطات البنزين بالدول الغربية المستهلكة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وارتفعت معدلات التضخم بشدة في الاقتصادات الرئيسة ودخل الاقتصاد في ركود عميق نتيجة نقص المعروض من محروقات الطاقة التي تعتبر المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي.

ويحمل أرشيف الصحف الأوروبية في ذلك الوقت صوراً مؤثرة تصدرت الصفحات الأولى لطوابير السيارات المتوقفة لعدم توفر الوقود، وعناوين أكثر إثارة عن قلة وقود التدفئة في شتاء ذلك العام.

وكان الاقتصاد الأميركي، الأكبر في العالم، الأكثر تضرراً، كما تضررت اقتصادات دول أوروبا المستوردة للنفط وكذلك دول أخرى في آسيا. واستمرت الأزمة حتى عام 1974، حين رفعت الدول العربية الحظر. لكن أسعار النفط كانت قد ارتفعت بضعة أضعاف ما جعل التعافي الاقتصادي بطيئاً. وهذا ما أطال أمد الركود الاقتصادي ليصبح "أزمة" نتيجة تراجع النمو العالمي لأكثر من عام.

أدى الحظر العربي للنفط إلى ارتفاع سعر برميل النفط

يناير 1974

كانت السمة الأهم للأزمة هي ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصادات الرئيسة حول العالم بمعدلات مرتفعة جداً، في وقت لم تكن أسعار الفائدة منخفضة بشدة أساساً. وحين بدأت البنوك المركزية استخدام سياسة التشديد النقدي عبر رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، تدهور النشاط الاقتصادي ودخل العالم في ركود عميق.

انهارت العملات في عدد من الدول الآسيوية إثر أزمة 1997 (أ ف ب)

انهارت العملات في عدد من الدول الآسيوية إثر أزمة 1997 (أ ف ب)

امتدت تداعيات الأزمة الآسيوية عام 1997 إلى عدد من الدول الغربية (أ ف ب)

امتدت تداعيات الأزمة الآسيوية عام 1997 إلى عدد من الدول الغربية (أ ف ب)

عاملون في بورصة ساو باولو البرازيلية قبل ساعة من الإقفال وسط انهيار الأسهم بأكثر من 14 في المئة إثر الأزمة الآسيوية عام 1997 (أ ف ب)

عاملون في بورصة ساو باولو البرازيلية قبل ساعة من الإقفال وسط انهيار الأسهم بأكثر من 14 في المئة إثر الأزمة الآسيوية عام 1997 (أ ف ب)

الأزمة الآسيوية
1997

تسمى أيضاً "أزمة العملات الآسيوية"، بدأت في يوليو (تموز) 1997 من تايلاند حيث قامت الحكومة بتعويم العملة وفك ارتباطها بالدولار الأميركي في أعقاب استنفاد البلاد احتياطاتها من النقد الأجنبي. وكان الهدف من التعويم وقف انهيار سعر الصرف والمضاربة على العملة التايلاندية.

انتقلت العدوى إلى ماليزيا والفيليبين وإندونيسيا والدول التي كانت شهدت فورة نمو وعرفت بـ"النمور الآسيوية"، وهي كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ. فهذه الدول كانت اعتمدت نموذج تنمية يشجع الاستثمار، لكنه أيضاً يراكم ديوناً هائلة. وبحلول أكتوبر، وصلت الأزمة إلى كوريا الجنوبية لتجعل الحكومة على وشك الإفلاس والتخلف عن سداد ديونها.

الدول المتأثرة بالأزمة

مؤسسات مالية كثيرة في العالم، من بنوك وصناديق استثمار، كانت منكشفة على الخطر الائتماني الآسيوي. وحين انفجرت فقاعة الديون وانهارت العملات الآسيوية، اضطر صندوق النقد الدولي لتقديم قروض إنقاذ لبعض الدول. لكن ذلك لم يكن كافياً لإنقاذ العالم من ركود عميق أطول من المعتاد. وكانت الدول الغربية، في أوروبا وأميركا واليابان، الأكثر تضرراً لخسارة مؤسساتها المالية وصناديقها بشدة نتيجة الأزمة، سواء بسبب شطب ديون الدول وبالتالي خسارة المستثمرين في السندات أو نتيجة انهيار العملات وخسارة المضاربين على العملات الآسيوية.

