"سوريا الأسد"
من حافظ إلى بشار

منذ أواخر الأربعينيات، عرفت سوريا سلسلة من الانقلابات أطاحت بزعماء دمشق الواحد تلو الآخر. من حسني الزعيم أول الانقلابيين العرب، مروراً بسامي الحناوي وأديب الشيشكلي وغيرهم وصولاً إلى انقلابات حزب البعث.
20 عاماً من الاضطرابات والصراعات السياسية انتهت بانقلاب أخير عام 1970، قاده حافظ الأسد وكرس بعده حكم آل الأسد لسوريا.


بدايات حافظ الأسد
في سن الـ16، ومن داخل أروقة الاتحاد الوطني للطلبة في حزب البعث العربي الاشتراكي، بدأ حافظ الأسد نشاطه السياسي في سوريا، تدرج في المسؤوليات فترأس فرع الاتحاد في محافظة اللاذقية حيث كان يتابع تعليمه، ثم أصبح رئيساً لاتحاد الطلبة على مستوى البلاد عموماً.
في عام 1952 التحق حافظ الأسد بالأكاديمية العسكرية في حمص ليتخرج بعد ثلاثة أعوام برتبة ملازم طيار ويبدأ مسيرته في الجيش السوري الذي فتح له أبواب السلطة.
في عام 1958 أعلنت مصر وسوريا الوحدة بينهما تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وكان شرط الرئيس المصري جمال عبدالناصر لتحقيق ذلك حل جميع الأحزاب في سوريا. استجاب حزب البعث الداعم للوحدة لطلب عبدالناصر وأعلن حل نفسه، وهي خطوة أثارت اعتراضات داخل الحزب، لا سيما أنه عقب إعلان الوحدة بين الدولتين اتضح للسوريين أن عبدالناصر يتخذ منحى أكثر ديكتاتورية، إذ عمل على حصر الحياة السياسية في القاهرة التي أصبحت مقراً لسلطات الدولة المركزية، وأبعد السوريين عن مراكز صنع القرار وألحق عدداً من الضباط البعثيين بمقار خدمة في مصر بعيداً من سوريا.
مع تصاعد النفوذ المصري وتقييد الحريات في دمشق وتهميش دورها، فضلاً عن تراجع الوضع الاقتصادي، اجتمع خمسة ضباط سوريين كانوا يخدمون في مصر حينها، هم محمد عمران وصلاح جديد وعبدالكريم الجندي وحافظ الأسد وأحمد المير، وشكلوا سراً عام 1960 نواة ما بات يعرف لاحقاً باللجنة العسكرية لحزب البعث التي لعبت دوراً أساساً في رسم مستقبل سوريا. هؤلاء الضباط اجتمعوا حينها على الاعتراض على حل حزب البعث ورفض الهيمنة المصرية على "الجمهورية المتحدة"، وحرصوا على إبقاء اتصالاتهم سرية.
في أثناء ذلك كان السخط في أوساط السوريين وخيبة أملهم في مشروع الوحدة يرتفعان بسبب حرمانهم من مراكز السلطة وإقصائهم عن صنع القرار. وفي الـ28 من سبتمبر (أيلول) 1961، قاد عدد من الضباط السوريين انقلاباً عسكرياً في دمشق سيطروا خلاله على مقار الجيش والإذاعة والمطار، وسطروا بذلك نهاية "الجمهورية العربية المتحدة" وهي بعد فتية، وأعادوا الاستقلال إلى دمشق تحت راية "الجمهورية العربية السورية".
