من أولى الانعكاسات السياسية لفيروس كورونا في لبنان، وربما في العالم، اضمحلال السياسة بمفهومها اليومي، باستثناء بعض المواقف السياسية التي تفرضها تطورات لم تكن في الحسبان، مثل فضيحة تهريب العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري، الذي يحمل الجنسية الأميركية، الأسبوع الماضي.
فالقضية خلّفت زوبعة سياسية نتيجة توجيه الاتهام للسلطة وتحديداً لفريق رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل بالتجاوب مع الضغط الأميركي لإخلائه، ثم رد فعل "حزب الله" العنيف ضد الحملة عليه، بحجة الارتياب بمسايرته حليفه في الحكم بالاستجابة للأميركيين. ودافع الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله عن موقفه نافياً وجود صفقة، مجدداً هجومه على السياسة الأميركية، بينما صدر النفي نفسه عن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر، الذي شدد على موقف حكومته ضد الحزب. فبدا أن واشنطن والحزب ومن ورائه إيران يتعايشان في لبنان، تحت سقف الخصومة وتجنب الاشتباك المباشر.
كورونا يغيب السياسة
مع طغيان القلق والخوف من تفشي كورونا حلت التدابير المتخذة لمواجهة انتشار الوباء وحلّ النقاش حول مدى فعالية قرارات حكومة الرئيس حسان دياب، مكان السجال الدائم حول الأزمة الاقتصادية ودور التجاذبات السياسية والمحاصصة والهدر والفساد وإقحام لبنان في المحور الإيراني السوري في تفاقمها.
بعض المواقف المتعلقة بخطوات الحكومة ضد تفشي الفيروس أخذ طابعاً سياسياً وطائفياً أحياناً، بدلاً من أن يأخذ وجهة طبية وعلمية وعملية، حين جرى تحميل الحكومة مسؤولية التأخير في وقف الطيران من إيران وإيطاليا، بفعل الرضوخ لـ "حزب الله"، حين اعتبر منتقدو الحكومة أنها تفتقد للمبادرة لأنها تأخرت في إعلان التعبئة العامة، التي جاءت بديلاً من إعلان حالة الطوارئ ومنع التجول. ونسب منتقدو الحكومة تلكؤها في قرار إعلان الطوارئ، إلى رفض فريق الرئيس عون و"حزب الله" تسليم إدارة الأزمة الصحية إلى الجيش اللبناني، وفق ما ينص عليه قانون الطوارئ، لأسباب سياسية ضمنية هي تجنب إعطاء قائد الجيش جوزيف عون صلاحيات تعزز موقعه كمرشح لأدوار أكبر، يخشى منها "التيار الوطني الحر".
التبرعات والمبادرات الأهلية
وعلى الرغم من ذلك، أخلى السجال الساحة لمبادرات أهلية قفزت إلى الواجهة في الأيام الماضية، من مظاهرها جمع التبرعات للمستشفيات التي تتولى معالجة المصابين بكورونا، فأظهرت قدراً من التكافل الاجتماعي الذي يحتاجه لبنان في ظل أزمته الاقتصادية المضاعفة، نتيجة شبه الانهيار الذي أصاب اقتصاده منذ نهاية الصيف الماضي. هذا فضلاً عن أن الإقفال العام منذ 15 مارس (آذار) للحد من الاختلاط الاجتماعي وتناقل عدوى كورونا، أدى إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية لحرمان شرائح اجتماعية يكسب أفرادها قوتهم من عملهم اليومي، مثل السائقين وبائعي الخضار على العربات، وأصحاب البسطات الثابتة والمتنقلة وغيرها، الذين باتوا في وضع مأساوي ظهرت بعض تجلياته على شاشات التلفزة. وهو ما جعل البعض يحذر من حصول مجاعة.
