تنويهٌ لا بدّ منه: أكره الرثاء لأن البعض أضحى يستخدمه إمّا تزلّفاً لأهل المتوفّى، أو ليروي علاقة بالفقيد قد تكون سطحية أو غير حقيقية، أو تعبيراً عن مشاعر كاذبة يرغب الراثون في الاستفادة منها للترويج لأنفسهم. وليس هذا تقليلاً من أهمية الحديث الصادق غير المزيف عن المتوفّى وسرد أفضاله ومناقبه. كما أن الحديث عنه سيكون تسجيلاً لجزء من أحداث 1990- 1994.
لقد امتنعت طويلاً عن كتابة أي حرف عن عبد الحبيب سالم مقبل، ولكنني وجدت نفسي راغباً بعد فراق طويل من صديقي الأقرب أن أحكي قصتي معه.
وفاة عبد الحبيب وطائرة طبية لم تصل
نُقل عبد الحبيب إلى المستشفى في الأسبوع الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) 1995 للعلاج من أزمة قلبية أصابته بعد مقيل قات عند أحد الأصدقاء، واتصل بي في اليوم الثالث بجنيف، حيث كنت أزور الوالد، رحمه الله، وتمنّي عليّ العودة بسرعة. عدت في اليوم التالي عبر فرانكفورت ووصلت إلى صنعاء فجراً، وزرته صباحاً. أخذت التقارير من الأطباء وأرسلتها إلى الدكتور عبد الجليل نعمان، استشاري أمراض القلب المقيم في هيوستن بالولايات المتحدة. بعد ساعات قليلة جاء الرد منه بضرورة ترتيب النقل إلى الخارج في أقرب وقت شريطة استقرار حالته، خصوصاً أنه يعاني من ضعف في عضلات القلب.
اتصلت بالشيخ عبد العزيز التويجري، نائب رئيس الحرس الوطني والرجل الأهم في محيط ولي العهد السعودي حينذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز. كنت أناديه بالعم عبد العزيز، وأخبرته بحالة "صديقي" ورجوته إرسال طائرة إخلاء طبي لخطورة الحالة كما شرح لي الدكتور عبدالجليل، فوعدني بتجهيزها لكنه عاد واتصل بي مساء ذلك اليوم، موضحا أن صديقك لا يحتاج إلى إخلاء عاجل ويمكنه السفر على رحلة عادية.
اتصلت بالدكتور عبد الجليل لأبلغه بما حدث، فقال إن الأفضل ترتيب سفره بسرعة إلى الولايات المتحدة وأنه سيتكفل نفقات علاجه هناك. بقيت لأيام أسعى لترتيب الرحلة، ولهذا الغرض تواصلت مع عدد من الأصدقاء وتمكنت من جمع مبلغ لتغطية نفقاته الشخصية وقيمة تذاكر السفر له وزوجته. ذهبت إلى المستشفى لأطمئنه، وكان قد شعر بالملل والضيق من البقاء طويلاً في المستشفى فطلب مني أن أخرجه، فرتبت الأمر ونقلته للإقامة في فندق سبأ مع زوجته وطفله "وائل"، وتوادعنا على أمل التواصل هاتفياً حتى يحين موعد سفره، شريطة التزام الهدوء وعدم الانفعال.
فجأة، في فجر يوم الأحد 22 أكتوبر 1995، جاءت "أم وائل" مرعوبة إلى منزل والدي في شارع جمال بالعاصمة صنعاء حيث كنت أسكن، وأخبرتني أن سيارة إسعاف نقلت عبد الحبيب من الفندق إلى مستشفى لتعرضه لأزمة قلبية قبل دقائق من وصولها. اتصلت بفندق سبأ القريب من المنزل لمعرفة الوجهة التي ذهبت إليها سيارة الإسعاف، فأخبرني موظف الاستقبال أن الطبيب الذي وصل أخبرهم أن عبد الحبيب قد توفّي في غرفته قبل نقله إلى مستشفى "الثورة".
كان خبراً صاعقاً لم أشأ أن أتقبله، وتعلقت بأمل كنت أدري أنه كاذب، وتماسكت حتى لا أُبلغ زوجته، وأيقظت زوجتي "أم عبد العزيز"، وأخبرتها بما حدث وطلبت منها مرافقتنا حتى تكون مع "أم وائل"، وتحركنا فوراً إلى مستشفى الثورة العام في باب اليمن.
كان المرحوم منصور أحمد سيف، والأخ طاهر علي سيف، عضوين في مجلس النواب وزميلين لنا في لجنة إضراب تعز الشهيرة، فاتصلت بهما وطلبت أن نلتقي في المستشفى الذي وصلت إليه قبلهما. بحثت عن عبد الحبيب في قسم العناية المركزة، فلم أجده فتمنيت للحظات قليلة أن يكون حيّاً وأن تكون الحقيقة كذباً، لكن طبيباً جاءني وأخبرني أنه وصل إلى المستشفى متوفيّاً جرّاء أزمة قلبية حادة لم يتحملها قلبه الضعيف المنهك.
تجمّع عدد قليل من الأصدقاء الذين سمح لهم بالدخول إلى ساحة المستشفى والكل في حالة صدمة وذهول، واتفقت مع منصور وطاهر على نقله إلى تعز لدفنه هناك بعد الانتهاء من الإجراءات الإدارية المعتادة، ثم خرجت من المستشفى إلى وزارة الخارجية ودخلت مكتب المرحوم أحمد السعيدي، وكيل وزارة الخارجية للشؤون المالية والإدارية، وأخبرته بما حدث، فتعاطف معي لمعرفته بعلاقتي بعبد الحبيب. والسعيدي من الأشخاص الذين كنا نلتقي معه في المقيل عصر كل يوم تقريباً، وكان عبد الحبيب حاضراً في أغلب الأحيان ما لم يكن منشغلاً بلجان مجلس النواب قبل استقالته.
من مكتب أحمد السعيدي اتصلت بالرئيس الراحل علي عبد الله صالح في عدن، حيث اعتاد قضاء جزء من فترة شتاء صنعاء، وأخبرته أن عبد الحبيب قد توفي، فعزاني ثم سأل "في الرياض؟ أم في الولايات المتحدة؟"، وكان ردي غاضباً فأشار إليّ المرحوم السعيدي بالهدوء، ثم سأل صالح عن ترتيبات الدفن فأخبرته بأننا سنتوجه إلى تعز بعد ساعات.
طلبت من الأستاذ السعيدي سلفة مالية لما سيواجهنا من الأعباء في الطريق فلم يتردد، وعدت إلى المستشفى حيث كان منصور وطاهر قد أنهيا الإجراءات الإدارية، وتحركنا إلى تعز.
دفن عبد الحبيب
كانت الحشود الكبيرة من أبناء تعز واب قد توافدت إلى مدخل المدينة، وذهبنا مباشرة إلى موقع الدفن وانتهينا منه وسط حزن شديد. كان لافتاً حضور عدد كبير من المسؤولين، أذكر منهم الراحل اللواء يحيى المتوكل، الذي جاء من عدن وقال إنه كان مكلفا بذلك من الرئيس صالح، وشارك عدد كبير لم تعد ذاكرتي تستعيد أسماءهم، ولم يحضر أحد من قادة "الاشتراكي" لأن أغلبهم كان قد غادر البلاد بعد حرب صيف 1994.