في كتابها "غرفة تخص المرء وحده" تناولت الكاتبة البريطانية النسوية فيرجينيا وولف أهمية مساهمة المرأة في الفكر الإنساني كمقدمة لولوج التغيير في منظومة الثقافة الذكورية والانقلاب عليها قيماً وخطاباً ولغة ومنهج تفكير، كأساس لا بد منه للتخلص من عبودية النساء في مجتمعات ذكورية تهمّش المرأة ودورها في صناعة التاريخ الذي بالكاد تُذكر في كتبه أو منتجاته الفكرية، بدءًا بالفلسفة ومروراً بالمؤلفات الاجتماعية والعلمية وانتهاءً بالأدب والفنون.
ولكن كي يتسنّى للمرأة أن تسهم في قلب منظومة استعبادها، تحتاج إلى غرفة تخصها وحدها ومبلغ من المال يسمح لها بالتفرغ للكتابة ليمنحها الخصوصية اللازمة التي تتطلّبها الكتابة، ويوفر لها الاستقلال الاقتصادي كي تتمكّن من التفرغ للكتابة، بعيداً من ضغط التفاصيل اليومية الذي يتطلبه الدور المنوط بها كربة أسرة تمتثل لإرادة الرجل بوصفه المعيل وحارس منظومة الثقافة الذكورية بكل تنوعاتها في الوعي البشري، والمستفيد الأول منها.
في كتابها "غرفة تخص المرء وحده" تخيّلت وولف ماذا يمكن أن يحدث لو توفر لامرأة تحصل على راتب سنوي بمقدار خمسمائة جنيه استرليني كإرث تتركه لها عمتها (في إشارة للتعاضد النسوي الضروري)، وأن تحظى أيضاً بغرفة تخصها وحدها، فماذا يمكن لها أن تكتب، لا سيما حين تبتدع شخصية امرأة لروايتها؟ وكيف سيختلف ما ترويه عنها عن كتابة روائي رجل؟ هل ستختلف نظرتها والغوص في أعماقها والتعرف إلى عوالمها بوصفها هي أيضاً امرأة؟
الكتاب الذي صدر عام ١٩٢٩ والذي انتمى إلى ما سُمّي بتيار الوعي آنذاك، أسّس للحركة النسوية عبر العالم، لا سيما في الحركة النقدية التي وضعت قيد البحث والقراءة كل المنتج الأدبي للأدباء الرجال - والنساء على حد سواء- تحت مجهر النقد النسوي قيماً وخطاباً ولغة ومنهجاً وبنية، وسعت إلى تفكيك النصوص في معرض السعي للتغيير في الثقافة السائدة نحو مجتمع "إنسانوي" تتحرّر فيه المرأة كإنسانة أولاً وكمواطنة متساوية الحقوق والواجبات في نظام ديمقراطي لا تمييز فيه.
وشكّل هذا الكتاب نقطة التحوّل في المدارس النقدية التي تأسّست بعده (ألين شوالتر، جيرمين غرير وكيث وماري المان وميليت وجمعية كاليفورنيا ومدرسة فرانكفورت كمثال) لتخضع للنقد ليس النصوص الأدبية الحديثة، بل والقديمة منها وأكثرها رواجاً، ولم تكتفِ الموجات النسوية المتعاقبة بالمنتجات الأدبية، بل تعدّت ذلك إلى النظريات العلمية والطبية والنفسية وصولاً إلى نقد الفلسفة في قديمها وجديدها وكل ما قد يحمل من قيم تعمل على مواصلة إنتاج ثقافة ذكورية مهما تقنّعت بقناعات ليبرالية أو شيوعية، فإنها ما زالت تهمّش المرأة في ألف لبوس ولبوس. وليس من المصادفة في شيء أن نرى قضية المرأة تتصدر نضالات القوى العالمية المناهضة للعولمة، جنباً إلى جنب مع قضايا البيئة وتحرير التجارة العالمية والقضاء على المجاعات والحروب والفقر والمرض بوصفها قضايا تترابط وتؤسّس لطريق ثالث "إنسانوي" يعمل على التغيير ليس على مستوى العالم فحسب، بل على المستويات المحلية التي تشهد ثورات شعبية تتصدّر حركاتها الاحتجاجية النساء، بحثاً عن التغيير في صوغ نظم ودساتير تشترط حقوق المواطنة للنساء وترفعها جنباً إلى جنب مع شعارات حماية البيئة والتخلص من النظام الاقتصادي العالمي الجائر ومحاربة العنصرية والطائفية وتعزيز التعددية والقبول بالاختلاف وبالعدالة الاجتماعية، فتقف قضية المرأة في صدارة هذا التغيير.
