يتردد على الدوام السؤال حول ما إذا كانت الدول الكبرى ستتعاطى مع أزمة لبنان الاقتصادية المالية بالحرص على منع انهياره، وبالتالي ستسعى لانتشاله من حافة الهاوية، أم أنّ نظرية تيار في الإدارة الأميركية بتركه ينهار ليتحمّل "حزب الله" وحلفاؤه في التركيبة الحاكمة المسؤولية، ومن ثمّ تُجرى إعادة تركيبه سياسياً واقتصادياً، ما زالت تجد صدى، لا سيما في واشنطن أو على الصعيد الدولي.
القائلون إن المجتمع الدولي سيتلقف البلد الصغير الذي تنخره التناقضات وأضرار المحاصصة والنفعية والفساد لدى طبقته السياسية، يعتبرون أن معالجة مأزقه الحالي أفضل من وقوعه في الفوضى، وعدم الاستقرارين السياسي والأمني الذي يستفيد منه "حزب الله"، القادر على السيطرة أكثر على قراره السياسي.
ويقول هؤلاء، إن الحزب على الرغم من الضائقة المالية في البلد ككل والتي تطاله بفعل العقوبات الأميركية عليه وعلى إيران، فإنه استطاع ضمان تمويله بوسائل عدة، إذ إنّ شحّ العملة الصعبة في لبنان "لم ينطبق عليه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حسم الموقف من انهيار لبنان
إلا أن الإجابة عن السؤال حول خيار ترك لبنان ينهار أم لا تأتي على لسان مصدر دبلوماسي غربي قال لـ"اندبندنت عربية"، "المسألة حُسمت في الآونة الأخيرة نتيجة الحوار الفرنسي الأميركي، إذ أقنعت باريس واشنطن أن خيار الانهيار في لبنان والفوضى التي ينتجها لن يحقق الغرض منه"، أي إضعاف الحزب، بل قد يكون مفعوله "عكسياً"، فالجهود الأوروبية سبق أن نجحت في إقناع واشنطن بحضور اجتماع "مجموعة الدعم الدولية للبنان" بباريس في 11 ديسمبر (كانون الأول) الماضي الذي صدر عنه بيان رسم خريطة طريق للحلول المطلوبة بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، والجانب الأميركي لم يكن ينوي المشاركة في هذا الاجتماع لو لم يؤدِ النقاش بين باريس وواشنطن إلى تغيير موقفه، لكن محاولة فرنسا إقناع الجانب السعودي لم تنجح في تشجيع الرياض على الحضور نتيجة اقتناعها بأن "حزب الله" يدير اللعبة في بيروت.
ويقول سياسيون لبنانيون يواكبون النقاش الذي دار في الدوائر الدولية، إن خيار انهيار لبنان يضعف القوى المعارضة السياسة الإيرانية، التي ما زالت تقاوم سيطرة طهران بالكامل، فضلاً عن أن الدول الأوروبية المعارضة هذا الاتجاه أبلغت واشنطن بأنها تنسجم معها في ممارسة الضغوط على طهران في ما يتعلق بجموح قادتها نحو السيطرة على دول في الإقليم، وبالتالي تطلب من الإدارة الأميركية أن تنسجم معها في ما يخص لبنان.
بين الابتعاد عن إيران وسيناريو اتفاقها مع واشنطن
وهناك بين القوى السياسية اللبنانية من يرى أن إنقاذ البلد يمكن أن يجرى عن طريق اتخاذ الحكومة اللبنانية موقفاً حاسماً ضد التدخلات الإيرانية في شؤونه، وفي شؤون الدول العربية التي تمتنع عن مساعدة لبنان بسبب انسجام الحكم فيه وحليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مع "حزب الله" والسياسة الإيرانية.
