عاد الكاتب السعودي الكبير، تركي الحمد، إلى جدل لطالما قاسمه أيامه ولياليه عقوداً عدة، كان فيها غاضباً ومغضوباً عليه، تارةً من السلطة التي سجنته مرتين في الشباب والشيخوخة، وأخرى من تيار الصحوة يوم أن كان مهيمناً، فحيناً يشيطنه ويكفّره، وأخرى يَلقَى مِنْ الحَمْد نقداً لاذعاً وتجهيلاً.
لكن الستينيّ الذي "رضع حب البعث" من أخواله النشامى في الأردن، ما إن نبش المذيع السعودي الشاب، مالك الروقي، ذاكرته في برنامجه "السطر الأوسط" على قناة "إم بي سي"، حتى وجد أن عودة الشيخ إلى صباه تثير نقعاً وأوار حروب، لها بداية وقد لا تكون لها نهاية. ذلك أن تركي من دون أن يبالي أهدى جيوب التيار المضاد قصة له غير مأثورة، أوردها على هيئة طرفة، قائلاً "سألني السعوديون في المدرسة وأنا ما زلت صغيراً: من ربك؟ فقلت لهم (حزب البعث)، فما كان من المدرس إلا أن قصد والدي، وقال له: انتبه، هذا الولد سيُدخلك في ورطة. ألم تسمع ما يقول؟".
كانت الإجابة عاديةً لطفل دون السابعة في سنوات هيمنة "البعث" على المشهد في العراق وسوريا والأردن، وإن كانت الأخيرة بوتيرة أقل، لكن ظنَّ المعلم المتفرّس في تلميذه لم يخب، فما كاد الطفل تركي يودّع سنوات المراهقة إلى الرشد، حتى ساق والده ونفسه إلى مغامرة غير محسوبة، زجت به في "غياهب السجن".
تجربة التحقيق
ولذلك قصة وثّقها الكاتب الأديب السعودي قائلاً "جاءت المباحث إلى المدرسة الثانوية تبحث عني، فأبلغ مراقب المدرسة من فوره والدي بأن ابنك أصبح مطلوباً للدولة، وعليك أن تتصرف". وهنالك يقول الحمد "جاء والدي والتقاني واعترفت له بكل شيء، وهو أنني عضو في (حزب البعث) ضمن مجموعة من العناصر في السعودية"، وهو الحزب الذي كان في تلك الأيام، مع اليسار والقوميين، ينادون جهرة باستهداف الملكيات العربية ومحاولة إسقاطها، ويصفونها بالرجعية.
لم تكن المباحث في ذلك الحين مثل الآن - يقول الحمد- فكانت فكرة والده أن يقوم بتهريب ابنه نحو البحرين ومن ثم إلى بيروت، حيث اشتهرت فيها قوة التيار اليساري. غير أن السلطات الأمنية "كانت أشطر"، كما يقول السعوديون، فقبل أن يركب تركي نحو البحرين في مدينة الخبر السعودية التي لا يفصلها عن المنامة غير دقائق بحرية، حتى اعتقل الحمد، واقتيد إلى حجز الاستخبارات السعودية. بيد أن المهمة التي قبض عليه من أجلها ستبدأ بعد بضعة أيام في مدينة جدة على الساحل الغربي.
وهنالك قال الفتى إنه عاش صنوفاً من الرعب، إلا أن ذلك لم يمنعه من الدخول إلى غرفة التحقيق باستراتيجية يبدو أنه تعلمها في جلسات الحزب المشكل على هيئة خلايا لا يعرف بعضها بعضاً على طريقة التنظيمات الإرهابية هذه الأيام. كانت الاستراتيجية أن يتحمل المعتقل قسوة التحقيق اليوم الأول والثاني ولا يبوح بشيء مهم حتى اليوم الثالث، كي لا تذهب السلطات الأمنية بعيداً في النبش عن الأسماء وأعضاء ما عرف آنذاك بـ"حزب البعث السعودي".