العقل المجتمعي
ويبدو أنّ ثورات الشعوب العربية على الرغم من العثرات التي تصيبها، ماضية بعناد نحو التغيير الذي يمر من "العقل المجتمعي" في معرض تفكيك بنيته الذكورية السائدة في القيم، والتي تبثها المنتجات الثقافية في الأدب كما في السياسة والإعلام، وفي العلوم كما في النظرة الجديدة إلى العالم، وهو ما يتطلب من الأجيال الجديدة أن تنظر بعين النقد إلى جحافل المثقفين الذين ينصبّون أنفسهم بوصفهم "آلهة الكلمة" في ما هم مجرد أصنام تتهاوى مع الطغم الحاكمة في سلطات الاستبداد السياسي.
إنّ تأثير" الدومينو" الذي بدأ بكتب من مثل "غرفة تخص المرء وحده" لفرجينيا وولف و"الجنس الآخر" لسيمون دو بوفوار و"المرأة والجنس" لنوال السعداوي و"الجنس كهندسة اجتماعية" لفاطمة المرنيسي وغيرها، ممّا مرّ على ذكره آنفاً أو لم يمرّ، بدأ يتسارع ليراكم أفكاراً ونظريات نقدية ومناهج تحليل وربما فلسفات جديدة تقوض بنيات فكرية وذهنية وروحية وعقلية وعاطفية وفلسفية تراكمت عبر الزمن، لتقلب وجه العالم وتضع معايير للعيش في حياة لا عبودية فيها. ومع هذا، يرى جون ستيوارت ميل في كتابه "عبودية النساء" أن عبودية المرأة لن تنتهي بسهولة كما هي الحال في انتهاء العبودية كشكل اقتصادي ساد قديماً، واستبدل بأنماط اقتصادية لا تقلّ استغلالاً عن نظم العبودية المعلنة والمشرعة قانوناً. فعبودية المرأة ليست شكلاً اقتصادياً صرفاً، وإن كانت مكوّناً أساسياً فيه، إذ هي عبودية تنظمها بشكل أساسي منظومة العادات والتقاليد الراسخة وتختلط فيها القيم والمفاهيم السائدة في عمق الثقافات عبر العالم وتعبّر عن نفسها في العلاقات العاطفية ومفهوم الأمومة الذي – على الرغم من جماليته بالنسبة إلى الأمهات- فهو يسلبها الرغبة الطوعية في التحرّر وتمكين نفسها ومشاركة أعباء الأمومة مع من يفترض أنه رفيق حياتها وشريكها في السراء والضراء. ويدفعها إلى التفريط بقدراتها في مجالات عدّة بهدف بذل التضحيات من أجل أبيها وإخوتها وأبنائها وزوجها وحبيبها ونكران ذاتها لمنفعة هؤلاء جميعاً وبإرادة طوعية لتعيش طمأنينة زائفة ستنتهي حتماً عند أول اعتراض. وتشكّل هنا مؤسسة الزواج إطاراً أساسياً لاستعبادها، وعليه يُعتبر المدخل الرئيس لتحرّر النساء هو تحقيق المساواة داخل هذه المؤسسة كبداية لتحقيق العدالة في المجتمع والشرط الأساسي لتغيير المجتمعات من نير الاستبداد الزوجي والمجتمعي والسياسي والتشريعي. هذا يتطلّب تغييراً جذرياً في الثقافة السائدة وإخضاعها للنقد بكل تشكيلاتها الأدبية والثقافية والاجتماعية والسياسية والتشريعية، وصولاً إلى تجسيد هذا التغيير عبر التربية والتعليم وإتاحة الفرص المتكافئة في العمل والممارسة اليومية، كما في الحياة والحب والأخلاق التي تحقّق العدالة الاجتماعية في شروط تنافسية عادلة بين الجنسين كي تستقيم المجتمعات البشرية جميعها وتتحرّر من كل أشكال الاستغلال والاستبداد والعبودية.
وحده الوعي الجذري بشروط التغيير هو بوابة الولوج إلى حياة لا استبداد فيها. وحده الوعي الجذري بالتغيير سيضع قضية تحرّر المرأة في صدارة القضايا ويمنح للجنسين فرصة العيش ويؤسّس للحب بينهما علاقة ندّية متساوية وحقيقية لا مكان فيها لحبّ العبد للسيد، بل لحبّ حقيقي بين حرّ وحرّة.