حافظ الأسد يقف على جناح طائرة برفقة زملائه في كلية الطيران خارج حلب (ويكيميديا)
حافظ الأسد يقف على جناح طائرة برفقة زملائه في كلية الطيران خارج حلب (ويكيميديا)
الرئيس السوري شكري القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر يوقعان اتفاقية الوحدة بين بلديهما في دمشق في الأول من فبراير 1958 (أ ف ب)
الرئيس السوري شكري القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر يوقعان اتفاقية الوحدة بين بلديهما في دمشق في الأول من فبراير 1958 (أ ف ب)
أعضاء اللجنة العسكرية البعثية يحتفلون بنجاح الانقلاب العسكري
أعضاء اللجنة العسكرية البعثية يحتفلون بنجاح الانقلاب العسكري
لقاء لأعضاء الحكومة السورية عام 1963 (من اليسار إلى اليمين) جمع وزير الدفاع السوري محمد عمران وأحمد حسن الخطيب ومحمد باشي ورئيس وزراء سوريا صلاح الدين البيطار (الثاني من اليمين) والرئيس السوري أمين الحافظ (أ ف ب)
لقاء لأعضاء الحكومة السورية عام 1963 (من اليسار إلى اليمين) جمع وزير الدفاع السوري محمد عمران وأحمد حسن الخطيب ومحمد باشي ورئيس وزراء سوريا صلاح الدين البيطار (الثاني من اليمين) والرئيس السوري أمين الحافظ (أ ف ب)
جنود أردنيون قرب دبابة مدفونة خلال المعارك مع الفدائيين الفلسطينيين في ما بات يعرف بأحداث "أيلول الأسود" (أ ف ب)
جنود أردنيون قرب دبابة مدفونة خلال المعارك مع الفدائيين الفلسطينيين في ما بات يعرف بأحداث "أيلول الأسود" (أ ف ب)
انقلاب تحت مظلة "الثورة"
عقب الانقلاب اختار العسكريون البقاء خارج مؤسسات السلطة السياسية وتشكلت حكومة مدنية ضمت شخصيات من السياسيين القدامى. شهدت تلك المرحلة انقسامات داخل حزب البعث بين مؤيدين للإبقاء على الوحدة مع مصر ومعارضين لها، كما عرفت توتراً في العلاقات بين حزب البعث والحكومة، لا سيما أن هذه الأخيرة سرحت عدداً من الضباط البعثيين الذين اعتبرتهم سبباً للوحدة مع مصر، بمن فيهم ضباط "اللجنة العسكرية" السرية الخمسة.
على الأثر بدأ ضباط "اللجنة العسكرية" التخطيط للاستيلاء على السلطة وتقاطعت مصالحهم مع ميشال عفلق، الأمين العام للقيادة القومية في حزب البعث. وفيما كان هؤلاء يخططون بتأنٍّ، شهد العراق المجاور في فبراير (شباط) 1963 حدثاً تاريخياً، وهو نجاح حزب البعث في الاستيلاء على السلطة في بغداد.
في ضوء المستجدات الإقليمية، اكتسبت "اللجنة العسكرية" في سوريا مزيداً من الزخم وحددت الساعة الصفر لتنفيذ انقلاب بدورها في دمشق، ولضمان نجاح تحركها بنت اللجنة شبكة تحالفات شملت ضباطاً ناصريين وقوميين وبعثيين. وفي الثامن من مارس (آذار) 1963، حلت ساعة "الثورة" كما أطلقوا عليها، ونجح حزب البعث في تنفيذ انقلاب عسكري، لتبدأ في ذلك التاريخ حقبة حكم الحزب الواحد لسوريا.
استعاد ضباط اللجنة العسكرية وغيرهم من الضباط المسرحين أدوارهم في الجيش وراحوا يحكمون قبضتهم على السلطة، مما تسبب في مواجهات وتصفية حسابات داخل حزب البعث نفسه، فيما تصاعدت الخلافات أيضاً مع الناصريين الذين حاولوا تنفيذ انقلاب في يوليو (تموز) 1963 لكنهم فشلوا. وفي وجه كل ذلك اتخذت اللجنة الخماسية قراراً بمواجهة كل أشكال المعارضة بالحسم والقمع، فأبعدت المعارضين عن مراكز القرار في الدولة والجيش واستبدلت بهم آخرين على أسس الولاء لها والطائفية، وذلك على رغم فقدانها التأييد الشعبي الذي كان يميل حينها للقومية العربية وليس لحزب العبث.
البعث وإطاحات الداخل
في أبريل (نيسان) 1964 واجه الحكام الجدد تحدياً كبيراً مع خروج احتجاجات نظمها الإخوان المسلمون في حماة، في ضوء ذلك بدأت الخلافات تظهر في أوساط اللجنة العسكرية نفسها، إذ سعى محمد عمران إلى المصالحة مع المحتجين، فيما أراد رئيس الأركان صلاح جديد وحافظ الأسد سحق الاحتجاجات وعدم التسامح مع أي من أشكال المعارضة، وهو ما حصل بالفعل. وسط هذه الأجواء أبعد محمد عمران إلى إسبانيا حيث عين سفيراً، فيما نال حافظ الأسد ترقية استثنائية رفعته من رتبة مقدم إلى لواء دفعة واحدة وعين قائداً للدفاع الجوي.