برزت إثر أزمة العملات الآسيوية وتنتج عن العمليات التالية

يقترض المستثمر من بلد نسبة الفائدة فيه منخفضة، كالاقتصادات الغربية

يأخذ الأموال ويضعها في في بلد نسبة الفائدة فيه مرتفعة، كما كان الحال في آسيا

يحقق أرباحاً سهلة ومرتفعة خلال وقت قصير بسبب فارق سعر الفائدة

عند الاستحقاق، يُخرج المسثتمر أمواله من البلد مستفيداً من سعر صرف عملته المحلية

يزداد الضغط على عملة البلد المعني بسبب هروب الرساميل وانخفاض احتياطيات العملات الصعبة

مستثمر أمام شاشة تظهر انهيار أسعار الأسهم في بورصة كوالا لمبور بماليزيا في سبتمبر 2008 (أ ف ب)

مستثمر أمام شاشة تظهر انهيار أسعار الأسهم في بورصة كوالا لمبور بماليزيا في سبتمبر 2008 (أ ف ب)

موظف في مكاتب بنك "ليما براذرز" في سيول يتحدث على الهاتف في سبتمبر 2008 (أ ف ب)

موظف في مكاتب بنك "ليما براذرز" في سيول يتحدث على الهاتف في سبتمبر 2008 (أ ف ب)

مقر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في واشنطن (أ ف ب)

مقر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في واشنطن (أ ف ب)

الأزمة المالية العالمية
2008

هي أحدث أزمة عالمية بدأت من القطاع المالي وشملت كل جوانب الاقتصاد وأدت إلى ركود اقتصادي عالمي عميق استمر أكثر من عام ونصف العام، وما زال النظام المالي العالمي يعاني آثارها حتى الآن.

بدأت مقدمات الأزمة في عام 2007 من القطاع العقاري الأميركي الذي وصل إلى قمة غليانه في ذلك الوقت، وتوسعت مؤسسات الإقراض وشركات السمسرة المالية في شهادات ضمان القروض العقارية ما شكل "فقاعة مالية" انفجرت بمجرد تغير منحنى أسعار العقارات في السوق الأميركية نحو الهبوط.

وأصبحت تلك الأوراق المالية لا تساوي قيمة الورق الذي طُبعت عليه، فتعرضت بنوك استثمارية كبرى ومؤسسات وصناديق لخسائر هائلة نتيجة انكشافها على تلك المشتقات المالية المرتبطة بقروض الرهن العقاري.

ويشار لشرارة الأزمة بانهيار بنك "ليما براذرز" الكبير في الولايات المتحدة في خريف عام 2008. وسرعان ما انتشرت العدوى، فانهار بنك "نورذرن روك" في بريطانيا وغيره من المؤسسات المالية في دول أخرى. واستمرت الأزمة التي بدأت بوادرها في ديسمبر (كانون الأول) 2007 حتى يوليو (تموز) 2009.

اضطرت الحكومات إلى تقديم حزم إنقاذ هائلة، أكبرها في الولايات المتحدة التي طرحت قانون الانتعاش وإعادة الاستثمار بحزمة مساعدات بقيمة 787 مليار دولار. ومنذ ذلك الحين، فرضت اللسطات النقدية والمالية في أغلب الدول قيوداً جديدة على القطاع المصرفي في محاولة لتفادي أزمة مماثلة. منها على سبيل المثال إلزام البنوك والمؤسسات المالية بسقف عال من السيولة التي يجب أن تتوفر لديها للتعامل مع أي أزمة طارئة، كي لا تضطر الحكومات لإنقاذ تلك المؤسسات من أموال دافعي الضرائب.

وهذا ما جعل السلطات المالية والنقدية الأميركية، ممثلة في الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) ووزارة الخزانة تتدخل بسرعة بطريقة مختلفة مع انهيار مصارف إقليمية في الولايات المتحدة في مارس (آذار) 2023. إذ سارعت إلى توفير السيولة من البنوك الكبرى أو عبر الإقراض الميسر من البنك المركزي للبنوك المتعثرة بدلاً من تقديم إنقاذ مالي حكومي من أموال دافعي الضرائب. أما السلطات السويسرية فضغطت على بنك "يو بي أس" كي يستحوذ على بنك "كريدي سويس" المنهار تفادياً لسلسلة انهيارات لا تحمد عقباها.

كتابة
أحمد مصطفى

تحرير وإعداد
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
عمر المصري

الإشراف على التنفيذ
نوف الحربي

رئيس التحرير
عضوان الأحمري