فحسم الحكومة موقفها بالانفصال عن المحور الإيراني يشجّع الدول العربية، لا سيما الخليجية على مساعدته في تخطي أزمته المالية، عبر ضخ مبالغ من الأموال تحسّن السيولة لإنعاشه، بموازاة خطة لبنانية لتنشيط الاقتصاد تدريجياً، فيكون الموقف السياسي اللبناني لعب دوراً في دفع هذه الدول التي تمتنع إلى الآن عن مدّ يد العون له لأسباب سياسية، وتقديم المساعدة.
افتراض هذا المخرج للحؤول من دون الانهيار يقابله سيناريو آخر، هو أن تقوم إيران بعد مدة بتغيير طفيف في سياستها يؤدي إلى تقديمها تنازلات طفيفة قياساً إلى وضعها الحالي، في شكل يسمح بأن تعقد اتفاقاً جديداً مع الولايات المتحدة الأميركية بات ممكناً بعد مقتل اللواء قاسم سليماني الذي كان الخط الذي يمثله في طهران عائقاً أمام اتفاق طهران مع واشنطن.
وهناك بين الأوساط الدبلوماسية الغربية مَن يعتبر أن هناك ملامح استعداد لدى بعض الدوائر الإيرانية لتقديم بعض التنازلات، فإذا حصل ذلك يبدو هذا الافتراض فعالاً أكثر في تسهيل إنقاذ لبنان، من الافتراض الآخر الذي يأمل أن تتولى الحكومة اللبنانية اتخاذ موقف حيال السياسة الإيرانية في شكل يجتذب الدول العربية مجدداً نحو لبنان. ففي حال اتفاق أميركي إيراني جديد تتغير الأوضاع في المنطقة برمتها، وينعكس ذلك إيجاباً على لبنان، بتراجع الضغوط عليه، لكن هذه الدوائر الغربية لا تغفل تأكيد أن على الفرقاء اللبنانيين أن يلتزموا مبدأ النأي بالنفس عن صراعات المنطقة، فالحديث عن ذلك في البيانات جميل جداً، لكن يجب تطبيقه بالفعل لا بالقول فقط.
خطوات... إشارات مطلوبة
الدوائر الغربية "لا تعمل على سيناريوهات الفوضى، بل على سيناريو الإنقاذ، وتتصرّف على أساس إدراك الواقع الاقتصادي اللبناني، وتراقب في المقابل أداء الحكومة اللبنانية من أجل تفادي الانهيار، وتستعجل خطواتها، لأن القرارات الإصلاحية المطلوبة تأخّرت سنوات"، وتعتبر أنّ "السيناريو الأسوأ هو أن تتأخر الحكومة الحالية في اتخاذها"، وتتطلع إلى إشارات جدية في التدابير الواجبة، فأوروبا مستعدة للمساعدة، لكن بعد إجراء الإصلاحات، ولذلك يجب البدء من نقطة ما، ومعالجة الديون المستحقة في التاسع من مارس (آذار)، التي سيعلن القرار الحكومي في شأنها يوم السبت السابع من مارس أساسية، إذ إن قرار الحكومة مهم، وكذلك قرار المصرف المركزي، ولا تبدي هذه الدوائر استعداداً لإسداء نصائح إلى الجانب اللبناني حول تسديد الديون أو عدم تسديدها، لأن الأمر سيادي يتعلق بمفاوضات الحكومة مع الدائنين التي لم تطلع على تفاصيلها التقنية والقانونية، وتكتفي بانتظار قرارها السبت المقبل، وهو سيشكّل إشارة إلى كيفية التعاطي مع الأزمة، لأن لكل خيار انعكاساته، ولذلك يجب أن يقترن بخطة، فالمجتمع الدولي يأمل استعادة الثقة عبر خطوات عملية واضحة، منها مسألة إعادة هيكلة الدين أم لا، وليس بإطلاق مجرد عناوين، في وقت هناك خطوات معينة تأخر اتخاذها.
