ليس صحيحا ما يقال عادة وبتسرّع في أيامنا هذه، من أن المثقفين الفرنسيين الكبار لم يعد لديهم ما يقولونه، إلا بصورة سطحية من على شاشة التلفزيون، منذ تلك الأزمان المجيدة الممتدة من إميل زولا إلى آخر أزمنة الثقافة المباركة والمناضلة التي شهدت تحركات سارتر وفوكو وجان جينيه وحتى ريمون آرون وغيرهم دعما للمواقف السياسية المتقدمة والمطالب الإجتماعية المحقة ولا سيما الشبابية والطلابية منها.
فالحال أن بعض الكبار من بين المثقفين الفرنسيين واصلوا لعب هذه الأدوار وعلى الأقل حتى بدايات القرن الحادي والعشرين التي بدأت تشهد بالفعل جدبا في هذا السياق. ولعل خير دليل على ما نقول المفكر/ الفيلسوف بيار بورديو الذي حمل العبء النضالي للمثقفين حتى رحيله في العام 2002، وشهد تجاوب جمهرة القراء العريضة معه رغم صعوبة لغته واشتغاله على المفاهيم وغرقه في التقنيات أحيانا. ولئن كان معروفا دائما أن الأرقام هي الدليل الدامغ، حسبنا هنا أن نورد أرقام المبيعات المتعلقة ببعض كتبه، وهي أرقام تخص السنوات الأولى من صدور كل كتاب: فالأول في القائمة كتابه "التلفزيون" الذي فاقت مبيعاته المليون ونصف المليون نسخة، يليه "بؤس العالم" (مليون و270 أف نسخة)، فـ"الورثة" (940000 نسخة) و"مسائل علم الإجتماع" (أكثر من 810000 نسخة).... ومن المؤكد أن تاريخ الفكر نادرا ما شهد مثل هذا التدافع لشراء، وربما أيضا لقراءة فيلسوف على هذا النحو.
ظاهرة فعّالة ولو متأخّرة
لا بد من التأكيد هنا على أن هذه الظاهرة بدأت متأخرة جدا في مسار هذا الكاتب، حيث أن بدايتها المنطقية تعود فقط إلى العام 1993 حين كان بورديو في الثالثة والستين ولم يعد أمامه للعيش سوى ثماني سنوات. قبل ذلك كان علّم كثيرا وناضل كثيرا واسنفزّ سلطات بلاده كثيرا، وصولا إلى تأييده العلني لترشّح الهزلي الفرنسي كولوش للرئاسة معلنا أنه جادّ في ذلك الدعم ولا يمزح! ومع ذلك كان عليه أن يصدر "بؤس العالم" ذلك الكتاب الضخم والغاضب والإستفزازي ليهز الحياة الثقافية في فرنسا وانحاء كثيرة من العالم، ملخّصاً فيه كل ما كان يشغل بال الناس في ذلك الحين وقد راحت القيم تختفي ويصبح مصير العالم رهنا للتقلبات التجارية والمالية.... أو ما سُمّي بالعولمة التي كانت هي الكلمة المفتاح في الكتاب.
والحقيقة أن "بؤس العالم" كان تحولا كبيرا وأساسيا في مسار بورديو الفكري، بل حتى الحياتي أيضا. وهو إذ صدر في العام 1993 كما قلنا كان قد قرئ على نطاق أكثر من واسع حين شهدت فرنسا بعد عامين سلسلة من التحركات المطلبية الطلابية والإجتماعية المدهشة التي ذكّرت بربيع باريس 1968، وكشفت كم أن بورديو كان صائبا، ليس فقط في تشخيصه وتحليله، وإنما خاصةً في توقعاته كذلك هو الذي لا يقول كتابه في جوهره سوى حتمية وضرورة تلك التحركات. لقد أعاد "بؤس العالم" المسألة الإجتماعية إلى قلب المواجهة كاشفاً عمن هم وسيكونون في رأيه أكثر وأكثر، ضحايا العولمة: الكادحون والمنسيّون في حسابات الكبار. وضمّ الكتاب على مدى المئات من الصفحات بحوثا ميدانية وحوارات مع خمسين شخصا جُمعت عبر عمل أكاديمي ممنهج، لكنها جاءت على شكل حكايات يومية عن حياة البؤس العادي التي يعيشها أبناء فئات اجتماعية تضم شرائح واسعة بدءا من عمال مياومين إلى قضاة، ومن موظفين وعاطلين عن العمل إلى شرطيات ومحامين كان واضحا أن ما يجمع بينهم هو أن المجتمع قد وضعهم خارجه من دون أن تكون لهم هم يد في ذلك.
على خطى إميل زولا!