ليل الأحد 22 مارس حبست مبادرة محطة "إم تي في" التلفزيونية اللبنانيين على شاشتها، استكمالاً لمبادرة انطلقت الخميس الماضي لجمع التبرعات، انتهت بتجميع ما يفوق 25 مليار ليرة لبنانية، أي ما يفوق 18.5 مليون دولار أميركي خصصت في الدرجة الأولى لدعم مستشفى رفيق الحريري الحكومي في العاصمة بيروت، الذي يتولى معالجة المصابين بفيروس كورونا، والصليب الأحمر اللبناني ومستشفيات أخرى حكومية في المناطق من الجنوب إلى الشمال، والبقاع والجبل.
واللافت في هذه العملية، التي غيبت الخلافات السياسية، أن معظم المتبرعين الكبار اشترطوا ألا تُحوّل تبرعاتهم إلى جهات حكومية بسبب غياب الثقة بالدولة والحكومات التي تراكمت إلى حد الانعدام على مر السنوات. وتراوحت أرقام المتبرعين بين 6 ملايين دولار أميركي (جمعية المصارف) لدى المقتدرين، إلى 50 ألف ليرة لبنانية، من قبل متعاطفين محدودي الدخل وأطفال.
ودفع شح أموال الخزينة وسط تقديرات بأن تعجز عن شراء مستلزمات تفاقم الوباء، ومعالجة انعكاساته الاجتماعية الكارثية بإمكانياتها المحدودة، سياسيين إلى إعلان تقديمهم مبالغ عالية، من أبرزهم رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط الذي اتصل بالمحطة وقدم مبلغاً عالياً، وتلاه نواب وسياسيون، كان بعضهم سبق أن تبرع بمخصصاته لمستشفيات أو مراكز صحية في مناطقهم. كما أن اللافت أن جنبلاط رفض التحدث في السياسة خلال الاتصال، عند محاولة الإعلامي مارسيل غانم طرح أسئلة عليه.
مساعدات للأكثر فقراً
وكانت الحكومة أعلنت عن نيتها تخصيص صندوق مساعدات مالية عينية للأسر الأكثر فقراً وللذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم بسبب الإقفال العام، أو ما سبقه من إقفال مؤسسات وشركات حتّمه الركود الاقتصادي قبل ظهور كورونا.
كما أن مصرف لبنان أصدر تعميماً فريداً من نوعه، يدعو المصارف إلى تسليف المؤسسات والشركات والأفراد الذين عليهم قروض متعثرة، المبالغ التي يحتاجونها على مدى ثلاثة أشهر، على أن تكون مدة تسديدها خمس سنوات من دون فائدة، لإعانتها على دفع رواتب موظفيها تفادياً لصرف مزيد منهم وارتفاع نسبة البطالة العالية أصلاً في البلد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أقصى مظاهر السياسة في المشهد اللبناني، الذي يعج عادة بالمشاكسات والمعارك السياسية، سواء المحلية أو التي لها بعد إقليمي، كان تباين المواقف من قرارات الحكومة وفعاليتها، حيث تعتقد الأوساط الطبية المتابعة لتطور عدد الإصابات أن من التقطوا الفيروس بعد إعلان التعبئة العامة قبل 8 أيام ازدادوا بشكل مقلق، ما دفع وزير الصحة نفسه حمد حسن إلى القول إنه يجب عدم التفاؤل أبداً، منبهاً من تكاثر عدد المصابين بشكل يتعذر معه على قدرات القطاع الصحي الاهتمام بهم. والخشية من أن التراخي الذي حصل في تطبيق اللبنانيين تعليمات البقاء في المنازل في الأسبوع الذي تلى 15 مارس وحصول تجمعات، في أماكن عامة سيخلف وراءه إصابات لم تظهر بعد.
وهذا ما دفع رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس لجنة الصحة النيابية الدكتور عاصم عراجي، وجنبلاط و"تيار المستقبل" وقياديون في حزب "القوات اللبنانية" إلى دعوة الحكومة لإعلان حالة الطوارئ ومنع التجول وعدم الاكتفاء بتشديد تدابير التعبئة العامة.
الحكومة لا تعلم ولا تناقش
وسط تراجع السياسة واقتصارها على تفاعلات كورونا، كان الحدث السياسي الوحيد الذي أخذ بعداً على الرغم من الانهماك الرسمي والشعبي بمتابعة الإجراءات المتعلقة باحتمال خروج الوباء عن السيطرة، ما أعلنه الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله رداً على الحملة التي استهدفت الحزب متهمة إياه بغض النظر عن "صفقة ما" أدت إلى الإفراج عن الفاخوري.
