منذ ثلاثةٍ وثمانين عاماً، أصدر الأديب المصري توفيق الحكيم كتابه الذي حظي بشهرة واسعة وتُرجم إلى غير لغة "يوميّات نائب في الأرياف"، وفيه يروي مشاهداته في الريف المصري، خلال عمله في القضاء، ويكشف فساد المنظومتين القضائية والإدارية، في الثلاثينيات من القرن الماضي. وهو يفعل ذلك، على شكل يوميّات، تمتدّ من الحادي عشر من أوكتوبر(تشرين الأوّل) حتى الثالث والعشرين منه، أي ما مجموعه ثلاثة عشر يوماً، أفردَ لكلٍّ منها فصلاً خاصّاً به. وهو كتابٌ يطرح على بساط البحث مسألة النوع الأدبي، فنتساءل: هل هو يوميّات أم سيرة أم رواية لا سيّما أنّه يأخذ من كلِّ نوعٍ من هذه الأنواع بِطرْف؟
هذه الوقائع تداعت إليَّ، وأنا أقرأ كتاب "سيرة الوجع" للروائي والطبيب السوداني أمير تاج السر ( دار هاشيت انطوان - نوفل) الذي يروي فيه مشاهداته، في الريف السوداني، خلال عمله طبيباً، عاماً ونصف العام، في بلدة بعيدة، على الحدود السودانية الإريترية، في الثمانينيّات من القرن الماضي. وفيه يكشف تخلّف العالم الذي يتناوله، على المستويات كافّة. والكتاب، بدوره، يطرح مسألة النوع الأدبي على بساط البحث، ويدفعنا إلى التساؤل: هل هو رواية أم سيرة وفيه أشياءٌ من كلا النوعين؟
في الشكل، يتألّف الكتاب من ستّين وحدة سردية، يتراوح طول الواحدة منها بين صفحتين اثنتين، في الحدّ الأدنى، وثلاث صفحات ونصف الصفحة، في الحدّ الأقصى، ويقلُّ طول معظمها عن ثلاث صفحات. وغالباً ما تتناول الوحدة شخصية معيّنة، ارتبطت بالكاتب بعلاقة أو بأخرى. وقلما تتناول حالة اجتماعية محدّدة، كان للكاتب حظّ التعرّف إليها. وبذلك، نكون أمام عشرات الشخصيات والحالات والمواقف، الغريبة أو الطريفة أو الموجعة أو المحزنة أو المفرحة، وهي ليست منفصلة عن العالم المرجعي الذي يُحيل إليه الكتاب، فالحدث الفردي يعكس الجماعي، والحالة الخاصّة تشي بالعامّة، ولكلّ شخصية خلفيَّتها الاجتماعية. على أنّ العلاقة بين الوحدات السردية المختلفة لا تخضع للزمن الكرونولوجي، ولا يجمع بينها سوى حصول معظمها: في مكانٍ عامٍّ واحد هو البلدة الحدودية القديمة، وفي زمانٍ عامٍّ واحد هو عامٌ ونصف العام من حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وفي شهادة الطبيب الكاتب عليها، ما يجعلها، قياسًا على يوميّات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم "يوميّات طبيب في الأرياف" لأمير تاج السر. وبذلك، نكون إزاء بنية سيرية أو روائية حداثية مفكّكة، تكسر النمط التقليدي للسيرة / الرواية الذي يقوم على نموّ الأحداث وتشابكها في إطار حبكة معينّة، وعلى شكل كرونولوجي للزمن السردي. بهذا المعنى، تمكن قراءة الكتاب من حيث شاء القارئ، ويمكن الحذف منه والإضافة إليه والتعديل فيه، دون أن يُحدث ذلك أيَّ خللٍ في بنيته السردية المفكّكة.
في المضمون، تدور الأحداث في عالم ريفي، زراعي، قَبَلي، متخلّف، تتحكّم به الأعراف والعادات والتقاليد والوسائل البدائية أكثر من القانون والعلم والوسائل الحديثة. على أنّ هذا العالم يشهد تطوّراً ملحوظاً، خلال المدّة التي عاشها الكاتب فيه، سواءٌ على المستوى الإداري أو الطبّي، فالكاتب يشير في آخر الكتاب إلى أنّه دخله "من بوّابة العراء التي يحرسها الجنُّ والخواء والمرض"، وخرج منه "محافظةً وليدةً دخلتها السلطة وَرُقِّيَتْ شرطتها، وبيوتها، ومجالسها..." (ص 240). وهو لا ينسب هذا التطوّر لنفسه بل لآخرين، ولا يشير مباشرةً إلى أنّه كان أحد هؤلاء، غير أنّ تهافت الناس البُسطاء على وداعه عند مغادرة البلدة، والضُّغوط التي مارسها عليه المحافظ والوجهاء للبقاء تشي بالدور الذي لعبه.
مواقف طريفة
في "سيرة الوجع" الكثير من المواقف الطريفة أو المبدئية أو الموجعة. وثمّة غيرُ مَثَلٍ على كلّ نوع من هذه المواقف، ممّا نبيِّنه فيما يأتي: فمن المواقف الطريفة، قيام الطبيب الكاتب بإعادة ضغط الدم إلى معدّله الطبيعي لأبَّكر، الخياط الحدودي ذي الهيكل الكبير، ما أدّى إلى مشارفته الموت، حتّى إذا رفع له ضغطه، من جديد، يعود إلى حياته الطبيعية. ومنها إقدام عثمان هيصة، السائق في المؤسّسة الزراعية على عملية إنعاش قلب لطفل صغير يعاني الجوع ولم يكن بحاجة إليها. ومنها خضوع الطبيب الكاتب لعلاج بدائي لمرض الملاريا على يد سكينة العشوائية، العجوز المجهولة الأصل. ومنها نجاح أوكير رطل، قصّاص الأثر الثمانيني، حيث تخفق الشرطة، فيحدّد سارق آلة التسجيل من مركز السكن الطبّي، ما يؤدي إلى استعادتها والقبض على السارق.
