هناك أعمال إبداعية تكون من الإلتصاق باسم صاحبها ويُلصق بها ذلك الإسم إلى درجة يُخيّل معها للناس أن المبدع لم يحقق غيرها طول حياته. ويصحّ هذا الكلام على الموسيقى كما يصح على أي إبداع آخر. وهكذا مثلا كما يحدث للإسباني مانويل دا فاليا حين يُعتقد أنه لم يكتب سوى "حدائق إسبانيا"، يحدث لمواطنه إيزاك ألبينيز الذي ما إن يُذكر اسمه حتى تقفز إلى الأذهان قطعته الساحرة "غرانادا" التي تُلعب وتُقتبس من قبل كثر منهم طبعا فناننا العربي الكبير فريد الأطرش الذي حقق لها شهرة واسعة في الحياة الفنية العربية من خلال لعبها على العود ضمن المقدمة الموسيقية لرائعته "حكاية غرامي" – في حفلات معينة على الأقل -، مع أنها إنما كُتبت أصلا للبيانو. وقد يحدث أحيانا أن يكون بعض غلاة الهواة على معرفة بأن "غرانادا" تشكل جزءا من "متتالية إسبانية" تضم عادة بين خمس أو ثماني قطع لألبينيز تحمل أسماء مدن إسبانيا ناهيك بقطعة معنونة "كوبا". وقد تجد حتى من بين أولئك الهواة من يكتفي بالمتتالية في حديثه عن ألبينيز. ومع ذلك كتب هذا الموسيقي المبدع الكثير من الأعمال وجال في الكثير من البلدان، ناشرا الموسيقى الإسبانية في العالم الأوروبي، مستلهما هذا العالم في كوزموبوليتيّة تتنافى مع خصوصية تلك المتتالية. بل وصل به الأمر ذات حقبة من حياته إلى كتابة "ثلاثية أوبرالية" بتمويل من ثري إنكليزي يدعى فرنسيس ماني – كاوتس، ولعل أشهر أجزاء تلك الثلاثية إلى جانب "بيبيتا خيمينيز" و"ميرلين"، أوبرا "هنري كليفورد"، التي لحنها الموسيقي الإسباني متجولا بين لندن وبرشلونة وباريس لتقدم للمرة الأولى في العام 1895 في برشلونة نفسها بعنوان "إنريكو كليفورد".
منذ ذلك الحين لا يتوقف المدراء الفنيون في دور الأوبرا الإسبانية الكبرى عن تقديمها وغالبا مع تجديدات وإضافات لعل أحدثها تلك التي قدّمت في العام 2009، بإشراف خوسيه دي إيزوبيو الذي كان قد أعاد هيكلتها قبل ذلك بسبع سنوات، محدثا فيها نوعا من إعادة توزيع أعادت اليها روحا شرقية كانت غابت طوال أكثر من قرن. ففي كل تلك السنوات وجد كثر من الموزعين أن من غير المنطقي التشديد على الروح الشرقية في عمل يتناول حرب الوردتين في القرن الخامس عشر الإنكليزي!
الطلب إنكليزي والروح شرقية
فالواقع أن ألبينيز وبناء على طلب راعيه ومموله الإنجليزي/ الأميركي لم يجد حين لحن النص الإنجليزي أواخر القرن التاسع عشر، أي غضاضة في أن يستفيد من أشغاله الخاصة في ذلك الحين والمنكبّة على استكشاف الروح الحقيقية للفنون الشعبية في بلاده وهي روح أندلسية خالصة تنهل من التاريخ الغني للفنون الأندلسية ذات الطابع الشرقي بل العربي تحديدا. ولسوف يقول الدارسون أن الممول الأنغلو ساكسوني كان هو من شجعه على ذلك المزج بين التاريخ الإنكليزي والروح الشرقية في معالجته لمآثر البطل التاريخي هنري كليفورد إبان حرب الوردتين ولا سيما الصراعات العنيفة التي خاضها هذا الأخير ضد الإسكوتلنديين خلال معركة فلودّين التي تشكل الخلفية الحدثية لحكاية الغرام والتضحية والنزوع الوطني والخيانات وضروب الغدر التي تعتبر عادة الغذاء الأسمى لهذا النوع من الأوبرات التاريخية. لقد خاض ألبينيز التجربة بكل حماسة بادئا العمل في لندن التي سرعان ما غادرها إلى برشلونة حيث أراد ألا يكون في منأىً عن مصادر الهامه المحلية. لكن آماله سرعان ما خابت هناك حين وجد النقاد والأصدقاء لا يتوقفون عن لومه لانصرافه "المتأمرك" خارج مواضيع تاريخ بلاده، فبارح برشلونة قاصدا باريس حيث ما إن اكتمل العمل حتى عاد إلى إسبانيا ليقدمه بنجاح هائل جعل ناقد صحيفة "لا غوارديا" واسعة النفوذ يكتب مقالا يقول فيه: "أخيرا نجح ألبينيز في أن يصبح نبيّاً في بلده"، فيما كتب ناقد آخر: "لا شك أن الأجواء الموسيقية لإنريكو كليفورد الجبار تظلّ تطنّ في آذاننا لفترة طويلة بعد تقديم هذا العمل البديع".