الكهرباء والقضاء ولائحة أولويات "سيدر"
كما أنّ هذه الدوائر تنظر إلى معالجات مشكلة الكهرباء كواحدة من الخطوات والإشارات التي تظهر جدية الحكومة، وتؤكد أن هناك حلولاً مؤقتة غير البواخر تمهيداً لبناء المعامل، كما أنّها تعتبر الإصلاح في القضاء إشارة أخرى إيجابية، إذ يجرى درس قانون استقلالية القضاء (في البرلمان).
وتلفت هذه الدوائر إلى ضرورة البت بقضية الوظائف الـ5300 في القطاع العام (التوظيف الذي حصل عام 2018 خلافاً لقانون وقف التوظيف للحد من تكلفة جهاز الدولة)، وغيرها من الأمور التي تتعلق بكيفية عمل أجهزة الدولة، ستكون مؤشراً إلى أنّ الحكومة جدية ومنتجة، وعلى الرغم من أن هذه الإشارات "لن تنهي الأزمة فإنها تدل إلى أين تتجه، إذ تعطي تطمينات إلى المستقبل وتشجّع الدول المعنية على البحث في دعم لبنان".
أمّا المسألة التي تتوقف عندها الدوائر الغربية بكثير من الاستغراب فهي تأخّر الحكومات في وضع أولويات مشروعات "سيدر" التي تقرر دعمها في مؤتمر باريس عام 2018، فالرئيس الحريري وعد بذلك، لكنه استقال، وتشير إلى أن الرئيس دياب وعد بتشكيل لجنة وزارية من أجل تحديد أولويات المشروعات التي تحتاج إلى تمويل.
"حزب الله" والحراك
وإذ تقر هذه الدوائر بأن لبنان أمام أزمة بنيوية، وأزمة حوكمة على السواء، فإنها ليست متأكدة من أن بعض القوى السياسية فهم جيداً التبدّل الكبير في المزاج الشعبي والشبابي الذي حدث في الشارع نتيجة انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، ومن هذه القوى "حزب الله" الذي يبدو قلقاً من الشعارات التي تطرح بالتغيير، لكنها تعتبر أن أمام الحراك الشعبي تحدي تحويل شعاراته إلى مطالب حسية وواضحة، وتحذّر في الوقت نفسه من خطر تحوّله إلى ثورة جياع، فليس تفصيلاً أن يصبح نحو 200 ألف لبناني عاطلين عن العمل.
وينصح المصدر الدبلوماسي الغربي، وفق قوله لـ"اندبندنت عربية"، بأن لا يدخل لبنان وحكومته في سجال حول مسألة "الاستعانة بصندوق النقد أم لا"، تعليقاً على موقف "حزب الله" السلبي من مبدأ التعاون مع الصندوق.
ويضيف، أن الحزب طوّر موقفه من مسألة التعاون مع صندوق النقد، فقَبِل باستشارته بعد أن كان رافضاً أي تعاون معه، نظراً إلى خوفه من وصفته التي تقول بفرض الضرائب، وإلى قلقه من أن تفرض واشنطن بنفوذها عليه خطوات معينة، كما يعتبر أن التحدّث إلى الحزب يساعد أحياناً في تعديل موقفه، إذ بات كتنظيم مقفل لا يوافق على النموذج الاقتصادي الليبرالي، أكثر استعداداً للبحث في الخصخصة، وسبل معالجة أزمة الكهرباء وغيرها.
لا تبدو الدوائر الغربية المتابعة من كثب المأزق اللبناني مقتنعة بأن حكومة حسان دياب هي حكومة "حزب الله"، وتفضّل وصفها بحكومة اللون الواحد أو أنها ضعيفة، وتلاحظ أن بين وزرائها عدداً من المستقلين، وبعضهم قريب من منطق الانتفاضة الشعبية، وهم يعتبرون أنهم قبلوا بحقائبهم كاختصاصيين، من أجل إحداث فارق، فإذا لم يتمكنوا سيرحلون.