كان من الواضح أن النقطة الأكثر أهمية في "بؤس العالم" كمنت في أنه أعاد الاعتبار إلى علم الإجتماع مؤكدا أن في إمكان هذا العلم أن "يحفر في عمق اليومي كما في عمق التجربة الإنسانية" مشبها ذلك بما كانت تفعله روايات الكاتب إميل زولا في القرن التاسع عشر، حتى من دون أن يدّعي أن عمله يستكمل عمل زولا. اكتفى بورديو بأن يعتبر نفسه "شغّيلا" دون أن يتخلى، كعالم وباحث، عن غضب كبير طبع عباراته وتحليلاته في الكتاب... وكان من الطبيعي أن يُنظر إليه انطلاقا من ذلك كله، وبحسب ما قاله باحث إيطالي في معرض حديثه عن الكتاب وصاحبه أنه وضع نفسه "خارج إطار تلك الخيانة التي مارسها المثقفون، الفرنسيون وغير الفرنسيين، طوال سنوات التسعين من القرن العشرين حين اكتشفتهم شاشات التلفزة واكتشفوها هم ليصبحوا نجومها بسترات ملونة ابتاعوها لتناسب ألوان الشاشات..."
ولكن، في الوقت الذي تحلق فيه كثر من حول بورديو يستضيئون بعلمه ويدعمون أفكاره ويهللون للثقافة الحية وقد استعادت دورها، وقف كثر ضدّه. فالواضح أنه أحدث فرزا جديدا ما كان من شأنه أي يرضي الكثر، حتى وإن كان لا بد من الإعتراف بأنه فرز صحي وسط ركود الساحة الثقافية.... الفرنسية على الأقل. وسط ذلك كله حدث ما لم يكن هناك بد من حدوثه: تحول بيار بورديو إلى ظاهرة. ولما استفحلت الظاهرة تحرك الهجوم المضاد. لكنه لم يأت من جانب الشرطة وهراواتها أو محاكم التفتيش الجديدة أو خراطيم المياه، بل من جانب المثففين أنفسهم، وأحيانا من جانب من كانوا أصلا من تلاميذ بورديو. ومن المؤكد أن جريمته كانت، في نظرهم تركه بلادة المختبرات الجامعية والمكاتب الوثيرة وستديوهات التلفزة، ليضع كل إمكاناته وأفكاره في تصرف الحراك الإجتماعي والسياسي بالتالي. ولنتذكّر هنا كيف أنه غالبا ما كان يشاهَد في الشوارع مع الفقراء من محتلّي البيوت يحرضهم، وتارة مع المهاجرين الذين يُضَنّ عليهم بالعمل وإجازاته، ودائما إلى جانب عمال السكك الحديدية في إضراباتهم منددا بكل انواع الإستغلال ولكن متصدّيا كذلك لكل ضروب العنصرية والإستبعاد والإقتلاع. وهو في معاركه تلك، وإلى جانب محاضراته الجامعية وإعطاء طلابه من وقته ما يمكنهم من مناقشته وتفهّم مواقفه، لم يتوان عن استخدام... التلفزة كذلك ولكن دائما ضمن شروطه منكرا على المذيعين محاولاتهم قطع حديثه حين يصل إلى نقاط هامة في ذلك الحديث – كما يحدث دائما!! -.
ضد الخواء الفكري
والحقيقة أن ما ساند بيار بورديو في معركته كان ذلك الخواء الذي تعيشه الحياة الثقافية منذ رحيل سارتر وغياب المثقف الملتزم بالمعنى الذي يطلب من الفكر أن يكون متحركا داخل مجتمعه مدافعا عما يراه جقا خارج الجدالات الفلسفية التي كان كثر من المثقفين، وأشباه المثقفين، الفرنسيين خاضوها خلال العقود الأخيرة. ومن هنا ما يمكن أن يقال أن "القلبة" التي أحدثها بورديو أتت في اللحظة الملائمة من مفكر لم يكن قبل ذلك غائبا عن تلك الساحة بل كانت هي غائبة عنه منشغلة منذ أواسط الثمانيات بالوعود الخلابة والآمال التي سرعان ما تحطمت على أرض الواقع. فبورديو كان في "الميدان" على الأقل منذ العام 1964 حين عُيّن مديرا للدراسات في المدرسة العملية للدراسات العليا، وذلك إثر عودته من الجزائر التي انتُدب للتعليم في مدارسها الثانوية أواخر سنوات الخمسين ولسوف يقول دائما أن إقامته وعمله التعليمي في الجزائر في عز انلاع ثورتها الإستقلالية هما ما شحذا شخصيته وأضاءا له طريقه. ومن هنا حين عاد من الجزائر عاد إنساناً آخر تماما ولا سيما بعد العام 1968 حين توالت مهماته العلمية والتعليمية من تأسيس "مركز سوسيولوجية التعليم والثقافة" إلى إدارته مجلة "فصول البحث في العلوم الإجتماعية" وصولا إلى شغله منذ العام 1981 كرسي علم الإجتماع في "الكوليج دي فرانس" بادئا إصداره كتبه العديدة التي تحولت تدريجيا من كتابات تقنية وعلمية إلى بحوث غاضبة تحريضية قُرئت على نطاق واسع وليس دائما من قبل المثقفين أو طلاب العلوم الإجتماعية.