أما تركي فإنه لم يكن يمانع الاعتراف بأي شيء، المهم بالنسبة إليه أن يخرج من تلك التجربة بسلام بعد أن كشفت له الضحالة الفكرية لرفاق الحزب، وهذا ما حدث. لكن الحمد فيما بدا لم يغادر البعث ولوثة اليسار عقله حتى بعد تلك التجربة، إذ سريعاً ما أتيحت له فرصة الابتعاث الدراسي نحو أميركا، هو ومجموعة من رفاقه، ليجد المناخ هناك مهيأً أكثر للتحزّب والسجال، فوجد السعوديين في بغضاء وتشاحن، كلٌ منهم ينتمي إلى تيار معين، حتى أنهم عندما قامت مجموعة جهيمان باقتحام الحرم في 1979 أيّدها بعضهم وباركوها، على الرغم من اعتقادهم بقداسة البيت الحرام والكعبة المشرفة.
ويفسّر الحمد ذلك بأن الهدف القومي واليساري في ذلك الوقت هو النكاية بالحكومة السعودية بغضّ النظر عن الفاعل وما كان هدفه. بينما سجّل لحكومة بلاده أنها لم تأخذ أولئك بذنوبهم، سواء المنتمين للبعث أو غيره، فقد أسندت إليهم الدولة مناصب رفيعة فيما بعد.
التطبيل ليس ذماً كله
إلا أن تيار الصحوة الذي رأى الحمد ظهوره في ذلك الحين طبيعياً بعد هزيمة 67 والثورة الإيرانية والغزو السوفياتي لأفغانستان، قال إنه قام بحصاره في جامعة الملك سعود التي عاد إليها أستاذاً للعلوم السياسية، إذ وجد حتى طلابه يجادلونه في الدين والمرأة ولا يتلقون معلوماته باحترام. ليصارح المذيع في مرحلة تالية بأنه عانى طويلاً مع التيار "الإسلاموي" لدرجة تجاوزته إلى أبنائه الذين عادوا إلى منزل والدهم أحياناً وهم في حرج وضيق للأوصاف التي يتقصّد معلموهم إلصاقها بوالدهم، وهم يسمعون.
تلك الظروف الماضية، هي التي برر بها الحمد شعوره بالفخر نحو الإصلاحات التي تعيشها بلاده في الفترة الراهنة على الرغم من استفزاز المذيع "الروقي" له عند القول إن الحمد يُنظر إليه بوصفه "مطبلاً" في المرحلة الحالية بعد أن كان مستقلاً أو معارضاً فيما مضى.
بيد أن الكاتب لم يجد حرجاً في الإجابة عن ذلك، قائلا "إذا لم أفخر بالإصلاحات والتغيير الذي يجري في الوقت الراهن في السعودية وأنا الذي طالبت به لعقود، بأي شيء سأفخر. لا إشكال أن أطبّل لما يستحق التطبيل". بيد أن الحمد استدرك بأنه يمكن أن يسكت عن شيء يؤمن به، أما أن يقول شيئاً غير الذي يعتقد، فذلك لم يحدث.
وانتقد في نهاية المطاف ما سماه الثنائية العربية، التي تقضي بأن تكون مع السلطة أو ضدها، معارضاً للسلطة أو مطبلاً لها، لافتاً إلى أن العبرة بالفكرة التي تؤيد أو تعارض. وفي هذا السياق لم ينفِ الحمد أنه أعاد النظر في موقفه المبدئي من الديموقراطية والربيع العربي، فأصبح الآن موقناً أن الديموقراطية الفعلية غير ممكنة بطريقة الانقلابات والثورات، وإنما تأتي تلقائياً بعد النهضة والوعي الاجتماعي بها، وبناء الفكر التعددي، وإشاعته في سلوك الناس وممارساتهم اليومية.