وإزاء الضجة التي أثارها الإفراج عن الفاخوري وتولي مروحية عسكرية أميركية نقله إلى قبرص مباشرة من مقر السفارة الأميركية وليس من مطار بيروت الدولي كي لا يمر على دوائر الأمن العام الذي كان سيعيد توقيفه لصدور مذكرة توقيف جديدة في حقه، بقيت حكومة دياب آخر من يعلم بكل تفاصيل استرداد الجانب الأميركي للفاخوري بناءً لطلب شخصي من الرئيس دونالد ترمب. فإخلاؤه تم باتفاقات عقدت بين دوائر الرئاسة اللبنانية وباتصالات مباشرة أجراها الأميركيون مع جهات تولت الإخراج القضائي لإطلاق سرحه. والحكومة أصلاً لا تتعاطى الشؤون السياسية تاركة الأمر للرئيس عون والقوى الأخرى التي كانت وراء تشكيلها، ولا تناقش الوضع السياسي في البلد كما سبق أن أكد أكثر من وزير، بحجة أنها تركز على المعالجات الاقتصادية.
انتقادات نصر الله للأصدقاء
جاءت مقاربة نصر الله بعدما عنفت الانتقادات من كتاب وسياسيين حلفاء للحزب ويدينون بالولاء له، فأفرد حيزاً مهماً من خطابه للرد عليهم مؤكداً أن الحزب لم يخضع للضغوط الأميركية، على الرغم من إشارته إلى الضغوط على الجهات السياسية والقضائية والأمنية والعسكرية التي استمزجت الحزب رأيه في الإفراج عن الفاخوري، فنصح بعدم الخضوع لها. وبدا نصر الله شديد الاستياء من هؤلاء "الأصدقاء" واتهاماتهم للحزب بالتواطؤ مع فريق "التيار الوطني الحر"، فأكد أن "لا القضاء ولا المحكمة العسكرية ولا الجيش ولا الأجهزة الأمنية ولا إدارات الدولة تابعة لحزب الله".
وشدد على أن الحزب "قوة سياسية موجودة في لبنان... وله تأثير، يزيد أحياناً، وينقص أحياناً عن قوى سياسية أخرى وفي المعادلة الداخلية يوجد قوى سياسية تأثيرها أكبر منّا"، في رده على من اتهم الحزب بأن نفوذه كان يسمح له بمنع تهريب الفاخوري في المروحية الأميركية التي أقلته من السفارة إلى قبرص ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ومع إدانته الطريقة التي هرّب الجانب الأميركي الفاخوري، رفض نصر الله الأفكار التي ساقها منتقدوه من نوع أنه كان عليه إسقاط المروحية الأميركية، أو أنه وجب عليه أن يسير تظاهرات إلى السفارة واقتحامها، فاعتبرها ضد المصلحة الوطنية. والبارز قوله إن "الأميركي له نفوذ في لبنان ويوجد قوى سياسية أصلاً تعمل في خدمة الأميركيين، الأميركي دائماً له نفوذ في مؤسسات الدولة منذ مدة طويلة، حتى في زمن الإدارة السورية".
وبصرف النظر عن سجاله مع منتقدي الحزب من "الأصدقاء"، فإن نصر الله ظهر كأنه يتعامل مع الدور الأميركي في لبنان على أنه أمر واقع، ما يعني أنه يكرس نوعاً من التعايش بين نفوذ إيران والنفوذ الأميركي، تحت سقف الصراع المستعر بينهما، تماماً مثلما هي الحال في العراق، حيث تتزاحم طهران وواشنطن على كسب التأثير والدور على السلطة السياسية في البلد، فيؤدي تنافسهما على كسب مزيد من المساحة السياسية أو الوصول إلى صدام أحياناً، أو غض نظر من أحدهما أحياناً أخرى، إلى أن تقضي تسوية ما برسو التوازن على معادلة ما.