غرَّد النائب السابق عن مدينة طهران محمود صادقي، أسفاً على المصير الذي انتهى إليه مجلس الشورى (البرلمان) بعد الإجراء الذي اتخذه المرشد الأعلى للنظام والثورة آية الله علي خامنئي بصفته ولي الفقيه المطلق، الذي تجاوز فيه السلطات الممنوحة لممثلي الأمة من النواب بالدستور والانتخابات وحق الرقابة على الأقل في ما يتعلق بالسلطة التنفيذية، عندما أصدر "حكماً حكومياً"، بما له من سلطة يمنحها له موقعه كـ"ولي للفقيه" على رأس الحكومة الإسلامية مصدر الاشتقاق، أقرّ فيه إقرار الموازنة الجديدة للدولة الإيرانية التي تبدأ في الـ21 من الشهر الحالي مارس (آذار) حسب التقويم الهجري القمري المعتمد في إيران.
كلام صادقي قد يعدّ الأكثر جرأة بين كل المواقف السياسية التي أعلنها المسؤولون الإيرانيون في الداخل من كلا التيارين: المحافظ والإصلاحي، فقد وجّه انتقاداً مباشراً إلى صلاحيات المرشد الأعلى في الإجراء الذي اتخذه، وقد يكون ليس من باب الاعتراض على هذه الصلاحيات الدستورية، فهو جزء من الطبقة الحاكمة والسياسية، وسبق لها أن أعلنت التزامها وقبولها بكلية الدستور ومبدأ ولاية الفقيه، بل من باب الحرص على المؤسسة التي وضعها المؤسس الإمام الخميني في بداية تشكيل النظام، وتدوين الدستور "في رأس الأمور"، واعتبرها أول السلطات وأهمهما في هرمية النظام، لأنها تمثل إرادة الشعب ورأيه وتطلعاته.
ولأن القرار جاء ليصادر ما تبقّى من دور وصلاحيات للبرلمان في ظل همينة تيار سياسي واحد على السلطة، وسعيه لفرض إرادته على كل مفاصل القرار ومراكزه في النظام، ولأن القرار يمثل تكريساً لجهود إلغاء دور البرلمان والنواب التشريعي والرقابي، الذي يمتد ليشمل بنسبة معينة جميع السلطات والإدارات في النظام.
وقد يكون من باب الحرص دفاعاً عن أحد أهم معاقل الديمقراطية في النظام الجمهوري، التي تشكّل ضمانة للنظام لموقع ولي الفقيه والقائد للنظام ورافداً لشرعية القرارات التي تصدر عنه، وأن لا تتحوّل أزمة انتشار فيروس كورونا المتجدد وانتشاره بين عدد لا بأس به من النواب الجدد، ووفاة عدد منهم، سبباً في إلغاء دور البرلمان، إذ يمكن وبناء على المنطلقات التي لجأ إليها صادقي، اللجوء إلى تسيير عمل الحكومة مالياً من دون الدخول في دائرة تعطيل حق البرلمان الدستوري، وتأجيل إقرار الموازاة أسوة بكثير من الأعمال الحكومية والدينية، التي جرى تعطيلها وتأجيلها نتيجة انتشار الفيروس.
تهميش البرلمان لا يقتصر على إجراء ولي الفقيه وإقرار الموازنة الجديدة للدولة، فمسار التهميش بدأ عندما تصدّى مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يتمتع بسلطات استشارية في حل النزاعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، تصدى لقرار رفض ما سبق أن أقرته الحكومة، وصادق عليه البرلمان في ما يتعلق بانضمام إيران وتوقيعها على معاهدة FATF، ما أسهم في مفاقمة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها إيران بسبب العقوبات الأميركية الخانقة، لتدرج نتيجة هذا القرار على اللائحة السوداء لهذه المعاهدة الدولية ما يعرقل ويعطل كثيراً من التعاملات المالية مع دول العالم بذريعة عدم الشفافية في محاربة تمويل الإرهاب والتزام تجفيف منابعه.