ومع تصاعد الخلافات داخل حزب البعث أصبح هناك فريقان: الأول يسيطر على القيادة القومية للحزب ويضم أشخاصاً مثل أمين الحافظ ورئيس الوزراء صلاح الدين البيطار وميشال عفلق، والثاني يسيطر على القيادة القطرية للحزب ويضم أشخاصاً مثل صلاح جديد وحافظ الأسد. بلغ الصراع بين الطرفين أوجه مع قرار اللجنة القومية لحزب البعث حل القيادة القطرية، فيما استدعى أمين الحافظ محمد عمران من إسبانيا وعينه وزيراً للدفاع، وهما قراران اعتبرتهما اللجنة العسكرية انقلاباً عليها.
في الـ23 من فبراير 1966 نفذت اللجنة العسكرية بقيادة صلاح جديد وتأييد حافظ الأسد، وبالتحالف مع القيادة القطرية لحزب البعث، انقلاباً على القيادة القومية وأطاحت حافظ الأمين وميشال عفلق ومحمد عمران ونفتهم تباعاً إلى خارج سوريا، ومن ثم عين نور الدين الأتاسي رئيساً جديداً للبلاد وتخلى صلاح جديد عن منصبه العسكري ليصبح الرجل الأول في سوريا عبر توليه منصبي نائب الرئيس وأمين عام مساعد للقيادة القطرية لحزب البعث، فيما عين حافظ الأسد وزيراً للدفاع.
الانقلاب الأخير
في الخامس من يونيو (حزيران) 1967، كان للصراع العربي - الإسرائيلي محطة جديدة. في ذلك التاريخ، اندلعت الحرب بين إسرائيل من جهة وكل من العراق ومصر وسوريا والأردن من جهة أخرى، في ما بات يعرف لاحقاً بـ"النكسة" أو حرب الأيام الستة. تكبدت الدول العربية خسائر كبيرة في هذه المواجهة وسيطرت إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء في مصر وهضبة الجولان في سوريا.
على وقع مرارة الخسارة، بدأت الخلافات تظهر بين رفيقي السلاح، فبعد الهزيمة وجه صلاح جديد سهامه نحو حافظ الأسد، منتقداً أداء وزارة الدفاع خلال الحرب لا سيما قرارها بسحب الجيش وإعلان سقوط القنيطرة وتأخر القوات الجوية في دعم نظيرتها الأردنية.
في المقابل كان الأسد يرى أن جيشه غير مؤهل لمواجهة القوات الإسرائيلية، وفي النهاية ألقي اللوم على قائد العمليات في الجبهة السورية أحمد المير وأقصى من منصبه، لكن المسألة لم تنته هنا، بل زرعت بذور الشقاق بين جديد والأسد وراحت خلافاتهما تتفاقم، ولتعزيز نفوذه أحكم الأسد قبضته على الجيش السوري عبر ملئه بالموالين والمخلصين له ومنع الاتصالات بين الضباط والقيادة المدنية لحزب البعث.
ومع وقوع أحداث ما يعرف بـ"أيلول الأسود" في الأردن عام 1970، الذي شهد معارك بين الجيش الأردني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية أو ما يعرف بـ"الفدائيين"، وصلت الخلافات بين صلاح جديد وحافظ الأسد إلى أوجها، فبعدما قررت القيادة السورية دعم الفلسطينيين بتدخل عسكري مباشر عارضه الأسد ورفض إسناده بالقوات الجوية، مني الجيش السوري بهزيمة كبيرة أمام القوات الأردنية، إثر ذلك حملت القيادة القطرية لحزب البعث الأسد ورئيس الأركان اللواء الركن مصطفى طلاس المسؤولية، وقررت إقالتهما من منصبيهما.
هذا القرار شكل الدافع الأخير لتمرد الأسد، فشن بالتعاون مع عدد من الضباط الموالين له عملية انقلاب في الـ16 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، اعتقلوا خلالها كل خصومهم وعلى رأسهم صلاح جديد ونور الدين الأتاسي اللذان أودعا في سجن المزة.
