كيف يحكم بابا الفاتيكان نحو 1.4 مليار كاثوليكي في العالم؟

الزعيم النازي أدولف هتلر وصفها بأنها "إحدى السياسات الدولية الأكثر خطورة ودقة". المؤرخ الأميركي الشهير وول ديورانت قال إنها أهم تنظيم بشري قائم منذ ألفي عام. أما الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت فعد أن الجالس على رأسها يمارس "إحدى أفضل الوظائف في العالم" وقدرته تعادل قدرة جيش مؤلف من 200 ألف رجل.

وإن كانت الأحوال قد تبدلت من عصر بونابرت إلى يومنا هذا، إلا أن بعض الأمور لم تتبدل، بما فيها أهمية مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية كمرجعية دينية تاريخية وعالمية وكمنظمة فاعلة في الساحة الدولية. وفيما يضرب تاريخ هذه المؤسسة في جذور التاريخ، إلا أن عصر الفاتيكان كدولة مستقلة بصورتها الحالية لم يبدأ سوى في القرن الـ20.

فكيف أصبح الفاتيكان أصغر دولة مستقلة في العالم، كيف يسير الحكم فيها، وكيف يدير حبرها الأعظم شؤون نحو 1.4 مليار من أتباع كنيسته؟ الإجابات في جولتنا على مؤسسات الحكم في الفاتيكان وتوزيع السلطات فيه.

تأسيس دولة الفاتيكان

لم تنتزع دولة الفاتيكان استقلالها عن إيطاليا بسهولة، فالأمر تطلب زهاء 60 عاماً لإيجاد حل لـ"المسألة الرومانية". بدأ الصراع في منتصف القرن الـ19 مع انطلاق حملة توحيد شبه الجزيرة الإيطالية، التي نجحت بالفعل بضم ولايات الشمال والجنوب وإعلان قيام مملكة إيطاليا في عام 1861، فيما بقيت فقط بعض الولايات المحيطة بروما تحت سلطة الدولة البابوية وذلك بحماية قوات الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث. لكن بعد أقل من 10 أعوام، وفي ظل الحرب الفرنسية - البروسية التي بدأت في يوليو (تموز) 1870، وجدت مملكة إيطاليا الفرصة سانحة لتوسيع أراضيها بعد انسحاب القوات الفرنسية من البلاد، فاستولت في سبتمبر (أيلول) 1970 على روما، آخر أراضي الدولة البابوية.

على رغم الخسائر الميدانية التي تكبدتها الدولة البابوية، رفض البابا بيوس التاسع الاستسلام والقبول بشروط المملكة الإيطالية، والتي شملت عرضاً بأن ينتقل إلى مكان إقامة آخر وأن يصبح مواطناً إيطالياً. وعوض ذلك، تمسك البابا بمطلبه بالحفاظ على سيادة واستقلال السلطة البابوية وأغلق على نفسه أبواب الفاتيكان حيث تحصن معلناً نفسه "سجيناً سياسياً". ومنذ ذلك الحين، ظل جميع البابوات المتعاقبين "سجناء الفاتيكان"، وعرف الصراع بين المملكة الإيطالية والكنيسة الكاثوليكية بـ"المسألة الرومانية" حتى إبرام اتفاقية لاتران.

في 11 فبراير (شباط) 1929، وبعد نحو ثلاثة أعوام من المفاوضات، توصلت الحكومة الإيطالية الفاشية بقيادة بنيتو موسوليني والكرسي الرسولي بقيادة البابا بيوس الـ11، إلى اتفاق وقع في التاريخ المذكور بقصر لاتران ووضع حداً لـ"المسألة الرومانية". الاتفاق الذي عرف بـ"اتفاقية لاتران" ودخل حيز التنفيذ إثر المصادقة عليه في السابع من يونيو (حزيران) 1929، شمل ثلاث معاهدات نصت على الاعتراف بالفاتيكان ككيان ذات سيادة مستقل عن الدولة الإيطالية ومدار من قبل البابا، رأس الكرسي الرسولي الكاثوليكي. كما نص الاتفاق على خضوع كل الكنائس والأديرة في مدينة روما و23 موقعاً آخر خارج أسوار الفاتيكان، لإدارة هذا الأخير المباشرة. وشملت "اتفاقية لاتران" مبلغاً مالياً سنوياً تدفعه الحكومة الإيطالية لسلطة الفاتيكان تعويضاً عن الخسائر التي مني بها الكرسي الرسولي.

