يعود تاريخ أول لوحة فسيفسائية إلى فجر التاريخ مع الحضارة السومرية في الوركاء (أوروك)، وهي مكونة من قطع فخارية ملونة بالأبيض والأحمر والأسود، وبعدها انتقل هذا الفن إلى الحضارة الهلنستية ثم الرومانية والبيزنطية وحتى العصر الأموي.
تتلخص تقنية الفسيفساء برصف ولصق عدد من المكعّبات، وفقاً لرسم أو صورة محددة فوق مساحة مخصصة ومهيئة مسبقاً، بحيث تُركب المكعّبات وتُثبت فوقها بإضافة طبقة رقيقة من الملاط، وتستخدم مواد متنوعة من الأحجار والزجاج والصدف والسيراميك والفخار والذهب والفضة وغيرها، لإنتاج لوحات فنية ذات مواضيع مختلفة تحتوي أشكالاً هندسية أو نباتية أو تصاوير آدمية أو حيوانية.
الفسيفساء الإسلامية
يتميز الفن في الفترة الإسلامية بالتخلي كلياً عن المفاهيم الأيقونية أو التصوير الآدمي كنوع من التقديس والتعظيم، بخاصة في الفسيفساء، حيث حُرّمت كل المظاهر المخالفة للشريعة الإسلامية، وكذلك المفاهيم المقتبسة عن الميثولوجيا القديمة واستخدام الرموز والإيحاءات وتصوير الشخصيات في أماكن العبادة.
ويعد الطراز الأموي أول المدارس الفنية في الفن الإسلامي، وسمي بعصر تطوير وإنماء الفنون والعمارة، بالرغم من أنه اقتصر في بدايته على الإنتقاء الدقيق، والمزج لنماذج معينة من تقاليد وعناصر وأساليب مدارس فنية سابقة، كالهلنستية والرومانية والبيزنطية والساسانية، إلا أنه غيّرها تدريجاً وجددها شيئاً فشيئاً ليخلق بذلك أساساً لتطورات لاحقة، فتألق فن الفسيفساء في العصر الأموي، وبشكل خاص في عصر الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي حقق انجازات معمارية وفنية منها فسيفساء الجامع الأموي في دمشق.
الفسيفساء في سوريا
تحتوي سوريا على العديد من اللوحات الفسيفسائية المميزة على مستوى العالم بحجمها ومواضيعها والمحفوظة في المتاحف والقلاع والكنائس والبيوت والمباني الأثرية، في مناطق شهبا و أفاميا وتدمر والقنوات ومعرة النعمان وبصرى وغيرها، وتعود لفترات زمنية عدة، إلا أن أقدم العمائر التي مازالت باقية ترجع إلى العصر الأموي.
وتعد فسيفساء الجامع الأموي بدمشق واحدة من أشهر لوحات الفسيفساء "الإسلامية" في المنشآت الأموية الأولى، التي أُنشئت في بداية القرن الثامن الميلادي، وترجع إلى عهد الوليد بن عبد الملك، والذي ساعد على بقائها أنها كانت مخفية تحت طبقة من الكلس قبل أن تُكتشف في القرن التاسع عشر، ويرجح أنها صممت على يد فنانين دمشقيين وربما بمساعدة فنانين آخرين.
فسيفساء الجامع الأموي
برز الفن الإسلامي في الأعمال الجدارية بأساليب ومواد متنوعة في كل مكان في الجامع الأموي، ومنها الأعمال التي صممت بتقنية الموزاييك (الفسيفساء)، حيث استخدم في تنفيذها مكعّبات زجاجية مقاومة للمطر والغبار والحرارة، تتميز بسهولة تلوينها، وبالتالي إمكانية الحصول على درجات لونية متنوعة. وهذه المكعبات مكونة من وريقات معدنية رقيقة من الذهب والفضة، استخدمت الذهبية منها في تنفيذ الخلفيات، في حين صَوّرت المكعّبات الفضية المياه بطريقة واقعية من خلال مزجها بمكعّبات بيضاء وزرقاء، وأخرى باللون الأزرق الفيروزي، كما استخدمت في بعض الأماكن صفيحات من عرق اللؤلؤ، فساعدت بفضل شكلها الذي يشبه قطرة ماء على تصوير المصابيح المتدلية بين عقود المباني أو رسم الفواكه بأساليب تزيينية ومنمنمة.