اغتيل في منفاه في لبنان في الـ14 من مارس 1972
توفي عام 1995 في سجن المزة حيث أمضى 25 عاماً
انتحر عام 1969 تاركاً رسالة تحذير من طموحات الأسد
حمل هزيمة حرب الـ67 وأخرج من الحياة السياسية
رئيس سوريا على مدى 29 عاماً
ترؤس سوريا
أطلق الأسد على انقلابه عنوان "الحركة التصحيحية" في حزب البعث، وعملاً بحسابات دقيقة، ترك منصب رئاسة الجمهورية سنياً موقتاً مع أحمد الحسن الخطيب، فيما تولى هو رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الدفاع تمهيداً لاحتكار كل السلطات.
فبعد أقل من أربعة أشهر، وفي استفتاء شعبي كان فيه المرشح الوحيد، انتخب حافظ الأسد في الـ12 من مارس 1971 رئيساً لسوريا لمدة سبعة أعوام بموافقة أكثر من 99 في المئة من المستفتين وفق الحكومة، ليكون بذلك أول رئيس بعثي علوي في التاريخ السوري. وفي حزب البعث كما في الدولة، احتكر الأسد السلطة، إذ عين الأمين العام القومي والقطري للحزب.
مع وصوله إلى سدة الرئاسة بدأ الأسد يحيك نظاماً غير قابل للإسقاط وحصيناً بوجه الانقلابات، وتطلب ذلك مظلة تضفي على النظام الشرعية وتحميه من أي محاولات تمرد، لذلك عين الأسد مجلس شعب مؤلفاً من 173 شخصاً اختارهم جميعاً بنفسه وأوكل إليهم مهمة وضع دستور جديد للبلاد، وبعد نحو عامين أبصر الدستور النور وطرح على الاستفتاء الشعبي في الـ13 من مارس 1973.
في الصناديق، حصد الدستور تأييد جميع السوريين، لكن في الحقيقة أثار سخط كثر، فقد منح الدستور رئيس البلاد صلاحيات واسعة وشبه مطلقة على جميع السلطات، فهو رئيس السلطة التنفيذية ويتمتع بحق إصدار المراسيم منفرداً وبإسقاط قوانين أقرها البرلمان، وهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء ومن يعين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وهو بالطبع القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وولايته تمتد سبعة أعوام قابلة للتجديد بلا قيود.
أكثر من ذلك نص الدستور على أن حزب البعث الاشتراكي هو "الحزب القائد للدولة والمجتمع"، فأصبحت بذلك عضوية الحزب ممراً شبه إلزامي إلى كل مراكز السلطة والقرار وحتى الوظائف في الدولة، مما دفع آلاف السوريين إلى الانضمام إليه، فرضت أفكار الحزب وسردياته على المجتمع السوري انطلاقاً من المناهج الدراسية في المدارس والجامعات.
أمنياً، أحكم الأسد قبضته على البلاد عبر الجيش وأجهزة عسكرية واستخباراتية عدة كانت فوق القانون والمساءلة والمحاسبة، وحرصت على قمع أي معارضة للنظام. غابت الحريات السياسية والاقتصادية، وحول الأسد حزب البعث إلى أداة في يده لا أثر للمعارضة أو الاختلاف داخله، بينما أبقى على جميع القوانين المقيدة للحريات بما فيها قانون حالة الطوارئ الذي بقي سارياً طوال فترة حكمه.
وبفضل قبضته الحديدية على سوريا، كان حافظ الأسد يفوز بالتمديد الرئاسي كل سبعة أعوام في استفتاءات شعبية لا منازع له فيها، تكررت في أعوام 1978 و1985 و1992 و1999.

محطات في حكم حافظ الأسد
شهد حكم حافظ الأسد محطات مفصلية عدة في تاريخ سوريا نفسها والشرق الأوسط بأسره، من لبنان إلى العراق فالخليج.