وبموجب "اتفاقية لاتران"، أصبح الفاتيكان دولة مستقلة نظامها ملكي مطلق يترأسه البابا بصلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية شاملة.

البابا بيوس التاسع

البابا بيوس التاسع

رئيس الوزراء الإيطالي بنيتو موسوليني والكاردينال بيترو غاسباري يوقعان معاهدات لاتران (غيتي)

رئيس الوزراء الإيطالي بنيتو موسوليني والكاردينال بيترو غاسباري يوقعان معاهدات لاتران (غيتي)

الجغرافيا والديموغرافيا

على تلة صغيرة قرب الضفة اليمنى لنهر التيبر، وعلى مساحة لا تتعدى 0.44 كيلومتر مربع (44 هكتاراً)، تقع مدينة دولة الفاتيكان، أصغر دولة في العالم ومقر قيادة الكنيسة الكاثوليكية.

تحيطها العاصمة الإيطالية روما من كل جوانبها ويفصلها عنها سور يحدد معظم حدود الدولة، ويعود بناؤه إلى القرون الوسطى وعصر النهضة، ويضم خمسة مداخل إلى المدينة محمية أمنياً. أما المدخل السادس إلى الفاتيكان، فهو عند الحدود الجنوبية الشرقية للدولة عبر مدخل ساحة القديس بطرس، حيث الحدود مفتوحة وعبورها متاح للجميع من دون قيود.

وبسبب صغر حجم أراضيها، تملك دولة الفاتيكان أملاكاً خارج حدودها الإقليمية في روما وإيطاليا، وتتمتع هذه الأملاك بموجب القانون الدولي بحصانة الوكلاء والأملاك الدبلوماسية للدول الأجنبية، وتضم مقار عديدة من هيئات ومكاتب الكرسي الرسولي. وتشمل هذه الأملاك أكثر من 10 مبان في روما وقلعة غاندولفو، المقر الصيفي للبابا في منطقة ألبان هيلز.

حالياً، يبلغ عدد مواطني دولة الفاتيكان 673 مواطناً، يعيش 458 منهم داخل أسوار الدولة، بمن فيهم 120 عضواً في الحرس السويسري البابوي، مما يعني أن نحو 30 في المئة من مواطني الفاتيكان لا يقيمون داخل الدولة، وذلك غالباً بسبب وظائفهم الدبلوماسية. وفيما يشكل الكهنة والراهبات من جنسيات مختلفة جزءاً كبيراً من سكان الدولة، يوجد فيها أيضاً مدنيون يعملون في وظائف السكرتارية والتجارة والخدمات.

جواز دولة الفاتيكان

جواز دولة الفاتيكان

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن اكتساب جنسية الفاتيكان ليس مشابهاً لأي قانون تجنيس في العالم، إذ لا تمنح الجنسية بالولادة ولا بالإقامة الطويلة، بل تمنح لمن يعيشون في الفاتيكان بسبب عملهم أو منصبهم أو لمن يعملون في السلك الدبلوماسي للكرسي الرسولي، ولا تكون الجنسية دائمة الصلاحية، فعند انتهاء الوظيفة أو المنصب الذي يستدعي منحها الفرد، يتم سحبها منه.

المصدر: بيانات الفاتيكان حتى 20 يونيو 2024

المصدر: بيانات الفاتيكان حتى 20 يونيو 2024

اللغة والثقافة

للفاتيكان نشيد وطني وعلم خاص يتألف من شطرين عموديين متوازيين أحدهما أصفر والثاني أبيض، وفي وسط الشطر الأبيض يوجد شعار النبالة الخاص بمدينة الفاتيكان، وهو مؤلف من مفتاحي القديس بطرس المتصالبين يصل بينهما حزام أحمر ويعلوهما التاج البابوي.

