يدرك الخبراء العسكريون والسياسيون في واشنطن، أن الهجمات التي شنتها الطائرات الأميركية والبريطانية ضد مواقع لكتائب "حزب الله" الموالية لإيران في العراق لن تكون الأخيرة، بل يمكن أن تكون واحدة من سلسلة الضربات والهجمات المضادة، التي تتسع لتصبح دائرة صراع أكبر، في ظل التصعيد الإيراني الراغب في طرد القوات الأميركية من العراق، وفي الوقت ذاته تهديد القادة العراقيين قبيل اختيار رئيس حكومة جديد للعراق، بدلاً من رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، ولهذا شرعت واشنطن في دراسة ثلاثة خيارات مختلفة للتعامل مع الميليشيات الموالية لإيران في العراق.
وعلى الرغم من أن وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر، أوضح أن من يطلق النار ويصيب أميركيين لن ينجو بفعلته، إلا أن السؤال الذي يشغل بال الولايات المتحدة الآن هو كيف يمكن تحقيق الردع سريعاً، لإنهاء دائرة الهجمات ضد القوات الأميركية، والحيلولة دون وقوع خسائر جديدة في الأرواح بين صفوف الأميركيين وقوات التحالف الدولي بشكل عام.
تخطيط مُحكم
وبينما صمتت إيران يوم الأربعاء الماضي حين قَتل هجوم صاروخي شخصين أميركيين وبريطانياً في قاعدة التاجي العسكرية المترامية الأطراف شمال بغداد، فقد أدرك الأميركيون أن الهجوم خطط له بدقة، فلم يكن عملاً من أعمال فلول تنظيم داعش، نظراً لأن شاحنة تحمل صفين من أنابيب إطلاق الصواريخ، اقتربت بشكل خفي من دون أن تُرصد، وأطلقت الصواريخ دفعة واحدة بشكل مفاجئ.
ومع انتشار كتل وحواجز خرسانية في قاعدة التاجي التي تبلغ مساحتها 15 ميلاً مربعاً، اعترف خبراء عسكريون أميركيون بالدقة البالغة للضربة الصاروخية من حيث كونها وجهت في اللحظة المناسبة تجاه الهدف المطلوب عبر توجيه بشري أو من خلال طائرة درون مسيرة.
انتقام فوري
وبعد ساعات، امتدحت كتائب "حزب الله" العراقية الشيعية الموالية لإيران هذا الهجوم باعتباره جزءاً مما تسميه "المقاومة ضد الاحتلال الأميركي"، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة علامة مؤكدة على أن ميليشيا حزب الله العراقية، تقف وراء الضربة التي تتباهى بها.
وببلوغ هذه المرحلة، شنت طائرات مجهولة – قد تكون أميركية – هجمات على كتائب حزب الله وميليشيات شيعية أخرى في سوريا، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات قبل أن تشن طائرات أميركية وبريطانية هجمات أخرى على مخازن صواريخ تابعة لكتائب حزب الله العراقية.
أعادت الهجمات والهجمات المضادة للأذهان، الضربات التي شنتها الولايات المتحدة في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي على كتائب حزب الله انتقاماً لمقتل مقاول أميركي في هجوم صاروخي يوم 27 من الشهر نفسه.
بلد واحد وعدوّان
غير أن مقتل الشخصين الأميركيين في قاعدة التاجي وهما جندي ومقاول، جاء بعد أيام من مقتل جنديين من القوات الخاصة للمارينز يوم 8 مارس (آذار) في معركة بالأسلحة النارية مع تنظيم داعش شمال العراق، وهو ما يظهر مدى تعقيد ما يواجهه الجيش الأميركي من عدوين في بلد واحد
وفي حين لا تزال مهمة قوات التحالف هي هزيمة ما تبقى من فلول تنظيم داعش عبر تكثيف الغارات بالتعاون مع القوات الخاصة العراقية وتحقيق نجاحات كبيرة، إلا أن ذلك سيكون له ثمن تشير إليه أحداث 8 مارس.
وما يزيد الأمور تعقيداً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أن الميليشيات المدعومة من إيران مثل كتائب حزب الله، تسعى بقوة إلى إخراج القوات الأميركية وقوات التحالف من العراق بأي وسيلة كانت، بغض النظر عن مدى مساهمة قوات التحالف في قتال عناصر داعش.
وليس أدل على ذلك من سعي كتائب حزب الله إلى طرد القوات الدولية الغربية قبل وقت طويل من قتلها المقاول الأميركي في هجوم 27 ديسمبر (كانون الأول) 2019 وحتى قبل قتل الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس في غارة أميركية يوم 3 يناير (كانون الثاني) الماضي.