1973
في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام شنت مصر وسوريا هجوماً مشتركاً مباغتاً على إسرائيل في محاولة لاستعادة ما خسرتاه في نكسة الـ67. في الأيام الأولى للمعارك حققتا تقدماً في جبهتي قناة السويس ومرتفعات الجولان، لكن سرعان ما استعادت إسرائيل زمام المبادرة وتقدمت ميدانياً مدعومة من واشنطن. انتهت الحرب بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع القاهرة في الـ24 من أكتوبر الذي مهد لاتفاق السلام لاحقاً بين البلدين، فيما استمرت حرب الاستنزاف مع سوريا وانتهت بتوقيع الطرفين اتفاق فك الاشتباك في الـ31 من مايو (أيار) 1974، الذي انسحبت بموجبه إسرائيل من الأراضي التي سيطرت عليها في حرب أكتوبر ومن مدينة القنيطرة فيما أبقت على احتلالها للجولان.
1976
في هذا العام دخلت القوات السورية إلى لبنان الغارق بحرب أهلية بناءً على طلب الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في مارس. وفيما كان دخولها أولاً لمساندة القوى المسيحية بوجه الفصائل الفلسطينية المسلحة، سرعان ما انقلب الأمر وبدأت مواجهاتها مع القوى المسيحية المسلحة التي رفضت وجود قوات سورية في مناطقها.
انتزعت سوريا غطاءً عربياً ودولياً لوجودها العسكري في لبنان عبر قرار جامعة الدول العربية في أكتوبر من العام نفسه بنشر قوة حفظ سلام باسم "قوة الردع العربية"، التي اقتصرت لاحقاً على القوات السورية. استمر الوجود العسكري السوري في لبنان طوال ثلاثة عقود، تحكمت خلالها دمشق بجميع مفاصل الحياة السياسية حتى انسحابها عام 2005.
1979
مع وصول صدام حسين إلى سدة الرئاسة في العراق في يوليو 1979، تدهورت العلاقات سريعاً بين بغداد ودمشق، إثر اتهام صدام الأسد بالتآمر عقب إحباط مؤامرة مزعومة لإطاحة الحكومة العراقية. وعلى وقع الخلافات المتصاعدة بين الزعيمين والتقارب بين دمشق وطهران بعد نجاح الثورة في إيران، اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية في سبتمبر 1980.
وفي موقف خارج عن الإجماع العربي قرر حافظ الأسد دعم طهران في هذا النزاع، مما دفع العراق إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع سوريا في حين تصاعدت التوترات بين دمشق والعواصم العربية.
1982
منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا شاب التوتر علاقاته مع جماعة الإخوان المسلمين الذين حاولوا مراراً التمرد على السلطة العلمانية، فنفذوا عمليات اغتيال استهدفت البعثيين والعلويين وصولاً إلى محاولة اغتيال الأسد، من دون أن تنجح محاولاتهم في تحقيق أهدافها.
رد النظام السوري على هذه المحاولات بحظر الإخوان وبحملات قمع دامية لأي تحركات يجرونها، وبلغ التصعيد بين الطرفين أوجه في فبراير 1982، حين شن الجيش السوري حملة عسكرية واسعة ضد الإخوان في مدينة حماة، فحاصر المدينة واستهدفها بالقصف المدفعي ودمرها فوق رؤوس قاطنيها، مما أسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص حسب التقديرات، لتعرف هذه الأحداث لاحقاً بـ"مجزرة حماة".
1983
في نوفمبر 1983 أصيب حافظ الأسد بأزمة قلبية أدخلته في غيوبة لساعات عدة. رأى شقيقه الأصغر رفعت الأسد، الذي أشرف على مجزرة حماة وكان صاحب نفوذ كبير في البلاد، فرصة ذهبية للاستيلاء على السلطة، لكن محاولته باءت بالفشل إثر تعافي الرئيس. انتهى الأمر برفعت الأسد في المنفى خارج سوريا وتخلص حافظ بذلك من أحد أكبر منافسيه على السلطة.
2000
في الـ10 من يونيو 2000، أصيب حافظ الأسد بأزمة قلبية بعد أعوام من المعاناة مع مرض سرطان الدم. رحل الرجل الذي حول سوريا على مدى 30 عاماً إلى دولة عبادة الزعيم، والذي عمت صوره وتماثيله مدن البلاد كافة. رحل حافظ لكن وفاته لم تنه حكم آل الأسد لسوريا، بل أدخلت البلاد حقبة جديدة مع الابن الوريث.