وهكذا تبنى النقد الإسباني هذا العمل ليُعتبر بدوره جزءا من تلك الروح "المحلية" التي تهيمن على أعمال ألبينيز الكبيرة التي أعطت الموسيقى الوطنية الاسبانية بعض أعظم أعمالها كاشفة عن امتزاج الروح الشرقية بالروح الغربية. ولكن، على الرغم من تلك الروح الأندلسية الشرقية عرف ألبينيز دائماً بكونه من أكثر الموسيقيين الإسبان المعاصرين له أوروبية. بمعنى أن تكوينه الفني ومزاجه الشخصي، ناهيك عن التفاته الدائم ناحية أوروبا، كلها أمور كان من شأنها في البداية، أن تجعل ألبينيز واحداً من أكثر الفنانين الإسبان ابتعاداً عن الروح الشرقية ورومانسيتها الحالمة وإيقاعاتها المدهشة. لكن الرجل، بعد جولة أوروبية طويلة، وبعد ارتحال لافت في عقلانية وسط أوروبا وشمالها، عاد ذات يوم ليكتشف أن ما يبحث عنه حقاً، في الفن وتحديداً في الموسيقى، كان دائماً موجوداً هناك، في الأرض الأندلسية ومنذ تلك اللحظة صارت ألحانه، المكتوبة في معظها كقطع للبيانو، مطبوعة بالشرق أكثر من أية موسيقى أوروبية أخرى، بل جاءت في ذلك متقدمة كثيراً على المقطوعات ذات الروح الشرقية (أو بالأصح الاستشراقية) التي كان يؤلفها في أزمان متقاربة، موسيقيون مثل إدفارد غريغ، وسميتانا والروسي الكبير ريمسكي - كورساكوف. فلئن كانت موسيقى هؤلاء، انطبعت بروح «شرقية» متصوّرة فضلاً عن الرومانسية الأوروبية التي صاغت، في نهاية الأمر، شرقاً خاصاً بها، فإن موسيقى ألبينيز، خصوصاً تلك التي كتبها بعد سن النضج، وبعد عودته إلى إسبانيا من ترحاله الأوروبي، جاءت وارثة للموسيقى الاسبانية التي كانت بدورها وريثة الايقاعات - والألحان الأندلسية العربية القديمة.
دراسة ألمانية/ بلجيكية
ولد ألبينيز في العام 1860 في مدينة كامبرودون الإسبانية، وكان في الرابعة من عمره حين كشف باكراً عن حس موسيقي رهيف وبدأ يعزف على البيانو. لكن والده لم يسمح له، أول الأمر، أن يحترف الموسيقى، فاضطر للهرب من البيت وكان في الثالثة عشرة، حيث عاش متنقلاً يعمل كعازف للبيانو حتى يؤمن عيشه. وإذ تكرر هربه مرتين لم يجد أبوه مفراً من الرضوخ لمشيئته، فوافقه على اختياره المصيري، بل ساعده على الالتحاق بكونسرفاتوار لايبزغ في المانيا حيث شرع يدرس الموسيقى. بعد ذلك حين نفدت نقوده، التحق بمعهد بروكسل (بلجيكا) الموسيقي بفضل منحة حكومية ملكية قدمت له. وفي العام 1883، كان في الثالثة والعشرين حين أنهى دروسه وعاد ليقيم في إسبانيا حيث بدأ يدرّس الموسيقى، أولاً في معاهد برشلونة، ثم في مدريد.
في تلك الآونة كان ألبينيز بدأ يكتب مقطوعات موسيقية بسيطة للبيانو. لكنه اعتباراً من العام 1890 عاش تحولاً أساسياً في حياته جعله يأخذ التأليف الموسيقي مأخذ الجدية، خصوصاً أنه كان في تلك الآونة بدأ يخضع لنفوذ المؤلف الكبير فيليبي بدريل الذي كان يعتبر الأب الشرعي للموسيقى الوطنية الإسبانية. وفي العام 1893 توجه ألبينيز إلى باريس حيث اختلط بعدد من كبار الموسيقيين كانوا قد بدأوا الاهتمام بالموسيقى الشعبية ومنهم فنسان دندي وبول دوكا، وبفضل ذلك الاختلاط تعمق اهتمام ألبينيز بالحس الشعبي، وذلك بالتوازي مع إصابته بمرض «برايت» الذي سيصيبه بعد ذلك بالشلل ثم يقضي عليه، إذ ارتحل عن عالمنا في أيار (مايو) 1909، وكان لا يزال في التاسعة والأربعين من عمره.
مهما يكن، فإن أهمية ألبينيز، الذي جرب أنواع الكتابة الموسيقية كلها بما فيها الأعمال الأوبرالية، تكمن في مقطوعات البيانو الشهيرة التي كتبها، والتي استخدمت في غالبيتها الحاناً وتقاسيم وإيقاعات مستقاة من الحس الأندلسي. أما عمله الأشهر فهو مجموعة «إيبيريا» التي الّف مقطوعاتها المختلفة بين العام 1906 والعام 1909، أي ظل يكتبها حتى أيامه الأخيرة، وتتألف من 12 قطعة يرى الكثير من المؤرخين والنقاد أنها من أكثر الأعمال الموسيقية تعبيراً عن الروح الأندلسية. ومن بين أعماله الشهيرة أيضاً متتابعة «إسبانيولا» التي ذكرناها وتتضمن قطعة «غرانادا» الشهيرة؛ وكذلك «كانتوس إسبانيا» التي تتضمن «كوردوبا»؛ ثم «نافارو» و«التانغو من مقام D كبير».