وبما أن سكان الفاتيكان من جنسيات مختلفة في الأساس، فلا تأخذ الدولة في حد ذاتها لغة رسمية لها، إنما يعتمد الكرسي الرسولي اللغة اللاتينية لغة رسمية تصدر بها جميع الوثائق والمعاهدات. وبحكم الأمر الواقع والموقع الجغرافي، تستخدم اللغة الإيطالية بصورة واسعة في الفاتيكان، ومن ثم اللغة الألمانية كونها اللغة الأكثر انتشاراً في سويسرا من حيث يأتي الحرس البابوي.

لدولة الفاتيكان نظام الهاتف الخاص بها، ومكتب بريد، ووسائل إعلام تشمل صحيفة "L’Osservatore Romano" اليومية التي تأسست عام 1861 ومحطة إذاعية شيدت عام 1931 وتبث في جميع أنحاء العالم بلغات مختلفة، وحدائق، ومرصد فلكي، ونظام مصرفي.

ورغم أنها الدولة الأصغر في العالم، فإن دورها وأهميتها يتجاوزان حدودها الإقليمية ويطالان معظم الدول. فالفاتيكان هو مقر الكرسي الرسولي ومركز قيادة الكنيسة الكاثوليكية في العالم التي يتبعها نحو 1.39 مليار شخص، بحسب إحصاءات الفاتيكان حتى نهاية 2022.

فضلاً عن ذلك، تبرز أهمية الفاتيكان ككنز ثقافي وإرث تاريخي للبشرية جمعاء، إذ تضم في مبانيه وكنائسه ومتاحفه مجموعة كبيرة من أرقى الأعمال الفنية التي صنعها الإنسان على مر العصور والتي لا تقدر بثمن، وتحوي مكتبته آلاف الأعمال الفكرية، العديد منها يعود إلى ما قبل وأوائل المسيحية.

مكتبة الفاتيكان

أكثر من 180 ألف مخطوطة

أكثر من مليون و600 ألف كتاب مطبوع

نحو 9 آلاف كتاب من الأيام الأولى للطباعة قبل عام 1500

أكثر من 300 ألف عملة معدنية وميدالية

أكثر من 150 ألف مطبوعة

أكثر من 200 ألف صورة فوتوغرافية

آلاف الرسومات والنقوش

المصدر: موقع مكتبة الفاتيكان

ومن أبرز معالم دولة الفاتيكان، ساحة القديس بطرس وكاتدرائيته التي شيدت فوق قبره في القرن الرابع وأعيد بناؤها في القرن الــ16 لتكون أكبر كنيسة في العالم من حيث السعة إذ تتسع لأكثر من 20 ألف شخص جالسين ونحو 60 ألفاً واقفين. وتضم هذه الكاتدرائية منحوتات لبعض من أهم الفنانين، بمن فيهم مايكل أنغلو ورافايلو سانزيو وجان لورينزو برنيني وكارلو مادرنو.

كل ذلك أعطى هذه الدولة أهمية كبيرة، دفعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) عام 1984 إلى إدراج مدينة الفاتيكان في قائمتها للتراث الثقافي والطبيعي العالمي باعتبارها كنزاً للإنسانية.

(غيتي)

(غيتي)

الاقتصاد والأمن

كسائر دول العالم، تسك الفاتيكان عملتها النقدية، وبعدما كانت تصدر عملة خاصة بها، أصبحت تعتمد حالياً اليورو، عملة دول الاتحاد الأوروبي. كما تصدر طوابع بريدية خاصة بها. وبما أن مساحة الدولة المدينة محدودة للغاية ولا مصانع أو شركات فيها، ولا حتى مستشفى، تستورد الفاتيكان جميع الإمدادات تقريباً بما في ذلك الطعام والمياه والكهرباء والغاز.