استدعاء على عجل
صحيح أن بشار الأسد ولد لأب يحكم سوريا، لكن الشاب كان بعيداً من الحياة السياسية، فقد اختار دراسة طب العيون في جامعة دمشق وتخرج فيها عام 1988، ثم التحق بمستشفى ويسترن للعيون في لندن ليتابع دراساته العليا. في العاصمة البريطانية، التقى بشار زوجته المستقبلية: أسماء الأخرس، شابة متحدرة من إحدى أبرز العائلات السنية السورية وحاملة الجنسية البريطانية.
في عام 1994 حصل ما لم يكن في الحسبان، باسل الأسد، الشقيق الأكبر لبشار والوريث المفترض لكرسي أبيه، توفي في حادثة سيارة قرب دمشق. أصبح حافظ في حاجة إلى خلف جديد، فاستُدعي بشار على عجل من لندن ليبدأ مسيرة إعداده لتولي السلطة.
فور قدومه إلى سوريا بدأت ورشة تحضير بشار للمستقبل الذي ينتظره، التحق أولاً بالأكاديمية العسكرية في حمص حيث تعلم على أيدي ثلة من الضباط أسس الحكم والعلاقات الدولية. ولإصقال مهاراته السياسية كلف عام 1998 بملف لبنان الذي كان يتولاه نائب الرئيس عبدالحليم خدام، أحد المنافسين المحتملين للرئاسة. وسعياً إلى تقديمه إلى الشعب السوري بأبهى حلة، عين بشار رئيساً لمكتب تلقي شكاوى وطعون المواطنين، حين قاد حملة تحت شعار "محاربة الفساد"، أسفرت عن إطاحة جميع منافسيه المحتملين.
في الـ10 من يونيو 2000، حلت ساعة الحقيقة من دون إنذار، توفي حافظ بأزمة قلبية فيما كان بشار لا يزال في الـ34 من عمره، مما جعله غير مستوفٍ الشرط الدستوري الذي حدد سن الـ40 حداً أدنى لتولي الرئاسة، لكن في دولة الأسد لا شروط تسري على الأسرة الحاكمة، إذ سرعان ما عقد مجلس الشعب جلسة عدل فيها الدستور وخفض السن القانونية إلى 34. وبذلك، ترشح بشار الأسد للرئاسة وتولى المنصب في الـ10 من يوليو إثر استفتاء بلا منافس نال فيه تأييد أكثر من 97 في المئة من الناخبين. وبصفته رئيساً لسوريا عين أيضاً قائداً عاماً للقوات المسلحة السورية وأميناً قطرياً لحزب البعث.
بشار الأسد يشاهد إجراء عملية في العيون (كاميرا برس)
بشار الأسد يشاهد إجراء عملية في العيون (كاميرا برس)
بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس (أ ف ب / سانا)
بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس (أ ف ب / سانا)
سوريون يشيرون إلى دائرة "نعم" الخضراء على بطاقة اقتراع لبشار الأسد في دمشق، 28 يونيو 2000، قبل الاستفتاء الوطني في 10 يوليو (سانا/أ ف ب)
سوريون يشيرون إلى دائرة "نعم" الخضراء على بطاقة اقتراع لبشار الأسد في دمشق، 28 يونيو 2000، قبل الاستفتاء الوطني في 10 يوليو (سانا/أ ف ب)
الانفجار الذي أودى برئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في بيروت (أ ف ب)
الانفجار الذي أودى برئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في بيروت (أ ف ب)
ربيع دمشق لم يزهر
مع تولي بشار السلطة، تأمل السوريون بأن يزيل الخلف مظالم السلف، فالطبيب الشاب الوافد مع زوجته البريطانية من لندن، قدم نفسه كرجل ديمقراطي إصلاحي يحمل مشروعاً سينقل سوريا إلى الأضواء.
في بداية عهده ضخ بشار نفحة من الحرية في دمشق، إذ سمح بإقامة ندوات ثقافية ونقاشات سياسية، وفي ظل أجواء من الحرية الجزئية راح المعارضون يقيمون اجتماعات ومنتديات وأمسيات نقاشية في منازلهم، مطالبين بمنسوب أكبر من الحريات وبالتعددية السياسية والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإلغاء حال الطوارئ السارية في البلاد منذ عام 1963.