ومن المواقف المبدئيَّة، قدوم أسامة العاصي، المدرّس، بترك المدينة ومغرياتها، وتدريس تلاميذ "غُبُشًا" في البلدة النائية، في ظروف صعبة للغاية، مُغَلِّباً حسَّه الوطني على راحته الشخصية. ومنها قيام المحافظ الثلاثيني الشاب بإنماء البلدة، من خلال تعبيد الطريق ودعم المستشفى، مُغَلِّباً المصلحة العامّة على الخاصّة، ومُعْرِضاً عن مظاهر التكريم الفارغة. ومنها نهوض المدرّس الشمالي سيِّد أحمد بمدرسة البلدة الابتدائية، حتى إذا لبّى الدعوة إلى تكريمه، بعد عشر سنوات من العمل، "كانت ترافقه مدرسة بأكملها" (ص 125). ومنها إيثار الملازم إدريس، ابن إحدى القبائل، الذي يرعى الصلح بين القبائل المتنازعة ويعقد الزيجات فيما بينها ويمارس عادات القبليين وتقاليدهم، البقاء في البلدة البعيدة على العودة إلى المدينة، رغم ترقيته الاستثنائية، "حتى تنام المنطقة بلا سيوف أو خناجر" (ص 133). ومنها رفض سمبابة أوهاج، حارس العيادة، تقاضي بدل الحراسة حين يقصّر في عمله.
ومن المواقف الموجعة، وفاة الأربعيني عثمان أحمد، القادم إلى البلدة من كسلا، ليفتح فرعاً للبنك الزراعي فيها، قبل يوم الافتتاح الذي يتحوّل إلى عزاء، ما يطيح بأحلام الثروة التي دغدغت البسطاء من المزارعين. ومنها إصابة المعلّم القديم مبتهج بنوبة قلبية يوم زفاف ابنته إلى معلِّمٍ شاب، ما يُحَوّل العرس إلى مأتم. ومنها وفاة يونس، الطالب الثانوي المهووس بالطب الذي يخزّن في رأسه بيبليوغرافيا لعشرة آلاف طبيب بورم دماغي في الرأس. ومنها دفع العم تاج، المدير الطبي للمستشفى الساحلي، حياته ثمنًا لإحلال النظام في مجتمع غير منظّم.
إلى هذه المواقف المتنوّعة، ثمّة مواقف أخرى مختلفة تعبّر عنها شخصيات أخرى، لا يتّسع المقام لذكرها، فنرى الصراع على السلطة المحلية الاجتماعية بين الوجهاء المحليّين، والاستنسابية التي تحكم لجان اختيار الموظّفين، وتضخيم الأدوار التي ينتحلها بعض العائدين من المدينة، وسوء استخدام السلطة الذي يقوم به بعض الصبية من محدثي النعمة، وسواها من المواقف التي تتكشّف عنها السيرة المرويّة.
في وحداته السردية، يضع الكاتب الواقعة المروية في نصابها الاجتماعي، فتفلت منه ملاحظات عامّة تصف هذا النصاب، في بداية الوحدة أو وسطها أو نهايتها. وهكذا، لا تكون الحالات المرصودة معزولة عن البيئة التي نشأت فيها. ومن خلال هذه الآلية، يضيء الكاتب جوانب من الحياة الحياة البدائية، الشاقّة، في عالم يتربّص به الفقر والمرض والجهل والجوع. ويلقي نظرات على أوضاع الطبابة والتعليم والعمل وسواها من الحقوق المهدورة في هذا العالم. ويضمّن كتابه كمّاً من العادات والتقاليد والأدوات والوسائل البدائية، ما يخرج بالكتاب من نوع السيرة الذاتية، وهو ليس كذلك، إلى السيرة العامّة للمكان في حقبة زمنية محدّدة، ويفتحه على حقول معرفية أخرى، من قبيل: التاريخ والاجتماع والأنتروبولوجيا وغيرها.
إنّ لغة "سيرة الوجع" التي يرويها أمير تاج السر تجمع بين طلاوة السرد ونداوة الشعر ونضارة الأدب، وهو الشاعر السابق والروائي الحالي. وتستخدم المعجم الطبّي مفرداتٍ وتراكيبَ ممّا يتعلّق بمهنة الكاتب، وتسمّي الأشياء بأسمائها ما يعكس العالم المرجعي الذي تتحدّر منه وتحيل إليه. غير أنّ ملاحظةً تُطِلُّ برأسها، في هذا السياق، تقتضي الإشارة إليها، وهي أنّه، رغم تسميته الشخصيات بأسمائها والقبائل التي تنتمي إليها، ورغم ذكره الحماقات التي اقترفتها أو الأعمال التي قامت بها، فإنّه لم يُسَمِّ البلدة الحدودية البعيدة التي تجري فيها الأحداث، ولم يتحدّث عن أخطاء ارتكبها. لقد كان مجرّد شاهدٍ محايدٍ على الوقائع المروية يكتفي بالتدوين والكتابة، ما ينتقص من سِيَرِيَّة السيرة، ويقترب بالنص من روائيّته المفترضة.