وعلى الصعيد المالي، لا توجد ضريبة دخل ولا قيود على استيراد أو تصدير الأموال ولا رسوم جمركية، مما يجعل السلع في الفاتيكان أرخص منها في روما ورواتب الموظفين أعلى بسبب غياب الضرائب والاقتطاعات. أما مداخيل الدولة فتتأتى بصورة أساسية من المساهمات الطوعية لملايين الكاثوليك حول العالم، فضلاً عن الفائدة على الاستثمارات وبيع الطوابع والعملات المعدنية والمطبوعات.

أما في الشق الأمني، فليس في الفاتيكان مؤسسات عسكرية أو قوات برية أو جوية أو بحرية، بل يتولى الحرس السويسري البابوي مسؤولية حماية البابا والأملاك التابعة للكرسي الرسولي بما في ذلك تلك الواقعة خارج الحدود الإقليمية للدولة، وذلك منذ تأسيسه عام 1506. كما يقوم الحرس السويسري بمهام التشريفات لدى استقبال الوفود الأجنبية المهمة. ولا يحق لأي كان الانضمام إلى الحرس السويسري البابوي، فهناك بعض الشروط التي ينبغي أن يلبيها، ومنها مثلاً أن يكون رجلاً يحمل الجنسية السويسرية وكاثوليكياً ملتزماً، وأتم التدريب العسكري الإلزامي في الجيش السويسري، ولا يقل عمره عن 19 سنة ولا يزيد على 30.

وإلى جانب الحرس السويسري، في الفاتيكان شرطة تتولى مسؤولية الأمن الداخلي للدولة وأمن حدودها والحفاظ على النظام العام فيها وتنظيم حركة المرور والتحقيق في الحوادث. أما الدفاع عن الفاتيكان في حال تعرضها لأي هجوم، فهو مهمة ملقاة على عاتق الجيش الإيطالي بحسب بنود اتفاقية لاتران.

رويترز

رويترز

الحكم وإدارة الدولة

بمعزل عن الشق الروحي والديني الذي تلعبه الفاتيكان بصفتها مقراً للكرسي الرسولي والجهة المخولة إدارة شؤون الكنيسة الكاثوليكية في العالم، فهي أيضاً دولة معترف بها وباستقلالها وتتطلب إدارتها نظام حكم واضح المعالم. من هنا، تعتمد دولة مدينة الفاتيكان نظام الملكية المطلقة، إذ يتمتع البابا بالسلطة الكاملة تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً، وإنما لا يمارس جميع هذه السلطات منفرداً أو فعلياً، بل تساعده أجهزة متخصصة تقوم بعملها باسمه.

انتخاب البابا

ينتخب مجمع الكرادلة البابا فيتولى المنصب مدى حياته وتكون صلاحياته مطلقة على رأس الكنيسة الكاثوليكية ودولة الفاتيكان.

في حال شغور الكرسي البابوي بسبب الوفاة أو العجز أو الاستقالة، تنتقل صلاحيات البابا إلى مجمع الكرادلة الذي يُستدعى لانتخاب خلف جديد. يضم المجمع كرادلة من مختلف قارات العالم على ألا يتجاوز عددهم 120 وألا يتجاوز عمر أي منهم الـ80.

بعد 15 يوماً على الشغور، يلتئم مجمع الكرادلة في الكنيسة السيستينية المشرفة على ساحة القديس بطرس لينتخبوا أحداً منهم بابا جديداً، ويكونون خلال هذه الفترة معزولين تماماً عن العالم الخارجي، فلا يستعملون الهواتف ولا الحواسيب ولا يقرأون الصحف أو يستمعون للأخبار، حتى إنه لا يحق لهم تبادل الأحاديث مع الموظفين الذين يخدمونهم حتى تحافظ عملية الانتخاب على سريتها ولا تخضع لأي ضغوط خارجية.