توصف الفسيفساء في الجامع الأموي بالواقعية، حيث ركزت على نقل الواقع من مناظر طبيعية وعمائر إلى اللوحات، فامتازت عن جميع الأعمال التصويرية الجدارية الأخرى بموضوعاتها وأُسلوبها الفني، فهي تُمثل مجموعة من العناصر والكتل المعمارية من قصور ومنشآت و"جمالونات" وأعمدة وجسور وأبراج وأروقة محاطة بالأشجار، تحاشى الفنانون فيها وجود الأشخاص أو الحيوانات (التصوير التشبيهي) تقيّداً واحتراماً لوظيفة المكان الأساسية المتمثلة بالعبادة.
وقد شغلت الفسيفساء مساحة كبيرة في الجامع، وغطت معظم أجزاء الأروقة المطلة على صحن الجامع، وغطت بطون العقود وواجهاتها، ودهليز الباب الغربي (باب البريد )، وواجهة الحرم المركزية، وفي قبة الخزنة (بيت المال) في صحن المسجد، وأهم ما بقي منها مُصورة "بردى" الموجودة في الجدار الداخلي للرواق الغربي.
مُصورة "بردى"
تعتبر أهم اللوحات في الجامع وتزين جدار الصحن المفتوح فوق العقود في الرواق الغربي، وهي تصور نهراً على ضفته أشجار ضخمة وفي أعلاه قصور وعمائر من عدة طبقات، ومن نماذج مختلفة، يحيط بها عناصر طبيعية كالحدائق والنباتات والجبال والتلال، كما نجد على النهر قنطرة وإلى جانبها زخارف فسيفسائية تمثل فروعاً نباتية من الأكانثس (Acanthus).
لعب اللون دوراً هاماً فيها فاستُخدمت ألوان متعددة بقيم وتدرجات مختلفة للون الواحد، ووزعت حوالي أربع درجات من اللون الأزرق في تشكيل ألوان النهر، الأمر الذي أكسب أمواجه حركة بصرية، وانتشرت قطع فسيفساء فضية شكّلت انعكاساً على سطح الماء وبدت كأنها زبد مائي، كما جاءت الرسومات منبسطة فوق عمق ذهبي شكّل خلفية مما أعطى إحساساً بالاتساع والارتفاع والفخامة وأضفى جواً من القداسة.
آراء وتفسيرات
قدم العديد من العلماء والرحالة وصفاً حول مغزى فسيفساء بردى، واختلفت الآراء حول تفسيرها، وقد أطلق عليها اسمها الشائع "مصورة بردى" انطلاقاً من نسب البعض موضوع هذا المنظر إلى واقعٍ مستمدٍ من المنطقة المحيطة بالجامع، فقالوا إن المنازل والقصور المرسومة تمثل "مدينة دمشق"، والنهر الذي يخترقها هو "نهر بردى".
ومنهم من قال إنها تمثل مدينة الله، بينما ذهب ريتشارد إتنغهاوزن إلى أنها تعبير عن قوة الإسلام وتعاليمه التي أدت إلى ظهور العصر الذهبي. لكن الباحث المتخصص في الفن الإسلامي "أوليغ غرابار" رأى في كتابه "تكوين الفن الإسلامي" أنها ترمز إلى الجنة التي وعد الله بها المؤمنين، أي أنها كانت نوع من أنواع الحوافز للمؤمنين، فيمكن ربط هذا المنظر بالوصف الذي ذكر في الآية 57 من سورة النساء: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾.
أما الرحالة "المقدسي" والذي يُعد أول من كتب حول هذه اللوحات، وجد أنها تمثل صورة العالم، "فيها صور أشجار وأمصار وكتابات في غاية الحسن ودقة الصنعة، تكاد لا توجد شجرة أو مدينة ذات شأن لم تُمثل على هذه الجدران".
فسيفساء المدرسة الظاهرية
استوحى الفنانون الزخارف الفسيفسائية الموجودة على جدران ضريح الملك الظاهر في المدرسة الظاهرية من زخارف الجامع الأموي، ولم تقتصر العلاقة بينهما على نوع الخامة والتقنية المتبعة من حيث استعمال الفسيفساء الزجاجية فحسب، بل استخدمت فيها المشاهد الطبيعية والمعمارية ذاتها في مصورة "بردى". وهي عبارة عن شريطين مذهّبين من الكرمة (نسخة عن شريط الكرمة في الجامع الأموي)، يفصل بينهما شريط من الزخارف الهندسية الرخامية، ويعلو الكل شريط الفسيفساء المزججة المستوحاة من الأموي.