ما تريده ميليشيات إيران؟
ووفقاً لما يقوله مايكل نايتس، الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تضاعف الميليشيات التابعة لإيران جهودها لتحذير المسؤولين العراقيين بضرورة أن ينأوا بأنفسهم بعيداً من قوات التحالف (وهو ما لم يستجيبوا إليه حتى الآن)، كما وجهت كتائب حزب الله تهديدات إلى أعضاء البرلمان العراقي لإجبارهم على التصويت لإخراج القوات الأميركية من العراق، لكن أعضاء البرلمان قاوموا هذه الضغوط، كما رفض الرئيس العراقي برهم صالح تهديده والتقى الرئيس ترمب في دافوس على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي.
والآن، تصدر كتائب حزب الله بيانات وتصريحات تعترض فيها على مرشحين بأعينهم لمنصب رئيس الوزراء الجديد، وتقترح بدلاً من ذلك المرشح الذي تريد اختياره وهو رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي، كما تقترح أيضاً وبكل جرأة ووضوح كيف يمكن أن يلعب كبار القادة الدينيين دوراً في عملية اختيار رئيس الوزراء الجديد.
استعادة الردع
يشير موقع "بوليتيكو" الأميركي إلى أن الولايات المتحدة لم تتمكن بعد من ردع الميليشيات الإيرانية في العراق من قتل الأميركيين، ونتيجة لذلك فإن القوات الأميركية في العراق ليست محمية من الحكومة العراقية، ومن ثم فهي ليست محمية من الحكومة الأميركية، ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر بحسب عدد من الخبراء الأميركيين.
البدائل المتاحة
يقول نايتس إن هناك ثلاثة بدائل يمكن أن تسلكها الولايات المتحدة، يتمثل أحدها – وإن كان مستبعداً في المرحلة الحالية - في انسحاب القوات الأميركية من العراق، وهو ما ترغب فيه كتائب حزب الله والحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش، بخاصة أن التاريخ الأميركي يشير إلى أن الولايات المتحدة قد تتراجع في وقت لاحق، وربما في ظروف أكثر سوءاً عن محاربة عراق تحت سيطرة إيران.
أما الخيار الثاني، فهو أن تلعب الولايات المتحدة مع إيران والميليشيات التابعة لها بقواعد اللعبة نفسها، وهي قتل وتصفية المزيد من قواتهم في حملة مستمرة للقضاء عليهم وهو أمر ليس صعباً بالنظر إلى القدرات العسكرية الأميركية التي تسمح لها على المدى الطويل بتقليص نفوذ إيران في العراق، لكن هذا الخيار ينطوي على مخاطرة غير مؤكدة وهي تحفيز العداء ضد الولايات المتحدة.
ويتمثل الخيار الثالث في أن تلعب الولايات المتحدة دور الضحية، وتتعاطى بمسؤولية مع كل هجوم، بحيث يكون الرد متناسباً مع كل موقف على أن تكون غالبية الضربات الانتقامية خارج العراق بهدف تجنب إغضاب القوميين العراقيين. وتتماشى الضربات الأميركية الأخيرة مع الخيار الثالث المتمثل في الرد المتناسب.
الطريق الأوسط
ويشير خبراء في العاصمة الأميركية إلى أن كتائب حزب الله والجماعات الأخرى الوكيلة لإيران يمكن أن تتحمل خسارة عشرات من جنودها في مقابل قتل ثلاثة أميركيين وبريطانيين كل يوم، ما يعني خسارة كبيرة للولايات المتحدة.
ولهذا السبب ينصح البعض بأن تتخذ الولايات المتحدة طريقاً وسطاً يمزج الخيارين الثاني والثالث، بمعنى أن تكون الضربات سريعة وحاسمة وغير معلنة ضد عدد من كبار قادة الميليشيات العراقية، حتى يفكر غيرهم بجدية الخطر الذي يمثله ذلك على مستقبلهم الشخصي.
وبينما تبدو إيران حريصة على إخفاء أماكن تواجد القيادات العراقية ما جعلها في مأمن من الهجمات الأميركية مؤقتاً، فإن الإدارة الأميركية تحتاج إلى التعاون مع الكونغرس للتوافق حول قواعد أساسية لاستخدام القوة العسكرية بما يتيح للقوات الأميركية تحديد مجموعة من الخيارات والتوقيتات لشن ضربات رادعة وضرب الأهداف المطلوبة حينما تصبح متاحة أمام القوات الأميركية.
تعزيز الحماية
وفي موازاة ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً متشدداً يتيح لها جلب بطاريات صواريخ باتريوت ودفاعات جوية لحمايتها أمام الهجمات الصاروخية من دون التشاور مع حكومة عراقية تفضل نهج "لا تسأل ولا تعلن".