خلال الأيام الثلاثة الأولى من عمليات التصويت، يحتاج المرشح لثلثي أصوات المجمع للفوز بالانتخاب، ومن ثم تصبح الغالبية البسيطة كفيلة بتحديد البابا الجديد. وإذا تعذر الانتخاب، فيحق لعميد المجمع إدارة التصويت بطرق جديدة كحصر التنافس بين مرشحين. وعند فشل كل دورتين انتخابيتين، يجمع عميد المجمع أوراق الاقتراع ويضيف إليها مواد خاصة ويحرقها فينبعث عبر مدخنة الفاتيكان دخان أسود يدل على فشل الانتخاب، أو دخان أبيض يؤكد إتمام عملية الانتخاب. وفي الغالب، تتجمع الحشود في ساحة القديس بطرس وتترقب وسائل الإعلام لون الدخان الذي يتصاعد كل مرة من مدخنة الفاتيكان لمعرفة نتيجة عملية التصويت.

بعد إتمام الانتخاب، يقسم الكرادلة يمين الطاعة للبابا الجديد الذي بدوره يختار اسماً بابوياً يحمله طوال عهده قبل أن يطل على الجماهير المحتشدة في الساحة ليتلو صلاة المباركة. وغالباً ما يكون قداس التنصيب في الأحد الأول بعد الانتخاب.

السلطة التشريعية

باسم البابا، تتولى "اللجنة البابوية لدولة مدينة الفاتيكان" السلطة التشريعية التي تصدر القوانين والتشريعات، وهي مؤلفة من مجموعة كرادلة وأعضاء آخرين يرأسهم كردينال في منصب رئيس اللجنة ويعينهم جميعاً البابا لمدة خمسة أعوام. في حال غياب رئيس اللجنة، يتولى الرئاسة أولاً العضو الأقدم في التعيين، ثم الأكبر سناً.

في الغالب، تستعين اللجنة في إعداد مشاريع القوانين بمستشاري الدولة والمكتب القانوني لحاكمية الدولة وخبراء آخرين، وتعود لها مهمة تفسير القوانين. وبعد موافقتها على مشاريع القوانين، لا تصدر القوانين سوى بعد موافقة البابا عليها. وبصفته صاحب السلطة الأعلى، قد يختار البابا الاحتفاظ لنفسه حصراً بالبت ببعض الشؤون التشريعية.

وبصفتها مسؤولة عن السلطة التشريعية، تتولى اللجنة البابوية أيضاً دراسة موازنة الدولة وبتها سنوياً، فيما تتولى هيئة مؤلفة من ثلاثة أعضاء تعينهم اللجنة لثلاثة أعوام، مهمة الرقابة على تنفيذ الموازنة والتدقيق فيها ورفع التقارير إلى اللجنة.

السلطة التنفيذية

باسم البابا، يتولى السلطة التنفيذية في الفاتيكان رئيس اللجنة البابوية للدولة، وبصفته التنفيذية هذه يحظى بلقب "رئيس حاكمية دولة مدينة الفاتيكان". وبذلك، يصبح الشخص نفسه مسؤولاً عن كلتا السلطتين التشريعية والتنفيذية، كونه من جهة رئيس اللجنة البابوية المناطة بها السلطات التشريعية، ومن جهة أخرى رئيس الحاكمية المناطة بها السلطة التنفيذية.

يساعد رئيس الحاكمية في تولي السلطة التنفيذية أمين عام ونائب للأمين العام، ويجوز له إصدار أوامر ومراسيم وأحكام أخرى تنفيذاً لأحكام تشريعية أو تنظيمية، في ما يحيل القضايا الأكثر أهمية إلى اللجنة البابوية أو للبابا نفسه للنظر فيها.

الأمين العام يساعد رئيس حاكمية الدولة في تنفيذه مهامه، فينفذ قراراته وتوجيهاته وينوب عنه متى اقتضت الحاجة، ويشرف على تنفيذ القوانين التي تبتها اللجنة البابوية. في عام 2021، عين البابا فرنسيس أول امرأة في منصب الأمين العام لحاكمية الفاتيكان، هي الأخت الفرنسيسكانية رافاييلا بيتريني.

أما نائب الأمين العام فيتعاون بدوره مع رئيس الحاكمية والأمين العام للقيام بمهام السلطة التنفيذية، وينوب عن الأمين العام متى اقتضت الحاجة.