لكن فسحة الأمل هذه سرعان ما أقفلت بحملة قمع خاطفة، اعتقلت خلالها السلطات مئات المعارضين ونفت آخرين وكممت أفواههم، لينطفئ "ربيع دمشق" في غضون سبعة أشهر فقط وتعود سوريا إلى شتائها القارس.
الخروج من لبنان
في الـ14 من فبراير 2005 هز انفجار ضخم وسط بيروت وأصابت شظاياه قصر الشعب في دمشق، ففي ذلك التاريخ اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في انفجار سيارة مفخخة في العاصمة اللبنانية، وسرعان ما وجهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري، إذ كانت العلاقة بين الأسد والحريري متوترة وتخللتها تهديدات صريحة من دمشق.
هذا الاغتيال أشعل انتفاضة في لبنان عرفت بـ"ثورة الأرز" أو "انتفاضة الاستقلال"، فبعد شهر على الاغتيال خرج مئات آلاف اللبنانيين في الـ14 من مارس بتظاهرة عارمة ملأوا خلالها شوارع بيروت مطالبين بخروج القوات السورية من لبنان تحت شعار "حرية، سيادة، استقلال".
وتحت وطأة الضغوط الإقليمية والدولية اضطرت سوريا أخيراً إلى سحب قواتها من لبنان. وبحلول الخامس من مايو 2005 غادر آخر جندي سوري الأراضي اللبنانية، لتنتهي بذلك الوصاية السورية على لبنان بعد ثلاثة عقود.
الثورة السورية
مع هبوب رياح "الثورات" في الدول العربية بدأ السوريون يستشعرون فرصة لالتقاط نسمتهم من الحرية المأمولة. وفي مارس 2011 تجرأ عدد من الطلاب في درعا على كسر المحظور، فسطروا على أحد جدران مدرستهم عبارة "إجاك الدور يا دكتور".
عبارة واحدة كانت كفيلة بصب غضب النظام على الطلاب واعتقالهم، لكن الترهيب هذه المرة لم يمر مرور الكرام، إذ سرعان ما خرجت تظاهرات في درعا مطالبة بإطلاق سراحهم، ولم يستغرق الأمر طويلاً قبل أن تعم الاحتجاجات مختلف أنحاء البلاد، من دمشق إلى حمص وحماة وبانياس وحلب واللاذقية ودوما وإدلب، متأثرة بانتفاضات الدول العربية وباستياء من الفساد المتفشي والبطالة المرتفعة والحريات المفقودة، وصولاً إلى رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
لم يتوان نظام الأسد عن استخدام العنف والقوة لقمع الاحتجاجات مستخدماً النار الحي، مما دفع عدداً من العسكريين والضباط إلى الانشقاق عن الجيش ليبدأ صراع دموي أسفر عن سقوط مئات آلاف القتلى وتهجير الملايين. توالت العقوبات الغربية على نظام الأسد وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع دمشق لكن من دون أي جدوى.
فقد الأسد شرعيته أمام المجتمع الدولي وبدأ يفقد سيطرته على الأراضي السورية أمام زحف الفصائل المسلحة المعارضة وظهور تنظيم "داعش" الإرهابي، فوجد نفسه مضطراً إلى طلب النجدة من الخارج. أتته يد العون أولاً من إيران ووكلائها وعلى رأسهم "حزب الله"، قبل أن تتدخل روسيا عسكرياً بشكل حاسم في الصراع في سبتمبر 2015 تحت عنوان محاربة "داعش"، لتعيد الزخم للنظام.
للقضاء على معارضيه، لجأ الأسد إلى سياسة الحصار والتجويع واستخدم كل أنواع الأسلحة بما فيها الكيماوية. وبعد 13 عاماً من النزاع أصبحت سوريا مقسمة إلى مناطق نفوذ عدة لكل منها رعاة خارجيون، حاز النظام السوري دعم روسيا وإيران، ونالت فصائل المعارضة دعم تركيا، أما الأكراد فأنشأوا "قوات سوريا الديمقراطية" التي حظيت بدعم غربي وأدت دوراً أساساً في دحر تنظيم "داعش" والقضاء عليه.