وهذا القرار لمجمع تشخيص مصلحة النظام يؤسس لترجمة رغبة لدى بعض القوى في التيار المحافظ لتحويله إلى سلطة رابعة، إلى جانب السلطات الثلاث الدستورية: (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، خصوصاً أنّ آليات هذا التحوّل بدأت بالتبلور عملياً من خلال تشكيل لجنة خاصة لدراسة القرار الاستراتيجية للنظام، الأمر الذي يعزز الاعتقاد بأنّ قيادة النظام تضع نصب أعينها المرحلة التالية ما بعد المرشد خامنئي، وعدم إمكانية الاعتماد على الآلية البرلمانية لتأمين انتقال السلطة واستمرار تمركزها في قبضة القوى المحافظة، ومن ورائها المؤسسة العسكرية، في حال ارتفع مسنوب الاعتراضات والضغوط الداخلية والدولية في ما يتعلق بالعملية الديمقراطية والانتخابية، التي ربما تسمح بخسارة التيار المحافظ مستقبلاً السلطتين التنفيذية والتشريعية، ما يعني أنه سيكون بحاجة إلى مراكز قرار جديدة، إلى جانب مجلسي صيانة الدستور وخبراء القيادة، تعوض عن هذه الخسارة وتسمح بتمرير سياساته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التيار المحافظ الذي استطاع أن يسيطر على الغالبية البرلمانية بأكثر من 75 في المئة من المقاعد، بعض التقديرات تذهب إلى اعتبار المستقلين جزءاً من المحافظين، وبالتالي تصبح النسبة في حدود 82 في المئة، يعتقد بأنه سيعمل على أن يعطي البرلمان الجديد "الصبغة الثورية" بناءً على سيطرة القوى الثورية عليه ما يسهم في رفع مستوى التنسيق مع مراكز القرار الأخرى في النظام، خصوصاً المراكز والمؤسسات الثورية من أجل تقديم أنموذج جديد لسلطة ودور البرلمان والحكومة والجهاز القضائي، ويؤسس لمرحلة جديدة في حل الأزمات الكثيرة والمتراكمة التي تعانيها البلاد، نتيجة ضعف أداء البرلمان السابق الذي تقاعس في اعتماد الحلول الثورية لهذه الأزمات، خصوصاً ما يتعلق بإعادة النظر في الموازنة التي قدّمتها الحكومة الحالية، وأقرها المرشد بقرار ولائي، إضافة إلى إصلاح النظام البنكي والمالي، وفي الجانب السياسي أن يعمد البرلمان الجديد لوضع أسس جديدة في التعامل والتعاون مع السلطة التنفيذية، لحل المشكلات التي تواجهها، مع تغليب البعد الوطني على حساب التيارات السياسية، والعمل على دعم السياسات الإقليمية للنظام والدفاع عن عقيدته في مواجهة الاستكبار الأميركي والدولي مع تعزيز سياسة التوجه نحو الشرق في العلاقات الخارجية.
ما يعني أن ما يخطط له النظام هو تحويل البرلمان إلى أداة للضغط على الحكومة من خلال التدخل في كل المفاصل الأساسية للسلطة التنفيذية وإدارتها الملفات الداخلية والخارجية، حتى وإن أدّى ذلك إلى مزيد من العزلة الدولية.
لكن، الأهم في هذا التوجه هو أن هذا البرلمان سيكون أداة مطواعة في يد مرشد النظام ومراكز القرار الأساسية والمؤسسة العسكرية التي ستجعل منه وسيلة لشرعنة أي سياسات أو إجراءات، ربما يرى النظام أن المصلحة قد تفرضها، وطنية أو قومية، حتى وإن كانت التخلي عن الموقف العدائي والرافض الحوار مع واشنطن، وما قد يتطلبه من تراجع عن بعض المواقف أو تقديم تنازلات تكتيكية أو استراتيجية خلافاً للمواقف المعلنة.