ولتنفيذ أنشطة الدولة، تشرف الحاكمية برئيسها والأمين العام ونائبه، على أعمال المديريات والمكاتب المركزية التابعة لها والتي تعد بمثابة الوزارات والمؤسسات العامة المتعارف عليها في الدول، وتشمل:

- مديرية البنية التحتية والخدمات.

- مديرية الاتصالات ونظم المعلومات.

- مديرية الاقتصاد.

- مديرية الأمن والحماية المدنية.

- مديرية الصحة والنظافة.

- مديرية المتاحف والتراث الثقافي.

- مديرية الفيلات البابوية.

- المكتب القانوني.

- مكتب شؤون الموظفين.

إضافة إلى ذلك، تشرف الحاكمية على بعض الهيئات التي تتولى تنفيذ مهام معينة وفق قواعد تنظيمية محددة وتنشئ بموجب مرسوم صادر عن رئيس الحاكمية، مثل لجنة الشؤون النقدية، ولجنة التأديب، ولجنة شؤون الموظفين، لجنة اختيار الموظفين غير المتخصصين. وعلى الصعيد العلمي، تشرف الحاكمية على المرصد الفلكي للفاتيكان الذي يعد معهداً للبحث العلمي ويخضع لسلطتها.

أما العلاقات الدبلوماسية للفاتيكان مع سائر دول العالم، فتشرف عليها أمانة سر الدولة التابعة للكوريا الرومانية كما سنرى لاحقاً.

السلطة القضائية

باسم البابا، تمارس السلطة القضائية هيئات النظام القضائي وفق قوانين وأنظمة الدولة التي تضم ثلاث محاكم: المحكمة ومحكمة الاستئناف ومحكمة النقض.

تنظر هذه المحاكم في المسائل المدنية والجنائية ضمن أراضي دولة الفاتيكان، وهي منفصلة عن المحاكم الروحية للكرسي الرسولي التي تتولى النظر في الشؤون الكنسية.

يعين البابا القضاة ليمارسوا مهامهم بحياد وفقاً للقانون وضمن حدود الاختصاصات التي ينص عليها. وفي حين تعمل المحاكم بصورة مستقلة، فإن للبابا بصفته صاحب السلطة المطلقة الحق بالتدخل ومنح العفو في حالات استثنائية.

الكوريا الرومانية

كل الأجهزة المذكورة آنفاً تساعد البابا في إدارة شؤون الفاتيكان كدولة مستقلة ذات سيادة، فينصب تركيزها على المسائل المدنية والبنى التحتية والخدمات العامة، كحفظ الأمن والنقل العام وإصدار العملة والجوازات وغيرها. أما الشؤون الكنسية التي يتولاها البابا بصفته رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم وصاحب الصلاحية المطلقة في تدبير أمورها، فتساعده فيها "الكوريا الرومانية".

الكوريا الرومانية تعد بمثابة الهيئة الإدارية المركزية للكنيسة الكاثوليكية وتعمل كهيكل تنظيمي يساعد البابا في حكم الكنيسة وإدارة عملياتها والشؤون الرعوية، بما في ذلك تنسيق عقيدة الكنيسة، وضمان المعايير الليتورجية، وتعزيز الوحدة بين الأبرشيات، وإدارة مالية الكنيسة، والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع الدول. ويعود للبابا تعيين وإعفاء أعضاء الكوريا بحسب ما تقتضيه المصلحة العليا للكنيسة وخيرها العام.

تتألف الكوريا من مجموعة مجامع ومجالس ولجان لكل منها اختصاصها، بما فيها:

- أمانة سر الدولة: تعد الجهاز الأعلى في الكوريا وبمثابة الحكومة، فتشرف على سائر المجامع والدوائر في الكوريا وعلى الشؤون الداخلية للكنيسة. يترأسها أمين سر الدولة الذي يعينه البابا ويعد الرجل الثاني في الفاتيكان والأشد تأثيراً. كما تشرف أمانة سر الدولة على الشؤون السياسية والعلاقات الدبلوماسية للفاتيكان مع الحكومات والمؤسسات الدولية. فكونه دولة مستقلة، للفاتيكان سفارات وتمثيل دبلوماسي في عشرات الدول حول العالم وله علاقات مع عديد من المنظمات والجمعيات العالمية. ويتولى رئاسة الشؤون الدبلوماسية للفاتيكان أمين سر الدولة للعلاقات مع الدول والمنظمات الدولية، الذي يعينه البابا ويعد بمثابة وزير خارجية الدولة، إذ يمثل الفاتيكان في المفاوضات والمؤتمرات الدولية ويشرف على عمل سفراء الدولة.