السقوط المدوي
مع هدوء صوت الرصاص نسبياً في سوريا أعادت الدول العربية انفتاحها على النظام اعتباراً من عام 2023 واستعادت دمشق مقعدها في جامعة الدول العربية. بدأ الأسد يتنفس الصعداء بينما كان السوريون يدفنون حلمهم بالحرية. لم يكن أحد يعلم أن الشرق الأوسط بأسره على موعد مع حدث سيقلب عقارب الساعة ويغير وجه المنطقة.
في السابع من أكتوبر 2023 شنت حركة "حماس" المدعومة من إيران هجوماً مفاجئاً داخل الأراضي الإسرائيلية، قتل خلاله 1218 شخصاً معظمهم مدنيون وخطف 251 آخرون.
الرد الإسرائيلي فاق كل التوقعات، إذ فتحت تل أبيب حرباً لا رحمة فيها على قطاع غزة ودمرته فوق رؤوس ساكنيه، ليلقى أكثر من 48 ألف شخص مصرعهم. تزامناً، وغداة انطلاق الحرب في غزة، فتح "حزب الله" جبهة إسناد للقطاع من جنوب لبنان، ما لبث أن تحولت بعد أشهر إلى حرب دامية دمرت خلالها إسرائيل القسم الأكبر من ترسانة الحزب العسكرية وقضت على الصف الأول من قياداته بمن فيهم أمينه العام حسن نصرالله.
فتح الحوثيون في اليمن بدورهم جبهة إسناد للقطاع وراحوا يستهدفون بصواريخهم ومسيراتهم السفن في البحر الأحمر ومدن جنوب إسرائيل، لترد هذه الأخيرة بضربات استهدفت صنعاء نفسها. حتى إيران وجدت نفسها مضطرة مرتين إلى إطلاق الصواريخ مباشرة على إسرائيل، مما كاد يتسبب بانزلاق الحرب إلى مواجهة إقليمية كبرى.
وسط هول المشهد، حاول الأسد البقاء بمنأى عن الصراع، فلم يصدر حتى أي بيان إدانة لما يحصل في غزة والمنطقة، لكن ذلك لم يكن كافياً لإبعاد النيران الإسرائيلية عن سوريا، إذ لاحقت الغارات الإسرائيلية عناصر "حزب الله" وإمداداته وصولاً إلى دمشق، وتحولت سوريا بأسرها ساحة محتملة لضربات تل أبيب.
في خضم هذه الأجواء العاصفة، كانت فصائل المعارضة السورية تتجهز وتحيك مخططاً سرياً اقتربت ساعته، فما إن وضعت الحرب في لبنان أوزارها إثر التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في الـ26 من نوفمبر 2024، حتى بدأت التطورات تتلاحق في سوريا.
في الـ27 من نوفمبر تصدرت دمشق المشهد: قوات المعارضة بقيادة "إدارة العمليات العسكرية" التي يترأسها أحمد الشرع، تدخل حلب وتسيطر على المدينة في غضون ثلاثة أيام فقط من دون أي مقاومة تذكر من جانب قوات النظام. وفي مشهد لم يكن حتى الأمس القريب وارداً في المخيلات حتى، بدأت قوات الأسد تنسحب من مدينة تلو الأخرى على وقع تقدم المعارضة في أرياف إدلب فحماة وحمص وأخيراً دمشق التي وصلتها ليل السابع من ديسمبر (كانون الأول). في هذه الليلة، أدرك الأسد أن جيشه قد انهار والمؤازرة الخارجية غير متوافرة وغير مجدية، لم يعد أمامه سوى خيار واحد: الفرار.
من دون أن يبلغ أحداً من المقربين منه، توجه بشار على عجل نحو مطار حميميم في مدينة اللاذقية الساحلية، حيث وفرت له روسيا مرة جديدة طوق نجاة بطائرة نقلته إلى موسكو حيث كانت عائلته قد سبقته.
وفجر الثامن من ديسمبر 2024، دخلت قوات المعارضة قصر الشعب وفتحت أبوابه مجدداً أمام السوريين، لينتهي بذلك حكم آل الأسد لسوريا بعد 54 عاماً من القمع والاعتقالات والاختفاء القسري وكم الأفواه. سقط بشار وكان سقوطه مدوياً، تكشفت معه حقائق التعذيب في سجون النظام وإمبراطورية المخدرات وصناعة الكبتاغون. في لحظة لم يتوقعها أحد، سقطت "سوريا الأسد" لتحيا سوريا.