- المجامع: تتعامل مع جوانب محددة من حياة الكنيسة، مثل الأساقفة ورجال الدين والعقيدة والطقوس، على غرار مثلاً "مجمع العقيدة والإيمان" الذي يهتم بشؤون التعليم العقائدي. يترأسها كاردينال يعينه البابا.

- المحاكم الفاتيكانية: تعد بمثابة السلطة القضائية وتعود لها مهمة الحفاظ على العدالة داخل الكنيسة الكاثوليكية والنظر في القضايا الدينية، وتشمل ثلاث محاكم هي "محكمة التوبة الرسولية" المتخصصة في قضايا سر التوبة والضمير ولها صلاحية حل الخطايا والعفو، و"محكمة الإمضاء الرسولي" التي تعد بمثابة المحكمة العليا في سائر الدول إذ من واجباتها الإشراف على صوابية القرارات المتخذة واحترام تطبيق أحكام القوانين والدساتير الرسولية، و"محكمة الروتا" التي تعد أعلى محكمة استئناف في الكنيسة الكاثوليكية وتختص بشؤون بطلان الزواج وفسخه وإعلان الطلاق، إلى جانب احترام حقوق الكرسي الرسولي حول العالم.

- المجالس والمكاتب: هي أقل أهمية وتعقيداً من المجامع، مستقلة عنها وتتبع مباشرة أمانة سر الدولة. تعنى المجالس بمسائل اجتماعية وثقافية ومسكونية في الكنيسة، وليس بالضرورة أن يترأسها كاردينال. أما المكاتب فغالباً ما تدير الشؤون التنفيذية اليومية في القصر الرسولي والأمور الاقتصادية، مثل مكتب إدارة أملاك الكرسي الرسولي ومكتب الشؤون الاقتصادية.

- الحرس السويسري البابوي: يعد جزءاً من الكوريا الرومانية.

- لجان ومعاهد: تعنى بشؤون دينية وعلمية.

البابا فرنسيس يلتقي أعضاء مجمع العقيدة والإيمان (أ ف ب)

البابا فرنسيس يلتقي أعضاء مجمع العقيدة والإيمان (أ ف ب)

أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين (أ ف ب)

أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين (أ ف ب)

ماذا يعني أن تكون البابا؟

أن تكون البابا يعني أنك رجل واحد على رأس مؤسسة ترعى مئات الملايين في قارات العالم الست المأهولة. يعني أنك صاحب سلطة مطلقة وصاحب الكلمة الفصل في إدارة شؤون الكنيسة الكاثوليكية. يعني أنك مؤتمن على مؤسسة عمرها مئات السنين تاريخها حافل بالمحطات التاريخية السوداء منها والبيضاء، ومواقفها الإنسانية والأخلاقية قادرة على التأثير في مسار الحضارات والبشرية. وأن تكون البابا، يعني أيضاً أنك ستتحمل وزر مسؤوليات كثيرة وكبيرة، متشعبة التحديات والصعاب والمناكفات، من الخطر الجسدي إلى الخلافات الداخلية والفساد والفضائح الأخلاقية وصولاً إلى دهاليز السياسة ومناكفاتها.

هذه المسؤولية تحملها حتى اليوم 266 بابا، بدءاً من القديس بطرس الذي تعده الكنيسة أول رئيس للكرسي الرسولي، وصولاً إلى البابا فرنسيس الأول الذي تولى منصبه في عام 2013. كثير من هؤلاء ماتوا قتلاً وآخرون تعرضوا لمحاولات اغتيال، بمن فيهم البابا يوحنا بولس الثاني الذي اخترقت جسده في 13 مايو (أيار) 1981 رصاصات علي أقجا، مما تسبب له في نزف داخلي حاد نجا منه إثر عملية جراحية استغرقت نحو خمس ساعات ونصف الساعة. وكانت مسامحة البابا للشاب التركي حينها مثالاً حياً للمسامحة التي تنادي بها الكنيسة. البابا فرنسيس الحالي كشف بدوره في نهاية 2024 أنه كان هدفاً لمحاولة تفجير انتحاري أثناء زيارته العراق عام 2021.

البابا بنديكتوس السادس عشر

البابا بنديكتوس السادس عشر

حتى إن هناك رواية تقول، إن البابا بنديكتوس السادس عشر قدم استقالته من المنصب في فبراير (شباط) 2013 تحت تهديد الاغتيال الجسدي وليس بسبب وضعه الصحي وتقدمه في السن كما قال. وتكشف هذه الرواية المزعومة حجم المطامع والخلافات والمكائد التي قد تحاك أحياناً خلف أسوار الفاتيكان. ففي التفاصيل، تقول الرواية إنه بعد فضحية "فاتيليكس" التي شملت تسريب وثائق من داخل الفاتيكان تكشف مزاعم فساد وتحقيق داخلي عن ابتزاز أفراد من خارج الكنيسة لرجال دين ذوي توجه جنسي مثلي، كلف البابا بنديكتوس لجنة بإجراء تحقيق في التسريبات. وأظهرت نتائج هذه التحقيقات أنه كانت هناك أخطار حقيقية على حياة البابا، وأنه اكتشف أساقفة رفيعي المستوى داخل الفاتيكان ينتمون للمحفل الماسوني الكنسي، ويتطلعون لقتل بنديكتوس المحافظ. وتضيف هذه الرواية أن البابا لم يستقل خوفاً من الموت، بل كان يخشى من التأثيرات السلبية المحتملة على الكنيسة إذا تمكن هؤلاء بالفعل من قتله، مما سيثير صراعاً جهنمياً على السلطة ومناورات مشبوهة ناشئة عن العداوات الداخلية في صفوف الإكليروس.

لا تنفصل هذه الرواية عن مزاعم الفساد الكثيرة في شأن المؤسسة الكنسية والشؤون المالية المشبوهة فيها، ومنها على سبيل المثال قضية الكاردينال الإيطالي أنجيلو بيتشو الذي قضت المحكمة الجنائية في الفاتيكان في ديسمبر (كانون الأول) 2023 بسجنه خمسة أعوام ونصف العام بعد إدانته في محاكمة بتهم فساد واحتيال في قضية تعود لشراء عقار فخم في لندن بقيمة 350 مليون يورو كجزء من استثمار بدأ في عام 2014 وكبد الفاتيكان عشرات الملايين. وينفي بيتشو هذه التهم، وقال إنه سيستأنف الحكم.

وقد هزت الفاتيكان أيضاً كثير من قضايا الاستغلال الجنسي للأطفال ومحاولات التستر عليها من قبل كبار رجال الدين، مما أدى إلى محاكمات وسلسلة استقالات داخل الكنيسة في دول عدة حول العالم.

أما على الصعيد السياسي، وبعدما كان للكرسي الرسولي على مر العصور دور مهم في تشكيل التحالفات ورسم تاريخ أوروبا خصوصاً، أصبح تركيز الفاتيكان في القرون الأخيرة منصباً على المسائل الدينية والأخلاقية. ومع ذلك، يعد البابا اليوم من أهم الشخصيات في العالم، نظراً لتأثيره الروحي والثقافي والدبلوماسي على زهاء 1.4 مليار كاثوليكي، لا سيما بواسطة شبكة الجمعيات والمؤسسات التابعة للفاتيكان والمنتشرة في كل أنحاء العالم، إذ تقدم خدمات في مجال التعليم والرعاية الصحية والخيرية.

كتابة وإعداد
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
مريم الرويغ

رئيس التحرير
عضوان الأحمري